قد
يكون إسلام الكثير من المصريين، من النوع الذي يجوز أن يطلق عليه "الإسلام
البسيط". أي ذلك الذي يعمل فيه الإنسان بروح الإسلام، دون إيجاد ضرورة ملحة
للتفقّه أو التماس الفرق بين حنفي وحنبلي أو أشعري واسماعيلي الخ. في مصر
لا تلغي ممارسة الطقوس الحاجة الى الفرح والرقص والضحك وإقامة الأعراس
والغناء.
ليس الأمر حصيلة عملية حسابية، على ما يعشق محبو الأرقام والنسب المئوية في
لبنان. لكنه نتيجة الانطباع الأول، الذي تركته مشاهد وصور المنتفضين في ما
أطلقوا عليه "جمعة الرحيل". يوم الجمعة الذي يحظى برمزية وقدسية كرسهما
القرآن الكريم منذ فجر الإسلام: "يا أيها الذين امنوا اذا نودي للصلاة من
يوم الجمعة فسعوا الى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون".
ويوم الجمعة أيضاً، الذي يجتمع فيه المسلمون لتأدية صلاة الجماعة، هو أحد
أوجه تعبيراتهم المختلفة عن هويتهم الدينية والاجتماعية. هذه الهوية التي
أضحت في جزء منها مقرونة بصفة العنف الجذري اثر حادثة الحادي عشر من
سبتمبر، أثارت ردود فعل تأرجحت بين المتطوعين لنزع هذه الصفة عن الإسلام،
وبين مسلمين آخرين، غذت سطوة الغرب على بلادهم أطروحاتهم التكفيرية، حتى
أعلنوا حربهم على الغرب "الصليبي" واستطراداً على من يدينون بالمسيحية.
هكذا استتب الخوف بمسيحيي الشرق من إسلام يمارس العنف بحقهم ويدفعهم خارج
أرضهم. لكن الصورة كانت غيرها في مصر، خصوصاً بعد جولات وصولات من
الاشتباكات بين المسلمين والمسيحيين في السنوات الأخيرة هناك، وصولاً إلى
انطلاق الدعوة القبطية القديمة أخيراً والمتمثلة بحق الاقباط في ما يشبه
الحكم الذاتي. فمشهد الدروع البشرية التي شكلها مسيحيون لحماية المصلين
المسلمين من بلطجية نظام مبارك يوم "جمعة الرحيل" يحمل دلالات عديدة.
أولها، أن النضال لتحقيق العدالة الاجتماعية لا يستقيم الا بتكاتف كل أطياف
الشعب، وهو يعني بطبيعة الحال استبعاد كل ما من شأنه الحؤول دون ذلك، من
الشعارات التي تستدرج كل أشكال العنصرية والتفرقة الدينية والثقافية
والعرقية. ثانيها، إعادة الصفة الاعتبارية الى" الشعب" ودوره ومكانته
وسلطته بعدما كان مدرجاً مع صعود الخطاب الإسلامي تحت مسمى الأمة
الاسلامية. ثالثها، أن بإمكان الدين أيضا أن يغذي بذور الانتفاض على الحاكم
الظالم والدولة المستبدة، بخلاف بعض المدارس الفقهية التي أخذت على عاتقها
(ولأسباب مرتبطة تاريخياً بظروف قيامها وبقائها) تحريم الخروج على الحاكم
بصفته "أمير المؤمنين" (وهو موقف جزء يسير من الحركة السلفية في مصر).
ليس أسوأ ما أصبح عليه الأزهر، من مؤسسة دينية عريقة، إلى أخرى لا شاغل
للعاملين فيها سوى إغراق المسلمين بفتاوى التحليل والتحريم (آخرها الفتوى
الشهيرة بإرضاع الكبير والتي أثارت موجة من البلبلة)، وأن تعمل كإحدى أدوات
النظام. هكذا أعرب شيخ الازهر، أحمد الطيّب، في معرض ادانته لموقف ايران
من الانتفاضة المصرية بأنها "تستخدم مرجعيتها الدينية العليا وتسخرها
لتصدير النداءات التي تتناقض مع مبادئ الإسلام وتخرج خروجا سافرا على صريح
القرآن والسنة وإجماع الأمة".
بغض النظر عن مساوئ النظام الإيراني (حيث الاستبداد بمظلة دينية) إضافة إلى
الرأي القائل ببحث إيران عن موطئ قدم لها في مصر، في خضمّ انتفاضة الشعب
المصري، ليس منطقياً أن تجمع الأمة على التمسك بنظام قاربت ثروة أهله
السبعين مليار دولار، فيما ينام مليون نسمة من المصريين في المقابر.
أو أن تجمع الأمة على لعب النظام المصري دور الحارس لإسرائيل بوجه الفلسطينيين.
أو أن تجمع الأمة على بقاء نظام يعيش نصف شعبه تحت خط الفقر فيما تمارس الرؤوس الكبيرة فيه كل أنواع البذخ والترف.
سبحة الأسئلة هذه لا نهاية لها.
في أي حال، لا يعبّر موقف شيخ الازهر ونظيره السعودي رئيس رابطة علماء
الشريعة في دول مجلس التعاون الخليجي، الدكتور عجيل النشمي الذي علق على
الانتفاضة المصرية بقوله "إن إبداء الرأي بكل الوسائل لا يعني الخروج على
الحاكم، فقد يخلط البعض بين وجوب السمع والطاعة والخروج على الحكام
المسلمين ، فهذا خلط بين المشروع والممنوع ، وتحميل الشرع ما لم يحتمله أو
يقره" إلا عن نموذج شيوخ السلطان، وهم، للتذكير، من أسوأ ما قد يعرفه دين
على وجه البسيطة. من تحليل للمحرم والعكس. زرع القنوط في النفوس. إضفاء
الشرعية الدينية على الحاكم بصفته حامي ديار الإسلام وأمير المسلمين، إلى
ما لا يحصى من الفتاوى التي يدبجونها، مصحوبة بحديث شريف، أو آية قرآنية.
وللمفارقة، فإن نصيب هؤلاء من الثقة لم يعد وافراً ليس من الشعب المصري
فحسب، بل من أقرب الناس إليهم. هكذا انتقلت منابر بعض الخطباء من المساجد
لتصبح وسط الحشود، لا أمامهم. حلّ ببعضهم من أعمال بلطجية مبارك ما حلّ
بجمع المعتصمين في ميدان التحرير، مصحوبة ببيان جبهة علماء الأزهر الذي
يدعون فيه إلى الثورة على الحاكم الظالم، ويصبون جام غضبهم على شيوخ
السلطان بقولهم "ألا لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله
ويبغونها عوجا"، وقولهم كذلك: ألا لعنة الله على عمائم السوء التي خانت
وقبلت أن تكون في حزب الهالكين".
سواء كانت ثورة بخلفية إسلامية أو اجتماعية أو سياسية، دفاعاً عن حرية التعبير أو لقمة العيش لا فرق، ما دام الشعب يصنع مجده بيديه.