تظهر النتائج الكارثيّة التي تفضح التدخّل في عدد من الدول العربيّة، في
حين تَخْفَى الكثيرُ من الأسرار، بحيث أنّ ما يُرى يُوصَف بمجسّم الدولة،
لكنّ ما لا يُرى هو أنّ هذه الدولة تغدو في الجوهر قرية مُسوَّرة، لأنّ من
بعض توهّم القرية، أن تصرّ على الاكتفاء بموجوداتها المتوفّرة، تنقطع عن
العالم الخارجيّ، فتظنّ ظنّاً مخادعاً مضلّلاً، يكمن في شعورها بأنّها
بمَعْزل ومَنْأى عن التغييرات التي قد تجتاح غيرها جرّاء ارتباط
اقتصاديّاتها معها، فتؤثر السلامة المُتوهَّمة، على التغيير المشكوك فيه
من قِبلها، تؤثر ما تزعم بأنّه اكتفاءٌ ذاتيّ، خشية انفتاحٍ من شأنه نشر
التوعية وتعميم المنفعة..
للوقوف على بعض المظاهر التي تعمّ في عدد من الدول التي تُوْقف طاقاتها
كلّها لخدمة المتحكّمين بها، لا بدّ من التمعّن في تركيبة بعض النظم
القائمة، وتفكيك آليّات تعاملها مع مواطنيها، ومع الآخرين، كما لا بدّ من
طرح رؤى معيّنة في محاولة لتبديد بعض الممارسات غير المسؤولة، عساها تساهم
في توجيه الدفّة نحو الانفتاح المأمول، الذي يستحيل أن تقوم لأحدٍ قائمة
من دونه..
القرية المسوَّرة: بداية يكون توصيف الدولة المنطوية على نفسها بـ«القرية المسوَّرة»، حين
ترتضي التقييد لأبنائها، وتتدخّل في كلّ شاردة - صادرة وواردة، تحتكر
المثال في سياساتها وتوجّهاتها، تنظر بعين الارتياب والقصور لأبنائها، حيث
تفرض نوعاً من الحِمائيّة الاستلابيّة، أي الاحتماء عبر التقوقع وإعلان
القطيعة، «لتنعم» في ترف العزلة الخانقة، خوفاً من المواجهة التي تفضح
العري السافر، ثمّ تحجيم الدورة الاقتصاديّة وتقزيم الاقتصاد.. تعظّم
العزلة الخانقة التي تفرضها الدولة على نفسها ومواطنيها، وهي العزلة
المختلفة عن العزلة المثمرة التي قد يفرضها البعض على نفسه في سياق تخطيطه
لإنتاج متفرّد منشود..
تلجأ السلطات في القرى المسوَّرة إلى الضغط على المصدّرين والمستوردين،
وتحديدهم بأشخاص أو مؤسّسات تكون واجهات شكليّة يسيّرها متنفّذون
سلطويّون، يمنعون أيّة حركة مُحتملة، ليكفلوا دوام فوائدهم المتعاظمة، على
حساب الآخرين الذين تتقلّص عائداتهم، لأنّها في تناسب عكسيّ مع السلطة
القامعة. تحضر مركزيّة المشرّع مقابل هامشيّة المبدع وتهميشه، حيث مشيئة
المقرّر تُملَى على المشرّع فيسنّ ما يكفل له مضاعفة عائداته على حساب
القاعدة التي تبقى رازحة في مستنقع مسوَّر بإحكام. يستلب بذلك الإرادة
الحرّة، يحجّر التفكير المنطقيّ، يفسح المجال للعنف كي ينتعش في أجواء
تسودها المكائد والدسائس. تكون المغالطة الاقتصاديّة والتتويه والتمويه
لتأمين غطاء اقتصاديّ متين للهشاشة القائمة. يتصاعد الاحتكام للجانب
الرغبويّ، ترجّح كفّة المصلحة المؤقّتة، ينعدم السماح بإجراء أيّة مفاضلة
مع الماضي أو المستقبل. تبدّد الثروات الوطنيّة تحت شعارات مضخّمة
وتحذيرات مهوّلة، تسعى من خلالها إلى تزكية الأوهام لغضّ الأنظار عن
إخفاقاتها المديدة، وإبداء النتائج الكارثيّة التي تخلّفها على أنّها
تضحيات لا بدّ منها، في حين أنّها خدع مدمّرة، ليس إلّا.. تفضّل التضحية
بالمستقبل، ارتكاناً للحاضر، ارتهاناً للامتيازات والمكتسبات، إلغاءً
للقادم وتعديماً له، تلافياً للتغيير، وتأميناً لاستمرار المَعيش.. تحصر
الخير والشرّ بيدها، تمنع الناس من التجربة التي من شأنها أن تكرّس المراد
أكثر من التلقين أو الإجبار. تلجأ إلى تحديث آليّات الابتزاز، بوسائل
عديدة، ولا تعدم اللجوء إلى تغليف قوانينها وأفعالها بستار من التقديس
المُعتمَد على التأويل الرغبويّ للنصوص المُقدّسة..
إيقاف الاستلاب، قمعُ القمع: لا بدّ من تفكيك منظومة القمع والمنع التي تكفل ديمومة السياسات
التدخّليّة، المرهونة بإرادات المتحكّمين، الموقوفة لخدمتهم، تمهيداً
لتعميم النفع، ليكون بالإمكان استئناف الحياة، وتسيير دفّة العملية نحو
المستقبل، ولا يتأتّى ذلك بسهولة ويسر، إذ تظهر الحاجة ملحّة لوجوب إيقاف
الاستلاب المنظّم الجاري، وقمع القمع الذي يبيح كلّ شيء، ابتداء بالتدخّل،
وليس انتهاء بالتحكّم بخيوط اللعبة وخطوطها كلّها، حيث لا يكون ذلك إلاّ
من خلال التعالي على الأتاوات والجِزى التي من شأنها تخريب بنى المجتمع
المتكاملة فيما بينها، والتي لا يغلب فيها جانب على آخر، لأنّ المجتمع
يفقد قيمة الأشياء التي يتمّ تخريبها جزافاً، ولا يستفيد من تلك الأشياء
التي يتمّ تركيبها على عجل، اعتباطاً أو ارتجالاً، لأنّ فيها تهميشاً
للأفكار الخلاّقة وتقييداً لها، تنتج بذلك خيالاً عقيماً غير منتجٍ، عوضاً
عن خيال فاعلٍ نابشٍ..
كما أنّ إيقاف الاستلاب يرسّخ عقيدة الحرّيّة، ويجبر السلطة المتحكّمة على
إيلاء الأهمّيّة للقناعة الراسخة التي تؤكّد أنّ المجتمع الحرّ مجتمع فاعل
متفاعل، مؤثّر متأثّر، يطهّر نفسه بنفسه، متسامٍ على صغائر الأمور، غير
متهرّب من استحقاقات المراحل عليه..
كما لا يخفى أنّ دورة الاقتصاد شاملة كاملة، لا تستثني أيّ قطاع من
التأثير والتأثّر، ذلك أنّ للاقتصاد الذراع الطولى في كلّ مكان، ومن هنا
فإنّ حصره واقتصاره على جهة بعينها، مهما زعمت هذه الجهة قداسة أو
مصداقيّة أو أحقّيّة ما، يدفع به إلى الهاوية المحتّمة رويداً رويداً. ومن
هنا فإنّ تحرير الحدود الاقتصاديّة لا يشترط اجتراحَ المعجزات، بل يستلزم
وجود إرادة حرّة مسؤولة، ترفض الاختزال، تقطع الطريق على أيٍّ كان ليصرّح
بأنّه المخوّل الوحيد والأدرى، تمهيداً لاحتكار كلّ ما تنطوي عليه العملية
معنىً ومبنىً. ولا بدّ من زرع الثقة بالنفوس، لتمكين الانفتاح، وتحرير
الطاقات، ثمّ سنّ وتشريع قوانين انفتاحيّة بدلاً من التركيز على استصدار
قوانين حِمائيّة للسلطة، التي يكون في الانغلاق راحة لها وهناءة، وفي
الانفتاح إقلاق لسباتها المزمن، فتصادر باسم القانون الحقوقَ، تضفي
مشروعيّة على النهب المُمَنْهَج، حيث تُلوَى أعناق المبدعين أو الراغبين
في المحاولة بدلاً من تطويع الطاقات لخدمتهم، يكون ذلك على حساب الإفقار
العامّ، الذي من شأنه حرمان الجميع من أيّة فوائد مرجوّة، تحت ذرائع وحجج
غير مقنعة..
لا شكّ أنّ الحرّيّة تلقي بظلالها وتأثيراتها على مختلف جوانب الحياة التي
تثرى تلقاءً حين تجد أرضاً خصبة ملائمة، لأنّ الاقتصاد السليم المتجاوز لا
ينبني إلّا وفق أسس سليمة، وهذه الأسس لا تكون عبر قرارات غير مسؤولة، بل
تكون عبر إطلاق المجال للطاقات الخلاّقة كي تبتدع أساليبها، وتحرّر القيود
والحدود، لتعمّ شموليّة النفع لا شموليّة القمع، لتسود شموليّة الحرّيّة
وتوسّع آفاقها عوضاً عن تعميم القيود وتضييق حدودها. يتمّ حينذاك فضح
الشعار الواهم القائل بأنّ القناعة كنز لا يفنى، لأنّه يغلق السبيل أمام
الإبداع الحرّ، ويكون وسيلة لإبقاء ما هو قائم وإدامته، ليرفع بدلاً عنه
شعار القناعة بالقليل كنز يفنى طالما هناك إمكانيّة ورغبة وقدرة وعمل..
يتوضّح، نتيجة سياسات التدخّل المُهلكة، أنّ في التدخّل تحجيراً للمتحوّل،
وخلخلة للأسس، وأنّ ما يُرى يشير إلى أنّ هناك هياكلَ كيانات، في حين أنّ
ما لا يُرى يؤكّد أنّ هذه الهياكل ليست إلاّ مجسّمات قرى مُحاصَرة من
داخلها في الجوهر.