بصراحة لم تعد هذه مباراة كرة قدم ولم يعد هذا حكماً ولم تعد المسألة من
أولها لآخرها محتملة، والغريب أنه كان ماتش كرة عادياً بعدما أطلق الحكم
صافرته مؤذناً ببدء اللعب فى يوم مطير. ثم هجمة هنا وهجمة هناك وتسلل هنا
وفاول هناك وتقدم هنا وتأخر هناك. قبل أن تقع الكارثة التى أذهلت المجتمع
الكروى الدولى وحجزت لها مكاناً فى سجلات الفيفا جنباً إلى جنب مع ثورة
الباستيل والبلاشفة والياسمين.
وكانت المشكلة قد بدأت باعتراض عادى من اللاعبين، وهو أمر معهود ومحمود فى
ملاعب المنطقة من بغداد حتى الدار البيضاء مروراً بالخرطوم مع استثناء تل
أبيب واليمن السعيد. ولكن الجديد أنهم لم يعترضوا على فاول أو تسلل أو حتى
هدف غير صحيح احتسبه الحكم ظلماً على أى من الفريقين. ولكنهم اعترضوا
جميعاً، بحسم وتصميم، على قواعد كرة القدم من الأساس. والأخطر أن لاعبى
الفريقين كليهما اتفقوا معاً، كأنهم فريق واحد، على عصيان أوامر الحكم
مطالبين بتغيير طريقة تحكيمه للمباراة، ومصرين على مراجعة دساتير كرة القدم
مصرياً وإقليميا ودولياً، مؤكدين أن الزمن بات غير الزمن، وأن الشمس تشرق
الآن أحياناً من الغرب، وأن الزوج والزوجة يجب فى ذلك العالم الجديد أن
يتبادلا الحمل مرةً للرجل ومرةً للمرأة، كما أن مصر بحاجة إلى عاصمة جديدة
غير القاهرة.
وبدوره صرخ الحكم مؤكداً أن قواعد كرة القدم قديمة كالشمس والقمر حيث
أقرتها الفيفا من مقرها شديد الحراسة فى واشنطن عام 52، وان عليهم أن
يحترموا انه هو مؤسس اللعبة فى مصر، وأن إنجازاته هى التى جعلتهم يأكلون
ويشربون ويتزوجون النساء ويريقون الشراب أنهاراً كل مساء، فضلاً عن أن
حكمته هى التى أوصلتهم إلى المشاركة فى كاس العالم عام 1934 وكاس الأمم
الإفريقية ثلاث مرات. والأكيد أن رؤيته المستقبلية سوف تكفل لهم فوز مصر
بكاس العالم تحت قيادته عام 2099. ثم استعاد الحكم هدوءه مشدداً على أنه
يكفيه فخراً أنه يدير اتحاد الكرة المصرى ويرأس مجالس إدارات جميع الأندية
المصرية ويرعى جميع المسابقات المصرية، ومع ذلك يأخذ من وقته الثمين ليقوم
بتحديث قواعد اللعبة بصفة يومياً آخذاً بآخر المستجدات فى واشنطن ولندن
وباريس. وكاد يعايرهم بأنه ظل دائماً هو الأب الروحى لجميع اللاعبين الذين
سجلوا جميع الأهداف فى جميع المباريات، كما كان دائماً هو الملهم لجميع
الرجال الذين تعاونوا مع جميع النساء فى إنجاب جميع الأطفال فى بـر مصر.
فلولاه ما كان هناك زرع ولا ضرع ولا حب ولا غرام ولا مدارس ولا مصانع ولا
كبارى ولا ملاهى ليلية ولا حتى بلايستيشن.
وبحركة عفوية اندفع مساعد الحكم إلى ساحة الصدام فى قلب الميدان وأخذ يوجه
ضرباته ركلاً وصفعاً إلى لاعبى الفريقين كليهما وهو يصرخ مذكراً بان الحكم
هو الكابتن والقائد والزعيم وهو الأب وهو الرمز وهو القيمة الكبرى والنبراس
والنموذج، كما أنه هو الأمل والمنى والدنيا والأحلام، وهو الذى حما الحمى
وزاد عن حياض البلاد يوم مباراة الجزائر التى كادت أن تعصف بكرامة مصر وامن
مصر ورخاء مصر واقتصاد مصر وكل شئ جميل ونبيل فى مصر.
قرائى الأعزاء. لعلكم تعرفون بقية القصة. فقد قام اللاعبون برد الصاع صاعين
بما حول الملعب إلى ساحة قتال بين الحكم ومساعديه ورجال الأمن من جانب،
وبين لاعبى الفريقين والجمهور والمراقبين من جانب ثان. والحق أن صرخة الحكم
- بان على اللاعبين أن يختاروا بينه وبين الفوضى- لم تعد تجدى. وبصراحة لم
تعد هذه مباراة ولم يعد هذا حكماً ولم تعد قواعد كرة القدم تصلح للعصر
الجديد. وهناك حلان فقط أمامنا. فإما أن يتم تغيير لاعبى الفريقين ويبقى
الحكم، أو أن يتنحى الحكم وينحاز إلى صفوف الجماهير. والحل فى تقديرى مع
المساعد الثانى للحكم الذى آثر أن يحمل رايته ويمضى خارجاً من ساحة الملعب
إلى طريق غير معلوم. ويقولون إنه علا وارتفع ورقى وارتقي. ولعلنا نجده
يوماً فى الغيوم أو بين السطور.