ترقيع البكارة
عزت القمحاوي
2010-12-17
وحيداً، تئن روحي من عار يتجاوز مهانة تزوير إرادة
شعب إلى مهانة اغتصاب اللغة؛ الفسق العلني الذي مورس على مدى أيام وليالي
مهزلة الانتخابات، ثم عار الحفل الباخوسي لتنصيب الحزب المنتصر؛ حفل تألق
فيه مسنون لم يعودوا قادرين إلا على أكبر الفسق وأكثره دناءة: الفسق
باللغة.
اللغة آخر وأعز شرف نملكه. ولا يعنيني في هذا الصباح أن تبقى
أوطاننا المحتلة محتلة أو أن يزداد عددها، يهمني فقط إعادة السلام إلى
روحي بنسيان ما حدث، والحدب على لغتنا الضحية التي لا ذنب لها، والبحث عن
طريقة لإعادة بكارتها من أجل أن تحظى باحترام أجيال جديدة لن ترضى بلغة
مفسوق بها.
وللأسف، لم أجد أمامي سوى الاستعارة من الأجنبي مرة أخرى؛
فكما نلجأ إلى الصين من أجل أغشية البكارة الأنثوية، لا مفر من اللجوء إلى
الأجنبي لاستعادة البكارة اللغوية، بعد أن عرفت الأنظمة الفاسقة كيف تدرب
المثقف ليكون مثل كلب العاهرة الذي يعتبر كل زوارها أسياده.
هناك
القليل جداً ممن يوثق بهم الآن لكي نستعين بهم على رد اللغة إلى مدارها،
ليعود تزوير إرادة شعب جريمة وليس مجرد تجاوزات ولكي يعود الدكتاتور
دكتاتوراً وليس قائداً لمسيرة الديمقراطية ولكي يعود القواد قواداً وليس
برلمانياً محصناً.
وقد وفر إلياس فركوح لي هذا الصباح الفرصة للاختيار
من خلال كتاب جديد جمع فيه ثماني حوارات مع مثقفين أجانب بقسمة عادلة بين
النساء والرجال: مارلين فرنتش، مارغريت درابل، ألفريدة يلينيك، ونانسي
هيوستن، في مقابل بول أوستر، خوان غويتسولو، دبليو جي سيبالد، وميلان
كونديرا.
***
ربما كان الروائي الهادىء إلياس يسعى بتهذيبه المعتاد
إلى ترقيع بكارة اللغة من دون أن يشير إلى ذلك، وربما مضى مأخوذاً بفتنة
السؤال عندما أقدم على جمع هذه الحوارات وتصنيفها وإضافة التعريفات والسير
المختصرة للأدباء الثمانية في كتابه 'الكاتب علامة سؤال..رأوا ولم يصمتوا'.
لعله
ولع السؤال، لأن إلياس ذهب إلى هذا النهر منفرداً من قبل في كتاب فاتن آخر
هو 'البيت المشترك..غرف بلا جدران' كما ذهب إليه بصحبة حنان شرايخة في
ثلاثة كتب مشتركة.
وكلها كتب ابتكرها هو وشريكته في ولع السؤال؛ فهي
ليست موجودة على صورتها في أصل أجنبي، بل يجمع الحوارات والمقالات ـ
ويجمعانها ـ من الملاحق الأدبية ويصنعان لها السياق والإطار.
وإذا كانت
اللغة هي الوسيط الذي ندرك من خلاله العالم برأي جاك لاكان فالسؤال هو أصل
إيجاد العالم.
ولع الإنسان الأول بالسؤال هو الذي قاده إلى الخطيئة،
وهو الذي ألقى به إلى هذا العالم الذي يحتاج إلى لغة بكر ندركه من خلالها.
لغة لا تعرف العهر الاختياري الذي يمارسه المثقف، ولا التعهير بالاغتصاب
الذي يمارسه دكتاتور منتصر على شعبه في خطاب يكتبه ، غالباً، مثقف!
في
تقديمه للكتاب يطرح إلياس فركوح السؤال الغائب في كل الحوارات: من الرابح
في السجال بين اثنين؛ واحدهما يسأل مضمراً إجابات محتملة، وثانيهما لحظة
إجابته يتساءل عن أفعاله الكتابية ويحار إذا ما كان قد أصاب معنىً ما؟
وكإجابة
على سؤاله الافتراضي من خـــــلال استــــقراء الحوارات يفترض إلياس عدم
وجود اليقين المتماسك حيال قضايا الكتابة والخيارات الفنية، لكن الأمر
مختلف عندما يتعلق برأي حول مجريات العالم وأحداثه العاصفة بشعوب وقارات
بأكملها وبإثنيات وأقليات عرقية أو جنسية تتعلق بالتمييز ضد المرأة، أو
فيما يتعلق بالفصل بين فراديس الشمال وجحيم الجنوب إلى درجة إجبار يائسيه
على تطويق خصورهم بالأحزمة الناسفة أو إلقاء أنفسهم في وجه الموت وسط أمواج
البحر في رحلة الهجرة نحو الهلاك.
لا يمكن للشر أن يصبح خيراً، وفي
مواجهة كل هذه المظالم لا ينبغي على المثقف أن يكون كلب عاهرة يهز ذيله
للأسياد.
الألماني سيبالد يحسم المسألة: 'لا أعتقد أن أحداً بإمكانه
الكتابة انطلاقاً من موقف تلفيقي أخلاقياً'.
***
وضع دبليو جي
سيبالد بجوابه الفرق بين الكاتب وأي إنسان آخر؛ ففي حين تكون الاستقامة
الأخلاقية فطرة يولد به الأسوياء من البشر، تكون عند الكاتب ضرورة فنية.
هذه الضرورة هي التي حملت الإنكليزية مارغريت درابل بعيداً عن الرضى الذاتي
الذي تحسه الطبقة الوسطى الانكليزية التي تعتقد أنها تعيش في بلد رائع،
وجعلها تحس شناعة أن تقوم أمة كبيرة بقصف المدن العراقية بطائرات خرجت من
رسوم ديزني لاند، وأن تستنكر بحسم إساءة استخدام اللغة عند وصف الانتحاريين
المقهورين بـ 'الجبناء' لأن إساءة استخدام اللغة جزء من الحرب.
ومن
قتال خوان غويتسولو ضد كل أشكال الظلم بما فيها ظلم اليمين الكاثوليكي
لإسبانيا بمحاولة تخليصها من ماضيها السامي، إلى رهاب كونديرا من قمع
الشيوعية التشيكية إلى خوف نانسي هيوستن من المنفى اللغوي وكفاح ألفريدة
يلينيك ضد اليمين والسادية والرجال.
جولة من المتعة مع مبدعين مهرة
يقودنا فيها إلياس فركوح ونتعلم منها انعدام اليقين حول الطريقة المثلى
لكتابة الفن، لكننا نخرج بيقين واحد: لا يمكن للمرء أن يكون كاتباً وكلب
عاهرة في الوقت نفسه.