لا يزال المصريون يحتفلون بالانتصار في الميدان (غوران توماسيفيتش ــ رويترز)
الديموقراطية، هذه الكلمة السحرية لا تزال غريبة في العالم العربي، ليس
لأنّ الشعوب العربية لم تنضج لاستقبالها، كما زعم نائب الرئيس المصري عمر
سليمان، بل لأنّ الغرب، أصلاً، لا يريد للعرب الديموقراطية. وإذا كان الغرب
حريصاً على التشدق بهذه الوصفة، التي ليس، حتى الساعة، من وصفة أفضل وأكثر
سحرية منها، فهو لا يريدها للعالم العربي، على عكس ما يروّج، وإلا فكيف
قَبِل الدخول في صداقات حميمية مع نظامي مبارك وبن علي، مع علمه بسجلهما
الدموي، وفسادهما ونفورهما الشديد من الديموقراطية وتقاسم السلطة،
واحتقارهما الأشد لشعبيهما؟
كان الغرب يُبرّر الأمر بأنّ الديموقراطية في العالمين العربي والإسلامي
يمكنها أن تأتي بأصوليين إلى الحكم، وبالتالي بدء صراع حضارات وصراع
ديانات. إذاً، كانت فزّاعة الإسلاميين سبباً رئيساً في تأييد الغرب لكلّ
الديكتاتوريات العسكرية في العالمين العربي والإسلامي. كذلك فإنّ الغرب
وأيديولوجييه أنتجوا أدبيات زاخرة تتحدث عن قوة الحركات الإسلامية، وتعمّم
عداءها المَرَضيّ للغرب وأنماط حياته، وكذلك رغبتها في ضرب مصالحه وإخراجه
النهائي من العالمين العربي والإسلامي. وقد استغلّت الديكتاتوريات العربية
الأمر، فقدّمتْ خدماتها للغرب على هذه الطريقة، على أنها هي القادرة على
وقف تحوّل الإسلام إلى سلاح هجومي على الغرب. ولعل البرقيات التي حملها
«ويكيليكس» عن اعترافات قادة عرب أمام دبلوماسيين غربيين صغار بالخطر
الإسلامي، تثير القرف، بسبب نفاقها وكذبها. فها هو الرئيس مبارك المتهاوي
يصرح للمسؤول الصهيوني ديفيد بن إليعازر عن تخوفه من سيطرة الإخوان
المسلمين على الحكم في برّ مصر. كذلك فعل الجنرال عمر سليمان خلال تاريخه
المشين في الاستخبارات. ولعل مؤتمر القمة العالمي في شرم الشيخ، المخصص
لمحاربة ما يسمى الإرهاب، دليل على الخنوع العربي الرسمي للإملاءات
الأميركية والغربية وللتفسير الغربي لمفهوم الإرهاب.
إنّ الجماهير العربية ونخبها المتنورة، لا تلك الملوثة بتقديم النصح للقادة
العرب، تريد بالفعل الارتقاء إلى الديموقراطية الحقيقية، كما تُمارَس في
الغرب. ولأنّ العالم أصبح قرية كونية، بسبب العولمة، وكل ما أتت به من
وسائل إعلام واتصالات، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يبقى العرب على
الهامش. لا يمكن الشبيبة العربية أن تتفرج على الحرية من دون أن تعبّر عن
رغبتها في تذوقها. الشباب العربي يسافر ويرى، وهو قد شبّ عن الطوق، ولم
يَعُد يُريد أن يظل مشدوداً بين نظرة أصولية تكفيرية ماضوية، وبين أنظمة
ثيوقراطية (دينية) وديكتاتورية وشمولية. الشبيبة العربية، من المحيط
الأطلسي إلى الخليج العربي، ترى، حقاً، الخلاص في الديموقراطية، لكن
الديموقراطية الحقيقية، كما تمارسها شبيبة الغرب، لا بوصفها حقل اختبار
لنظريات أيديولوجيي الغرب ومسؤوليه الأمنيين والاستراتيجيين. وقد جاءت
الثورتان التونسية والمصرية (ولعل ثورات أخرى قادمة)، لتمنحا هذه الشبيبة
الإصرار والتصميم على ضرورة الوصول إلى الديموقراطية، وأيضاً لتفضح مسؤولي
الغرب المنافقين والضالعين في الجريمة. جريمة شهادة الزور وحماية وكلائهم
المسلطين على رقاب مواطني العالم العربي.
كان بن علي أكثر زعيم عربي يحرص على إظهار تهتكه وعلمانيته (وها هو الآن في
أرض الحرَمَيْن، فلعله يتعلم هناك قراءة الفاتحة!)، ويهدد الغرب بأنّه
الوحيد، الأوحد، الذي يستطيع منع الأصوليين من الوُصول إلى السلطة. وغض
الغرب الطرف عن كلّ تجاوزات الديكتاتور التونسي وسرقاته، مع زوجته ليلى
وحاشيته، لثروات البلاد والعباد (بل كان الساسة الغربيون يستمتعون بأريحية
بن علي وحاشيته). لكن، لما جاءت الثورة وكنسته، لم يبدُ أيُّ وُجود قوي
للإسلاميين، الذين طالما أثاروا خشية الغرب (عن جهل حيناً، وعن تهويل،
حيناً آخر، وعن خداع، أحياناً أخرى). بل إنّ الإسلاميين، وخصوصاً حركة
النهضة، اعترفوا بأنّهم لا يمتلكون القوة التي تُنسَب إليهم، وذكّروا الغرب
بأنّ مئات من أعضائهم كانوا ضيوفاً ولاجئين في بلدانه، وقدموا ضمانة للغرب
بأنّهم لن يقدّموا أي مرشح لهم لرئاسة الجمهورية. بدأ الغرب يكتشف، في
المثال التونسي، أنّ الديكتاتور كان يكذبُ، وأنّ الدول الغربية كانت
متواطئة، طوال هذه الفترة. لكن أهم شيء اكتشفه هذا الغرب هو أنّ الثورة
التونسية هي ثورة شبابية عصرية، تقدم مطالب لا يمكن أحداً أن يكتشف فيها
ملامح عدوانية وهجومية. الشباب يريد أن يتنفس ويسافر ويشتغل بحرية.
ولا يختلف المثال المصري عن نظيره التونسي. فالرئيس الديكتاتور المتربع على
السلطة منذ ثلاثين سنة، سرق، مع زوجته وحاشيته، ثروات مصر، وقدم نفسه إلى
الغرب قاصماً لكل الحركات الإسلامية، من الإخوان المسلمين في مصر إلى حركة
حماس في غزة وحزب الله في لبنان. ها هو الغرب يواجه لحظة حرجة ولا يستطيع
الدفاع عن هذا الوكيل، رغم كلّ خدماته، لأميركا والغرب وإسرائيل. ولم تعد
الفزّاعة الإسلامية تخيف الغرب. وبدأ العالم الغربي يتواصَلُ مع الحركات
الإسلامية، وخاصة مع الإخوان المسلمين. وأخذ يكتشف أنّهم على الرغم من
تكرارهم الببّغائي لجملة «الإسلام هو الحل»، راغبون في السلطة. ولعل لقاءهم
السريع مع الجنرال عمر سليمان، في ما سُميَّ الحوار، دليل على رغبتهم في
اعتراف السلطة المصرية بهم، حتى وإن كانت لا شرعية. ولعلهم بلغة الربح
والخسارة، قد رَبِحوا اعترافاً رسمياً كانوا ينتظرونه، بعد طول سنوات من
القمع والاعتقالات وحتى القتل. ولعل المراقبين، الذين يتأملون تظاهرات ساحة
التحرير، أو ساحة الشهداء، يرون غياب الشعارات الإسلامية. شعارات كان
ينتظرها الغربيون من أجل تشويه هذه الثورة، التي طالَت أحد وكلائهم
الأوفياء ورجالاتهم في الشرق الأوسط. إنّ المطالب التي يعبّر عنها شباب
التحرير، لا تختلف عن مطالب أي بلد في العالم، أي الحرية والديموقراطية
والعمل. وليس غريباً أن تنتقل هذه الحركة إلى عدد كبير من الدول. ولم يَجد
شباب الإخوان، بعد الانتقادات التي وُجّهت إليهم بسبب لقائهم مع الجنرال
عمر سليمان، من تأكيدهم على رفضهم لأيّ حوار مع السلطة، وانسجامهم مع مطالب
شباب ساحة التحرير. ومثلما فعل الإسلاميون في تونس، قرّر الإخوان المسلمون
عدم تقديم مرشح لهم في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وأكدوا أنّهم ليسوا
بالقوة التي يمنحها البعض لهم، وأعلنوا احترامهم لحكومة مدنية وديموقراطية
شعارها التداول السلمي للسلطة.
لا يمكن في مثل الظروف أن يغض الغرب المدافع عن إسرائيل (من بينهم رئيس حلف
الناتو الذي هرع لزيارة تل أبيب) الطرف عن حقيقة هذه الثورات. ومن هنا
يمكن تفسير تخبّط الخطابات الغربية، التي أشْكل عليها الأمر: هي تريد
الثورة لهؤلاء الشباب لكنّها تخاف من خياراتها المستقبلية، وتريد
الديموقراطية التي يطالب بها هؤلاء الشباب، لكنّها تخشى أن تحمل
الديموقراطية منْ يرفُض وجود كيان صهيوني في أرض عربية. هنا تناقض الغرب.
الديموقراطية ولكن! ولعل ألان فينكلكروت، المفكر الصهيوني الفرنسي، كان
واضحاً في شرح الأمر، إذْ عبّر عن قلقه الشديد من رؤيته جموع مصر وهي تنادي
بالحرية والديموقراطية، وفي الآن نفسه تلبّي نداء الصلاة (في خلط لم يتوقف
منذ القرون الوسطى بين الإسلام بما هو ممارسة تعبّديّة، والإسلاموية بما
هي توجُّه أيديولوجي وسياسي).