ليبيا هي الاختبار (الخارجي) الأول لإدارة
أميركية من توقيع باراك أوباما. الرئيس الأميركي، الذي رفع لواء
الدبلوماسية منذ اليوم الأول، يقف حالياً أمام حرب عسكرية بين دكتاتور
وثوّار يرفعون راية «الحرية والديموقراطية» (سيناريو نموذجي لتدخّل عسكري
أميركي عادةً)، فكيف يتصرّف؟ هو ليس جورج دبليو بوش ليتدخّل حتى قبل أن
تنشب المعارك ويفتعل حرباً أو ليقود هجوماً أحادياً على النظام الليبي من
دون قرار من الأمم المتحدة. وهو ليس بيل كلينتون ليقف متفرّجاً على المجازر
تقع أمام أعين العالم، ثم يتدخّل بعد فوات الأوان. لكنه في الوقت نفسه،
رئيس أقوى سلطة في العالم والمدافع الأول عن الديموقراطية، ورمز صورة
أميركا «القادرة»، فبأي وجه سيظهر باراك أوباما على العالم في أول أزمة
عسكرية خارج حدوده وأيّ سلاح سيستخدم؟ حتى الآن، الدبلوماسية وسياسة الضغط
من خلف الكواليس هما سيّدتا الموقف، فهل ينجح «رئيس التغيير» بخطته هذه؟
وهل نشهد فعلياً على أول «عدم تدخّل» عسكري أميركي في إحدى ساحات الحرب
المفتوحة؟
في الولايات المتحدة الأميركية خشية وانقسام في الرأي. خشية يتشارك فيها
مؤيّدو الرئيس (ولو بصوت منخفض) مع معارضيه، وهي تتمحور حول النتائج غير
المضمونة لغاية الآن، ومصير النهج الأميركي الجديد في التعاطي مع أزمات
دولية كأزمة ليبيا. ماذا لو فشلت خطّة أوباما وارتدّت النتائج السلبية على
البلاد؟ تراجع سياسي لا تستطيع الولايات المتحدة تحمّله بعد تراجعها
اقتصادياً ومالياً وعسكرياً في السنوات الأخيرة.
الخشية ارتفعت إلى مستوى التهويل عند معارضي الرئيس الذين عبّروا عن غضب
وحنق وسخط على صمت أوباما وبرودة ردّ فعل الإدراة الاميركية. لمؤيّدي
أوباما نظريّة واضحة: لا يمكننا التدخّل عسكرياً في ليبيا وفتح جبهة ثالثة
الى جانب العراق وأفغانستان، وتكبّد خسائر بشرية ومادية أخرى وزيادة تشويه
صورة البلاد في هذه المنطقة من العالم. لكنهم يوضحون أن البيت الأبيض
ووزارة الخارجية يعملان بجهد في الكواليس (دبلوماسياً) بغية الخروج بحلول
دولية مناسبة لأزمة ليبيا. «الرئيس راض عن ترك الدول الأخرى تبحث علناً عن
حلول للأزمة الليبية»، يقول أحد مستشاري أوباما لصحيفة «واشنطن بوست».
والرئيس يعبّر صراحة عن سروره من «التمكّن من إصدار أقوى وأسرع عقوبات
دولية» بحق الرئيس معمر القذافي، إضافة إلى فرض حصار على السلاح. وزير
الدفاع روبرت غيتس يحكي عن «صعوبات كثيرة» تواجه إصدار فرض حظر جوّي على
ليبيا. وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون تشير إلى «ضرورة أن تصدر كل القرارات
عن الأمم المتحدة، الحظر الجوي ضمناً، لكن عوائق عديدة لا تزال تواجهنا في
مجلس الأمن». أما رئيس موظفي البيت الأبيض فينتقد مَن يطالب بالحظر الجوي
«وكأنه يريد أن يشارك في لعبة فيديو».
من لم تُغظه هذه التصريحات الرسمية يبرر تصرّف الإدارة هذا بكونها «لا تعرف
جيّداً من هم الثوّار الليبيون، وليس لديها أي تصوّر عن النظام الذي قد
يحلّ محلّ القذافي». «هذا هو تصوّر أوباما لدور أميركا في العالم. هي
الاستراتيجية التعددية، أي إشراك أكثر من جهة في بلورة الحلول والابتعاد عن
التدخل الأحادي»، يلخّص نائب مستشار الأمن القومي لـ«واشنطن بوست».
المحلّل في «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» أنطوني كوردسمان يرى أنه
«في كلّ أزمة سيُطلب من الولايات المتحدة أن تأخذ المبادرة الفورية. لكن
هذا ليس دائماً عملاً صحيحاً».
أن لا تأخذ الولايات المتحدة المبادرة والفعل هو تحديداً ما أثار غضب
منتقدي الإدارة الأميركية وحنقهم.
الجمهوريون، والمحافظون والمحللون اليمينيون لا يمكنهم أن يتصوّروا جبهة لا
تقودها أميركا. هم لا يتقبّلون ألّا تتدخل إدارتهم عسكرياً في ليبيا، أو
على الأقلّ ألّا تمدّ الثوار بالسلاح. كذلك لم «يهضموا» مثلاً واقعة أن
يدعو الرئيس الاميركي إلى «رحيل القذافي» بعد الرئيس الفرنسي وليس قبله.
«أرى خجلاً مبالغاً فيه من إدارة أوباما»، يقول إليوت أبرامز، مدير مجلس
الأمن القومي في عهد جورج دبليو بوش، ويتابع «التصرفات الأميركية لغاية
الآن تشير إلى أن الإدارة لم تقرّر بعد ما تريد أن تفعل حيال ليبيا».
المعارضون لسياسة أوباما يشرحون أن الإدراة الأميركية بعثت رسائل مزدوجة
للقذافي وللعالم، فهي طالبت برحيله الفوري وفي الوقت نفسه ضغطت لإصدار قرار
دولي بملاحقته إذا خرج من ليبيا. الأمر ذاته ينطبق على التسليح، إذ إن
الإدراة الأميركية «تذرّعت» بقرار الحصار الدولي لتقول إن السلاح ممنوع من
الدخول إلى ليبيا... حتى إلى الثوار. إذاً، يستنتج المنتقدون أن أوباما
انتهج سياسة تقوّي القذافي، لكونه المسيطر على الجيش، وتُضعف الثوار لكونهم
غير مزوّدين بالسلاح، وهو ما سيؤدي حتماً إلى استمرار القذافي بالسيطرة
على مجريات الأمور وسحق الثوار. «رئيس ضعيف. إدارة حائرة ومسؤولون جاهلون»،
صفات يجمع عليها المعارضون اليوم. حتى إن مدير مكتب «هيومن رايتس واتش» في
واشنطن توم مالينوسكي يرى «أن الإدارة الأميركية، بسياستها هذه، كأنها
تقول للطغاة الباقين إن في استطاعتهم استخدام العنف للبقاء في السلطة».