ليس في الحرب الالكترونية الدائرة هذه الايام على شبكة الانترنت قوة عظمى. يمكن لمراهق مجهول الهوية والاقامة ان يشعل الجبهات وان يدمر المواقع في مختلف انحاء العالم او ان يخترق الخطوط الدفاعية ويتسلل الى غرف العمليات السرية. حتى الآن ليست مواجهة بين دول او حتى منظمات، لكنها حرب عالمية فعلية، او على الاقل بوادر عن تلك الحروب التي ستخاض في المستقبل على شاشات الكومبيوتر من دون الحاجة الى جيوش او اسلحة.. وتنتهي ايضاً بوقف لإطلاق النار يظهر على الشاشات نفسها، ولا يترك اي بقعة دم على الارض.
اميركا هي هدف هذه الحرب وسببها، لكنها ليست ساحة عملياتها التي تمتد لتشمل مختلف بلدان العالم من دون استثناء، في مشهد سوريالي لم يسبق له مثيل في التاريخ: المعارك والهجمات المتبادلة تدور في كل مكان، وكذا المفاوضات والملاحقات والمحاكمات، من دون اي اشارة الى قرب التوصل الى هدنة على الاقل. ثمة ما يوحي بالعكس تماماً، اي بان الحرب لا تزال في بدايتها، وهي تتصاعد وتتسع يوماً بعد يوم، وتتخذ اشكالاً جديدة غير مألوفة وتصل الى جبهات غير معروفة، لم تستهدف من قبل في اي من الحروب التقليدية التي عرفتها البشرية.
اميركا هدف غير معلن وربما غير مقصود، الا اذا شطحت المخيلة الى حد اتهام موقع ويكيليكس ومؤسسه جوليان اسانج بانه ينتمي الى تنظيم القاعدة او الى اي تنظيم ارهابي آخر معاد للامبريالية الاميركية، التي لم تجد يوماً صعوبة في خلق اعداء في جميع القارات والامم والشعوب. ثمة اختبار أكيد تتعرض له الزعامة الاميركية العالمية المتداعية، او ربما ثمة فرصة ينتهزها بعض عباقرة الانترنت لإبلاغ الاميركيين انهم لم يعودوا جديرين بالزعامة.
غير أن أميركا لا تشعر حتى الآن بما هو اكثر من الحرج او الخجل لان مجالسها الدبلوماسية ليست آمنة او موثوقة. في الايام القليلة الماضية نشر الاعلام الاميركي تقارير تسخر مما تحتويه البرقيات الدبلوماسية التي كانت شرارة الحرب الراهنة، من سطحية وسذاجة في التقييم الاميركي للدول والحكومات والافراد، وتطالب بوقف تصنيف مثل هذه البرقيات بالسرية، لأن ذلك يعني هدر نحو تسعة مليارات دولار سنوياً من ميزانية الحكومة الاميركية، خصوصاً ان معظمها مأخوذ من مصادر غير موثوقة او حتى من صحف ووكالات انباء.
لكن أميركا تقاتل بشراسة على هذه الجبهة الالكترونية المفتوحة في مواجهة خصوم اشداء يستمتعون باختراق المواقع الاميركية وتهديدها وحتى تعطيلها، كما يستمتع الجمهور العالمي بتلك المعارك الضارية، التي تفرغ القوة الاميركية من احد عناصر هيبتها الافتراضية، ومن احد اهم عوامل عظمتها السابقة، التي يعترف الاميركيون انفسهم انهم فقدوها اوهم في طريقهم الى فقدانها.
هي حرب تدور حول صورة اميركا، أهم ما فيها انها يمكن ان تنتهي الى تحطيم تلك الصورة، اكثر بكثير مما يمكن ان تفعل الدول والشعوب والمنظمات المعادية للاميركيين، والتي تهلل هذه الايام لذلك الانتهاك المذهل للامن الداخلي الاميركي.. بغض النظر عن محتوى البرقيات الدبلوماسية.