سـوق الدجالين
خليل قانصو
2010-12-08
من المحتمل أن القول بأن بلاد العرب تحولت في العقود الأربعة الأخيرة، درجة بعد درجة، إلى بازار دائم ومزدحم، لا يثير دهشة أحد. يعيش الناس في هذا البازار، ليل نهار. ينامون إذا ما اضناهم التعب، وتوقظهم الجلبة إذا ما أخذوا قسطا قليلا من الراحة. كثرت جراحهم، فتخـّدروا، وأعمتهم الحيرة وكثافة الحشود، وأصم آذانهم صخب أهل السلطة وفتاوى فقهائها الذين يكثرون الكلام، حتى لا يسأل سائل عن حقه أو يشكو شاك من جورة جائر.
وما زاد الطين بلة، في الفترة الأخيرة، هو ذيوع الاخبار وانتشار الشائعات عن الخلوات التي تجمع بين وزراء العرب، وأمرائهم وملوكهم ورؤسائهم من ناحية ومبعوثي الإدارة الامريكية، وسفرائها، وقادة جيوشها من ناحية ثانية. لا يهم كثيرا، ما إذا كانت خزائن الوثائق الامريكية أفرغت برضى المؤتمنين عليها، أم أن قراصنة المعلوماتية هم الذين فتحوا مغاليقها. فما يعني المراقب هو أقاويل حكام العرب، ومطالبهم واقتراحـــــاتهم التي أفصحوا عنها في تلك الخلوات من جهة، والأسباب التي تدفعهم إلى ذلك، من جهة ثانية، علما بأن الأحداث التي وقعت والتجارب التي مرّت، في السنوات الأخيرة، في الفضاء العربي من المحيـــــط إلى الخليـــج، لا تدل جميها، بالقطع، على أن الذين يرسمون خطط الســــياسة الامريكية يتأثرون بآراء هؤلاء الحــــكام ويراعون رغباتهم، بل يمكن الجزم بأن للإسرائيليين اليد الطــــولى في صــــناعة القرار الأمريكي، وما يطلبه المبعثون والسفراء الأمريكيون من ندمائهم العرب هو المساهمة في التنفيذ والكلفة، لا أكثر.
ينجم عنه، أن الوثائق الامريكية التي انبسطت، في هذه الأيام، في أركان البازار، سواء احتوت على أقاويل، صدرت فعـلا عن الذين نسبت إليهم، أو أن الأمريكيين هم الذين تقـّولوها عليهم، انما تبطن حقيقة واضحة لا مجال لإنكارها. وهي أن العلاقة التي تربط بين الحكام والزعماء العرب الذين ورد ذكرهم في هذه الوثائق من جهة وبين الإدارة الامريكية من جهة ثانية، هي علاقة لا تشوبها التناقضات ولا يعتريها خلاف في وجهة النظر أو فرق بين مصالح هذا الطرف أو ذاك. يتضح ذلك، بصورة لا لبس فيها، عندما يعلن أو بالأحرى يحرض الوزيرُ الإسرائيليين، مباشرة أو بواسطة المبعوث الأمريكي، ضد فئة من فئات الناس الذين يعيشون واياه في البلد نفسه وتحت سلطة معاليه، أو عندما يفصح صاحب السمو عما يضمر من كراهية وحقد، ضد بلد عربي يسكنه شعب شقيق، أو ضد بلد جار، توجد بينه وبين العرب روابط ثقافية ودينية، تضرب جذورها عميقا حتى بدايات التاريخ. ما معنى أن تكون وزيرا على الناس، وتطلب في الوقت نفسه من دولة أجنبية أن تحاربهم، وما معنى أن تكون أميرا عربيا ومسلما وتدعو إلى محاربة العرب والمسلمين؟
وجملة القول، وباقتضاب شديد، ان الخلاصة الأساسية التي يمكن استنتاجها، من دون لف ودوران، من ثنايا الوثائق الامريكية التي كـُشف النقاب عنها، في موقع ويكيليكس الإعلامي، على شبكة الاتصالات المعلوماتية، هي أن حلفا يضم عددا كبيرا من أنظمة الحكم في البلاد العربية، هو معطى لا يمكن اخفاؤه، مهمته معاونة الإدارة الامريكية. ينبني عليه، أن هذه الأنظمة ليست، في الواقع، في حالة عداء أو حرب مع اسرائيل. يستتبع ذلك أنها تمنع المقاومة ضدها، انطلاقا من أراضي البلاد الواقعة تحت سلطتها. وهذا من وجهة نظري، يتطلب توضيحا وتفسيرا، إذ لا يجوز الاستمرار في التلاعب بالحقائق الماثلة والمحسوسة إلى ما لا نهاية. فما أود التأكيد عليه هنا، هو أن الناس في بلاد العرب، وفي المناطق المحيطة بفلسطين على وجه الخصوص، ما زالوا، خلافا لمواقف حكامهم، يعتبرون الإسرائيليين أعداء لهم، وهم على حق، لانهم خبروا بالتجربة أن ما حل بالفلسطينيين الذين اغتصبت أرضهم وطردوا من بلادهم، يمكن أن يحل بهم، دليلا على أن الفصل بين مصائرهم وبين مصير الفلسطينييين، هو فصل اصطناعي واعتباطي. هنا تتبدى الإشكالية التي طرأت في مسألة الصراع العربي ضد الاستعمار الإسرائيلي، وما فتئت تتفاعل نتائجها، منذ دخول هذا الصراع مرحلة الاتفاقيات بين أنظمة الحكم العربية من جهة وبين قادة اسرائيل من جهة ثانية، بدءا من اتفاقية كامب ديفيد التي وقعها في 17 أيلول/سبتمبر 1978، الرئيس المصري أنور السادات إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن وانتهاء، لان مرحلة انتهت فعلا، باتفاقية اوسلو التي وقعها في 13 أيلول/سبتمبر 1993، في حديقة البيت الأبيض الأمريكي، الفلسطيني ياسر عرفات إلى جانب رئيس وزراء إسرائيل اسحق رابين. وبكلام أوضح وافق الحاكم العربي على إقامة صلح بينه وبين نظيره الإسرائيلي، من دون أن يكون على يقين بأن هذا الأخير لن يعتدي على الشعوب العربية. ولكن المفارقة، هي في أن الإسرائيليين لم يوقفوا حروبهم الهمجية ضد هذه الشعوب وحسب، ولكنهم وسعوا دائرتها أيضا. رغم ذلك لم ينقض الحكام العرب الصلح معهم ووقفوا ضد الذين تصدوا للهجمات الإسرائيلية في قطاع غزة وفي لبنان. وقاموا بمطاردة المقاومين في الضفة الغربية وفي شبه جزيرة سيناء. وبادروا إلى شن حملات دعائية مغرضة ضدهم استخدموا فيها أساليب يتقزّز المرء من ذكرها. يحسن التذكير في هذا السياق أن الولايات المتحدة الأمريكية، تتعهد قوات الأمن التابعة للسلطة في رام الله، فتدفع الأجور لعناصرها، ويشرف الجنرال الأمريكي كايت دايتون على تدريبها وتجهيزها، وان اسرائيل سمحت لهذه القوات باستقدام خمسة وعشرين عربة مدرعة حاملة للجنود. ولا تسل عن المعتقلين والتعذيب في سجون الضفة، ولا عن 'العمليات الأمنية المشتركة'.
'ليس واردا أن نعترف بحق العودة، بأي شكل من الأشكال، أو أن نسمح للاجئ واحد، أن يعود بمفرده إلى منزله'، هذا تصريح لرئيس وزراء اسرائيل في آذار/مارس 2007. أي بعد انقضاء اربع عشرة سنة على توقيع اتفاقية أوسلو، يفهم منه، أن هذا الرجل يلغي قرار الأمم المتحدة 194 الذي نص على أنه 'يجب أن يكون متاحا للاجئين الذين يرغبون بذلك، العودة إلى ديارهم في أقرب وقت ممكن، والعيش بسلام مع جيرانهم، وأن تـُدفع تعويضات عن أملاكهم، للذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم'. وألغيت أيضا، أو هي في حكم الملغاة، مبادرة المللك السعودي، التي طلب فيها من اسرائيل الانسحاب من الأراضي التي احتلت سنة 1967، والاعتراف بدولة فلسطينية على الضفة والقطاع، عاصمتها القدس الشرقية، وقبول حل 'معـقول' لقضية اللاجئين الفلسطينيين، مقابل ذلك تتعهد الدول العربية بأن تعترف باسرائيل وبأن تقيم معها علاقات دبلوماسية كاملة.
الا يحق، بعد هذا كله، القول بأن أنظمة الحكم العربية تحافط على الصلح مع اسرائيل من جهة، وتحاول منع الشعوب العربية من تنظيم الدفاع عن نفسها بوجه الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة عليها من جهة ثانية. 'ان نجاحكم في نابلس، سيكون له صداه في كل أنحاء الضفة الغربية، ولدى جيراننا أيضا، فيعرفون جميعا انكم لا تتساهلون في تطبيق القانون وحفظ النظام، وبأنكم أهل لكي تقوموا بهذا العمل على أتم وجه'، هذا الكلام هو للجنرال الأمريكي دايتون، الذي سبق ذكره أعلاه، القاه في نابلس، أمام قادة الإجهزة الأمنية في سلطة رام الله. بمعنى آخر، أن نظام الحكم العربي، أي نظام، يحظر على الناس مقاومة الإسرائيليين، حتى في حال أقدم هؤلاء على الاعتداء عليهم .الاحتلال والقصف، وهدم المنازل، واغتصاب الأرض، والاعتقال، والاقصاء والتهجير، والحواجز وتقييد حرية التنقل، أليست كلها أعمالا عدائية؟ ولكن يبدو، أنه بموجب معاهدة الصلح، أوكلت مهمة حراسة السجن وحراسة حدود فلسطين المحتلة الى نظام الحكم العربي. ولكن الحارس لا يدير السجن، وعلمه لا يحيط بما يجري خارجه.
هل بعد هذا من شك في أن العلاقة التي تربط هذا النظام بالناس الخاضعين لسلطته، هي علاقة ضبابية. بمعنى أن السياسة التي يتبعها لا تخدم بالتأكيد مصالح هؤلاء الناس، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فهم محرومون، تحت طائلة القانون، من حق مساءلته ومن التفكير والبحث عن الوسائل التي تمكنهم من استعادة حريتهم والدفاع عن مصالحهم بأنفسهم. دائما يتوسط النظام العربي ويعترض بين شعبه وبين المستعمرين الإسرائيليين. إلى حد ان النضال، من أجل تحرير الأرض واستعادة الحقوق، أي النضال ضد المستعمر، صار مستحيلا، انطلاقا من المناطق المحيطة بفلسطين. ولكن أكبر ما يـؤذي هو التماثل بين نظرة كل من المستعمرين من جهة والسلطة العربية من جهة ثانية، إلى هذا النضال واعتباره عملا إرهابيا. لا سيما أن الامبريالية الامريكية، كرّست 'الحرب ضد الارهاب' تحت رايتها طقسا من الطقوس التي أوجبتها على أتباعها، ونصبـّت المستعمرين الإسرائيليين كهنة، فلعنوا من يقاومهم وأحلـّوا لأنفسهم طرد الناس من منازلهم، وتعذيبهم وتهجيرهم.
ولكن الأمور، باستمرار إلى تغير وتبدل. ولعل من دلالات المرحلة الجديدة من مراحل النضال ضد الاستعمار الصهيوني في فلسطين هي علامات الارتداد والنكوص التي بدأت تتكشف في الفكر والعقيدة الصهيونيين، ربما لانه لم يعد بالامكان التستر عليهما. إذ ليس من المستبعد أن نكون حيال منعطف حاسم. فمن جهة تجد الحركة الصهيونية نفسها مضطرة إلى إظهار وجهها الحقيقي، بما هي حركة عنصرية، تريد 'دولة يهودية متجانسة' خالية من الآخرين، مغلقة، ومن جهة ثانية يتنامى الى المراقب ويتناهي إلى سمعه، صدى صوت فلسطيني، نابع من رحم التجربة القاسية، التي يعيشها عرب فلسطين الذين ذاقوا مرارة المنفى والتمييز العنصري في وطنهم، يطالب بالمساواة، وبدولة المواطنيين ضد دولة العرق الواحد والمعتقد الواحد. وهذا يبشر بقرب ولادة مقاومة جديدة لن يستطيع النظام العربي أن يتوسط بينها وبين عدوها.