أثارت الكلمة التي ألقاها سيف الإسلام القذافي، ليل الأحد ـــــ الاثنين،
العديد من التساؤلات بشأن ما ورد فيها من تهديدات مبطَّنة وصريحة، رأى فيها
المتابعون للشأن الليبي بداية خيار «الجحيم» بالنسبة إلى النظام الذي
طوّقته موجة المدّ البشري من مختلف أنحاء الجماهيرية، مع السقوط المتتالي
لمدن وقصبات عديدة بيد المتظاهرين في برقة، وامتداد العدوى إلى الغرب
وفزّان.
كلمة نجل العقيد معمر القذافي كانت واضحة في تهديدها بالاحتكام إلى السلاح،
لكنها أيضاً كانت مبطّنة من ناحية التهديد بالانقسام والتواجه القبلي، ذلك
أن تركيبة المجتمع الليبي العشائرية تجعل منه محطّ أنظار الجميع، وخصوصاً
لناحية التوازن القائم منذ عشرات السنين بين القبائل الكبرى، وهو ما أمّن
استمراريّة النظام لعقود طويلة، والذي يتوقع الجميع اليوم أن يكون عامل حسم
في إطاحته.
وقد أشار العديد من شهود العيان وعناصر المعارضة والناشطين السياسيين، خلال
مداخلاتهم على الفضائيات، إلى انضمام العديد من القبائل الكبرى المعروفة،
على غرار ورفلّة والزنتان إلى الثورة. وإذا صحّت هذه الأنباء، فإنّ المسألة
تكون قد أخذت منعطفاً حاسماً، إذ إن التوازن القبلي تقابله أيضاً أحقاد
تاريخية لا يمكن في حال من الأحوال أن تجعله يمرّ بسهولة. فالغرب الليبي
الذي يمتد من طرابلس حتى الحدود التونسية شمالاً وغدامس جنوباً، والذي هو
مخزن الرجال ومركز ثقل التأييد للقذافي، يبدو اليوم منقسماً على نفسه،
وتحديداً مع انضمام قبيلة الزنتان التي تقطن الجبل الغربي إلى الثورة.
انضمام يقابله بقاء غريمتها التقليدية، أي «الرياينة» على ولائها للنظام.
كذلك فإنّ باقي مكوِّنات الجبل الغربي، وخصوصاً قبائل «الصيعان» و«الحوامد»
و«النوايل»، وهي من القبائل العربية، تُضاف إليها مناطق مصراطة ووازن
وكاباو والبدر وتيجي، وهي مدن أمازيغية، على الولاء للقذافي، رغم ما جاهرت
به منذ وقت طويل من شعور بالغبن مقارنةً مع قبائل الوسط المتاخمة لمدينة
سرت ولخليجها، حيث الثقل الحقيقي للنظام. وفي تلك المنطقة، تعيش قبائل
المقارحة والقذاذفة، التي وُلد النظام من رحمها، والتي كان لها الفضل
الكبير في احتضان السلطة والمحافظة عليها طيلة أكثر من أربعة عقود.
ولا شكّ في أنّ عامل التوزُّع الإقليمي لقبائل ليبيا سيكون حاسماً،
استناداً إلى ما ذكره سيف الإسلام في كلمته: «حتى إحنا عندنا سلاحنا وعندنا
قبائلنا...».
والمتأمِّل في تاريخ ليبيا وتقسيمها الجغرافي، يدرك من دون شكّ ما اتسم به
هذا التاريخ من صراع بين الشرق والغرب. فـ«الشراقة»، أو سكان إمارة برقة
القديمة، التي تمتد من حدود مصر شرقاً إلى مشارف خليج سرت غرباً، عُرف
أهلها بتمدّنهم وثقافتهم مقارنةً بالغرب وبفزّان. وهؤلاء من المناصرين
للملك إدريس السنوسي، ويرون أنّ الانقلاب عليه من قبل العقيد القذافي مثّل
ضربة لهم، وتكريساً لوجود يعدّه المغالون منهم «استعماراً للغرابة» (أهل
الغرب) المنحدرين من المنطقة الوسطى والغربية.
وإضافة إلى إقليمي الغرب وبرقة، يحتل إقليم فزّان الجزء الأكبر والأهم من
خريطة ليبيا، حيث يمتد من الحمادة الحمراء إلى تخوم النيجر ومالي وتشاد،
ويحدّه جنوباً شريط أوزو وحدود السودان، ويحتوي تركيبة قبلية وعرقية
متنوعة؛ فإضافة إلى قبائل المحاميد العربية، تقطن هذه المنطقة أيضاً قبائل
التبو، وهي من أصول غير عربية، ويتمركز أفرادها خصوصاً في القطرون وواحة
الكفرة ونواحي سبها إلى حدود السودان. وتؤكّد تقارير أن هؤلاء انضموا إلى
الثورة منذ اليوم الأول لانطلاقتها، وأغلقوا حدود ليبيا مع السودان وتشاد،
علماً بأن «الطوارق» يعيشون في إقليم فزّان نفسه، وعاصمتهم التاريخية
غدامس، ويتمركزون تحديداً في مرزق وغات، ولهم امتداداتهم في جميع أرجاء
الصحراء الكبرى. ويبدو أن ولاء الطوارق لا يزال لمصلحة القذافي، لأسباب
عديدة، منها أنهم يعدّون أنفسهم من أصحاب النفوذ في الحكم، مع وجود العقيد
حمّاد، قائد الاستخبارات العسكرية، والمقرّب جداً من سيف الإسلام.
أما إلى الشرق الشمالي، فتستوطن قبائل «أولاد علي» على طول الحدود مع مصر،
وتتداخل مع القبائل المصرية المستوطنة لواحة سيوة والصحراء المتاخمة لمرسى
مطروح، وهي قبائل عربية من الشراقة الموالين بطبيعتهم لأبناء عمومتهم في
بنغازي. أما الوسط لناحية الشمال، فيحتوي على قبيلتين نافذتين وقويتين هما:
القذاذفة والمقارحة، اللتان تنافستا على السلطة والحكم طيلة العصر
الجماهيري، وتقاسمتا الثروة والمناصب والامتيازات، ويبدو أنهما ستشتبكان في
ما بينهما نظراً إلى الأحقاد التاريخية، وخصوصاً بعد الفصل المذلّ الذي
اختتم به الرجل الثاني في الثورة، عبد السلام أحمد جلود المقراحي حياته،
والذي رأت فيه قبيلة المقارحة إهانة لها وتنكّراً لفضلها على القذافي
ونظامه.
باختصار، يمكن القول إن النظام يتمترس حالياً بين قبائل القذاذفة في سرت،
والصيعان والحوامد في الغرب، والطوارق والمحاميد في الجنوب، بينما يتمركز
الثائرون وراء أكبر وأهم القبائل في الوسط والشرق، وهي ورفلة، والزنتان
وأمازيغ زوارة والجبل والغربي والتبو في الجنوب، وأولاد علي في الشرق.
وبذلك، فإنّ الصراع إذا ما تحوّل إلى تصفية حسابات قبلية، فإنه سيأكل
الأخضر واليابس فعلاً، بحيث يقضي على الثروة النفطية الليبية التي يتركّز
أكثرها في سرت والصحراء الجنوبية.