قبل أن تصل الثورة إلى المغرب سبقها البلطجية، وهذه المرة ليس على ظهور
الخيل أو سنام الجمال كما حصل في ميدان التحرير في قلب القاهرة، وإنما على
سنان الأقلام.
فقد انبرت مجموعة من الأقلام المشبوهة منذ أن بدأ الحديث عن احتمال
انتقال العدوى إلى دول عربية ومن بينها المغرب، لكيل السباب والشتيمة لكل
من يحاول أن يخرج عن "مسألة الإجماع" الذي تحاول السلطة أن تفرضه عندنا
عندما يتعلق الأمر بالمس بما تسميه بالخصوصية أو الاستثناء المغربي.
فقد تابعنا خلال أسبوعين حملة ممنهجة على صفحات بعض الصحف تحاول التنكيل
بكل من يريد أن يرفع صوتا مخالفا للرأي الذي تردده وسائل الإعلام الرسمية
وشبه الرسمية والذي يقول بأن المغرب من بين كل دول المنطقة يبقى محصنا عن
كل تغيير. والقاسم المشترك بين أصحاب هذه الأصوات المناهضة للتغيير، هي
أنها تغمس أقلامها من نفس المحبرة، لذلك تكاد كلماتها وأحرفها تتشابه حد
النقط والفواصل...
نفس الشيء تكرر قبل ذلك في مصر وقبلها في تونس، حيث كان النظام يوحي إلى
مجموعة من الكتبة للتنكيل بمعارضيه من خلال النيل من أعرضهم والتلصص على
حياتهم الشخصية.
وبعد سقوط نظام زين العابدين بن علي، تابع ملايين التونسيين على شاشة
"هنيبعل" كيف جاء صحافيون محسوبون على النظام البائد وهم يتباكون أمام
المشاهدين لطلب الصفح عما اقترفته ألسنتهم وأقلامهم المأجورة. وكم
علي أنوزلا
كانت
كلمات الصحفي صلاح الدين الجورشي، الذي ظل صامدا مثل الطود لا يتزحزح عن
مبادئه طيلة حكم بن علي، مؤلمة عندما قال بأن أكثر ما كان يحز في نفسه هو
إقدام بعض تلك الأقلام المأجورة على نهش أعراض الناس بخسة ودناءة... وقبيل
سقوط نظام مبارك، وعندما أيقن الجميع بأنه آيل إلى زوال، حاول أحد صحافيي
النظام السابق في مصر، هو عمرو أديب، أن يستغل الفرصة بنذالة فنزل إلى
ميدان التحرير ليطهر نفسه من أدران الدفاع عن نظام فاسد، وقد رأينا كيف
هاجمه الثوار وطردوه خارج الميدان، وهو الذي كان يصفهم بأقذع الأوصاف طيلة
أيام اعتصامهم من أجل إسقاط النظام، بل وذهب إلى حد التنكيت عليهم بسخرية
فجة عندما قال بأنهم إنما يستمرون في الاعتصام من أجل الحصول على
"ساندويتشات كينتاكي..".
وفي استغلال دنيء لموقعه كمنشط برنامج في القناة التي يعمل بها، ظهر
عمرو أديب وهو يتباكى ليكسب عطف المشاهدين، ومثلما كان صغيرا في عهد النظام
الذي كان أحد أبواقه، بدا دنيئا وخسيسا وهو يصف نفسه بالجبان، ليروي
لمشاهديه كيف كان أسياده يصفونه بالكلب والنذل، وهو يتقبل مثل هذه الصفات
في صمت، بل وينصب نفسه مدافعا شرسا عن كل من كان يجرؤ على انتقاد أولياء
نعمته.
أمثال هؤلاء من ضعاف النفوس موجودون في كل الأوطان، وفي كل الأزمان. ولن
يشكل المغرب في مثل هذه الحالة الاستثناء. ومن تابع الصحف الصادرة هذه
الأيام سيجد كيف أنها تتحامل على الشباب الذي دعا إلى الاحتجاج يوم 20
فبراير من أجل المطالبة بالحرية والكرامة والديمقراطية، ففي البداية
اتهمتهم هذه الصحف ومن يقف وراءها بأنهم أصحاب أجندة أجنبية تقف ورائها
الجزائر والبوليساريو، من أجل زعزعة استقرار البلاد. وعندما كذب الشباب هذه
الفرية، لجأت الجهات المخابراتية التي تريد إجهاض هذه الحركة التغييرية،
إلى اتهام أصحابها بأنهم شباب منحلون، ووزعت لبعضهم صورا شخصية وجدت طريقها
للنشر على صدر صحف يومية. و من أجل تأليب الشارع المحافظ ضدهم، تم اتهامهم
بأنهم متمسحين... والاتهامات الآتية لا يمكن التكهن بها، إلا أنها لن تخرج
عن منطق المخابرات الذي رأينا كيف سقط نموذجه في مصر وقبل ذلك في تونس.
فقد كانت الصحف الرسمية والإعلام الخاص شبه الرسمي المصري، يصف الشهيد
خالد سعيد بأنه "حشاش" واتهم حتى بعد وفاته بحيازته للمخدرات ليحفظ الملف.
لكن الوفاة البشعة لهذا الشاب على يد قوات الأمن في الإسكندرية قبل ثمانية
أشهر، ستتحول إلى الشرارة التي فجرت الثورة المصرية، عندما قام شاب يدعى
وائل غنيم بفتح صفحة على موقع الـ"فيسبوك" تحمل عنوان "كلنا خالد سعيد"،
فكانت بمثابة الخلية السرية التي خططت للثورة التي أسقطت النظام.
أهم ما قامت به الثورتان التونسية والمصرية، هو عملية الفرز داخل
الأوساط الصحفية والإعلامية، عندما سقطت الأقنعة وتطايرت أوراق التوت التي
كشفت عن كثير من العورات التي انفضح أصحابها. فقد تابعنا كيف قامت قنوات
تلفزية وصحف كبيرة بتغيير ولائها بين عشية وضحاها، ورأينا كيف تحول
"مذيعون" كانوا أبواق للنظام إلى "ثوار" يزايدون على الثوار، وكيف قام
"كتبة" بتحويل أقلامهم من كتف إلى كتف مثل مرتزقة محترفين... لذلك لا ينبغي
أن نلتفت كثيرا إلى كل الأصوات التي تحاول اليوم أن تحدث الكثير من الضجيج
من أجل التشويش على الأصوات الآتية من عمق التاريخ... أصوات الحرية
والكرامة...