الكرخ فريق العمـــــل *****
عدد الرسائل : 964
الموقع : الكرخ تاريخ التسجيل : 16/06/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 4
| | مديح مسرح القناع: في بيت الشاي الصيني | |
- نادل فيتنامي في بيت الشاي الصيني يقدم لي شايا سريلانكيا مصنّعا في بريطانيا ،الشاي الياقوتي يتألق في قدح ياباني ،الرجل انحنى مع ابتسامة فرنسية مهذبة مصحوبة بلكنة باريسية:
- بونجوغ مدام.. أرنو إليه بنظرة امتنان عربية واشكر له براعة التنكر بجلد فرنسي، لحظة شاي عولمية باهرة جمعت ثقافات شتى في قدح .. يمتعني تنكر الرجال في غير جلودهم ، لعبة ممتعة كالسحر أن تتراءى لك وجوه مغايرة لما تحت القناع ، هي لا تدهشك لكنها تمتعك ببراعات التماهي وقدرة البشر على تقمص جلود مختلفة.. شاي أشهى من الأنبذة يحيل النهار إلى يقظات وانتباهات و الليل قد أبقى تلاوين قلق على قسماتي ، غسلتها بالنسيان وصابون دوف والدموع وما امحّت ، فركتها بذاكرة التشرد ومسحوق الأمل فما تلاشت ، كشطتها بنبرتك الوثيرة فاستحالت ألفا.. الشاي يدحض بقايا أرقي وعجائب نسيها الخوف على جلدي … 2 تسبقني خطاياك إلى اليأس وأسبقك إلى هبائي.. وبين يدي وجبينك تحتضر مدينة هارون الذهبية ومن نفائسها ينهمر المسك والسياط وبوصلات الرصد و المشانق و صوت المؤذن وغناء القيان وصيحات اللقالق ألإلف وشبهات الحب وأنوثة الجغرافيا و فحولة التاريخ الضارية.. بين أصابعي وشفتيك تورق الكلمات الخفاف وتتلاشى كما برق الربيع كما الخيانات كما الأحلام في الظهيرة .. اترك المدن العباسية والفتوحات موسومة على رق غزال بالزعفران والدم .. أغادرني وأغادرك لأتفرج على مسرح العالم فأنت لا تعتزم المكوث في المستقبل ،وأنا لا أطيق الثبات في حاضر مغبش ..
مفردة أقتحم طواياه والج الغابات البكر من غير تمائم ولا تعويذات ولا قداسة .. تمسح الأيائل خطومها على يدي وتداعب السناجب قدمي ويرتمي نمر صغير على خطوتي .
يشرع لي حاجب بملابس مزركشة بابا ضخما وتتلقفني البوابة الدوارة للمسرح وتبتلعني القاعة شبيهة العالم بشرقه وغربه وأقاصيه .. ولا أرى سوى جحافل أقنعة تموج ببريقها على السطوح وتغازل أضواء الثريات العملاقة وتوصد منافذ القاعة وتتركز بمجاميع على الخشبة في شبه عتمة بكماء. 3
المسرح –الفن هو للسعادة والإسعاد كما هي الفلسفات والحب .. ، ومسرح القناع يمنح سعادة للممثلين وإسعادا لمن يشاركهم التمتع بفنونهم ، مسرح القناع يبصرنا بحقيقة الإسعاد والسعادة فنخلع على سادته امتنان النفس بما سعدت وما قطفت من المتع وتنويعات البراءة في انزلاقها إلى المعنى المغاير والحالة المجاورة للألم .. امتياز مسرح القناع انه يدع المتفرج في جهل من حقيقة المؤدين، حسبنا ما يبوح به القناع الساحر والملامح المستعارة من تاريخ التصوف او تاريخ القتل أو تداعيات الأحلام او الشهوة أو تشنجات اللذة أو توترات الألم وتمويه الحال وما يتبقى من مذاقات الفتنة القصوى في النفس وهي ترتاب بكل ما يأتي بعد نشوات اللحظة الباهرة وفتنة القول .. كل قناع يبقي على السحنات وشوماُ وعلامات من ظلال التوهـّم البصري ونثارا من أنوثة تواشجت في رجولة المؤدين المولعين بالمتع.. ، تلاوين مغوية وألق شغوف لا بداية له ولانهاية ، طريق التوحش المؤالف بين الذئب والفتنة.. وبين الجسد والنور والنجمة والطحلب.. العيون وحدها تبلور السر وتطلقه ، بعون من ضوء الكشافات تلقط الكاميرا صورة سريعة لعين الممثل الوسيم ،العين التي تصحو في سكرها وتثمل في يقظة الشهوة وتفتتن بها المرأة التي تتابع العرض في إحدى المقصورات وتصحو حقولها على خفق حمائم في الجسد.. النظرة الجوانية تتوضع في اللقطة وتفضح ما ينطلي على الرائين المحايدين ، المتوغلين في حبكة المشاهد وصعود الصراع .. ، لون النظرة يفضح سحر اللغة الهيامية والوله المثير وهذيانات الجسد المتلاحم مع أخيلة الجنون التي لا تراها سوى المرأة المفتونة بما وراء القناع. ،النظرة تقنصها عين مدربة كمرايا الساحرات ، والذاكرة تخزن تلك النظرة الجحيمية المخفية وراء غلالة اللغة الفاتنة ، وتستعيدها مابعد انقضاء سلطة القناع ..تلك النظرة بؤرة الحكاية ومتن النص الموازي او المتواري في حبكة الدراما .. … انتقال ا لممثل من مستوى للتعبير إلى مستوى للتماهي يمنح المشاهد أمثولة أثمن من قصص الجنيات وحكايات الأباطرة وأساطير العشق ويختزل المسرحية في خلاصة تقول: الإنسان اٌقدر الكائنات على التحمل عندما يتقن تحاشي الصواعق بتوقعه لها ، توجسه وحدوسه حراس وعيه ، لا مباغتة ولا اندهاش .. 4 مخرج المسرحية يبث تعاليمه للممثل الأول:
أتقن دورك للإفصاح عنه ولا تستهن بالخاتمة في ارتدادك للسكوت ، النهايات نواة المسرحية و شحنتها المتفجرة..كن كالعاشق ولا تكونه ، كن كالنذير ولاتكن الكارثة ، كن كالولادة ولاتكن الجنين ، كن كالأنوثة ولاتكن الأنثى و كن الماء ولاتكن النهر ، كن الشهوة ولاتكن الألم .. كن معلم نفسك بما خبرت وعرفت من المرأة والحب ومن السياسة والقتل والموت والفزع ، فلا يكفي إدعاء الحب أو الحكمة أو النبل لتكون مقيما في الحب أو مالكا لحكمة لاوتزو أو فارسا من فرسان النبالة ، الأقنعة لا تفي بخلاصات الحكاية ، روض خطابك ونبرتك لتعزز يقيننا بأنك النذير والولادة والأنوثة والماء والشهوة والرعشة والمعرفة ..
يحذره المخرج :
الوهن البشري يجعل مآل الحكاية وادعاءها أشبه بعملية غش الترياق بالسم فلا تتعجل نزع القناع وتماسك وأظهر إرادتك في نبرة الصوت ومخارج الحروف.. كن الخطاب الشجي والمعنى المراوغ لتبعث الحيرة في المتلقي..
يتملك الممثل بدوره البطولي إحساس الناجي من مأزقه الوجودي، و هوى حساس زائف ، يتوازى مع النكوص وما يدعونه خيانة الذات لارتقائها ، قد يجد المرء فيها متعة فوز على الآخرين المتوائمين ظاهرا وباطنا على نقيض الممثل الجميل الذي يتوسل القناع ليكون الآخر.. بساطة الحزن النقي لوجه بلا قناع هي بساطة المنتصر الحي في جولة الختام ..
يقول المخرج:
احذف الثمل والخدر وتوسل الصحو لترى آيتك في الآخرين .. شبهة الحب ومحنة الصداقة في المسرح هي ذاتها شبهة الحرب في الميدان مع روائح الموت. ، يتوهم المنتصر انه حظي بالفوز ونجا وانه ختم المعركة وترك الضحية ذاهلا في الهزيمة، بينما هزيمة المنتصر الفادحة تعاشره وتغتذي على روحه تحت توّهم الفوز وضلال الحكاية أنت لا تخسر شيئا أيها الفنان حين يكون رصيدك محض لغة وفيض كلام يتصادى مابين أفول الصواب و نضوج اللعبة ،أنت لا تخسر سوى هشاشة القناع .. لا رصيد لدى البشر رقيقي القلوب سوى خفتهم الأنيقة وعبورهم اللامرئي في الوقت والمحظورات وقدرتهم على التنكر في الألم فكن المخالف للتوقعات وأنجز الصدمة المسرحية.. 5 يكتب ناقد مسرحي :
- ندوخ جميعا في التصفيق المدوي.. يترنح الممثل وراء رقة القناع الذهبي ، لكني المح دمعة تسيل على ذقنه من تحت القناع.. الأشباح المتنكرة تثقل الهواء بأوهامها ورماد الحزن عالق بأجنحتها ’عبورها في الأفق ممتع وشهي ، برهة انحيازها للحقيقة أقصر من تذرعها بالأمل ، انكشافها عري طفولي ورسوخها شأن عابر ، والكل يمسون أشباحا في دورة زمن وختام اولمبياد الحوار على الخشبة حين تعلو الفتنة فوق كل اعتبار… تكابد النفس الشبحية من لوثة الجسد والإنسحار بالشهوات وتعكس هياماتها على من حولها ، تفتن النفس الأمارة بالتغاضي ،فيتجاوز الآخر ريبته وزهو النفس ويتقبل مسوغات الأقنعة المسرحية لا اقتناعا بالتنكر - بل إشفاقا من تقوض بنيان العمل إثر هبوب عبارة حاذقة تفكك النص وتهدم المسرحية. أنت لا تخسر سوى قناعك أيها الممثل الجميل - حين تمعن في هروبك منك وتنكشف الدوال عن الحقيقة في اختفائك المتوقع وراء الستار حيث تواجه جلدك ودمك ورعشتك وذاكرتك فترتعب.. سواك لا يخسر غير وهمه بك ووهمه بإمكان عبورك إلى ذاتك على ضوء حقيقة خارج مسرحك المؤقت .. وكما وهبك شريك اللعبة- المشاهد- ما وهب من يقينات في تمام يقظته وتلقيه للمتن المسرحي، ينسحب في جنوحك النهائي لمهنة القناع، ، لا جرح ينوء به ولا معضلة تثقل خطوته الى نفسه لأنه معها و بها يكون فيحدث الصدع بين لحظتكما المتناقضة.. أما أنت فتبقى أسير شهرتك التي اقترحتها سلطة القناع وتتساءل سرا : من أنا دون مسرحي وقناعي ودون تلك العيون الشغوفة المحدقة بي والتصفيق الذي يطير بي إلى النجوم؟ سلامك مع نفسك تهاوى في انصرافك إلى التولـّه بهذه النفس وحدها على الخشبة وأمامها ، وأما سلام المشاهد فمكتنز بحقائق وجوده خارج قاعة العرض .. وأنت المبحر في زورق التوهّم تعلّـّم، وأعرف أن كل بداية تفضي إلى منتهىً، وان المنتهى ينطوي على بدء مغاير نتجاوز به وهمنا ووهم من أرهقته تحولاته على المسرح وفي انعكاس المرايا.. كنت شاهد عبور المتلقي إلى نفسه حين عرضت نصك وصرت طريق خروجه إلى واقع أبقى من تهاويل الرغبة وفداحة التعويل على رمال متحركة فوق مسرح مرتجل .. جدير أنت بجائزة العام ومديح الجموع.. 6 بعد إسدال الستار لم يبق غير ظل القناع ومتعة السعادة والإسعاد كما تشير الفلسفة.. أدون رسالة شكر للمسرحيين العظام الذين أسعدونا لبرهة وهم وإبداع. هم الأصدقاء الفنانون الحاذقون في التنكر .. ارتشف الشاي في بيت الشاي الصيني قبالة المسرح ، اشربه بأبهة التعالي.. اكتب لهم في مديح مسرح القناع: ، تعلّموا مثلي أن لا تندموا لإسرافكم في القول حين تورطون ا لنفس في مأزق الوعد بما لا تطيق حدودكم وحدود النص الممسرح .. يقبل النادل الفيتنامي المهذب بابتسامته الفرنسية ولكنته الباريسية ويجدد لي الشاي بقدح ياباني موشوم برسمة خيزران .. تختفي سلالات الأقنعة وتنهمر أوراق شجر الكستناء على الرصيف : أقنعة عابرة لأحزان الخطى و أعقاب السجائر ، أقنعة تخاطبها الريح وتذروها فتحمل معها ذاكرة الخطى الغريبة والخطى الضالة وأنين الأزقة بعد انقضاء الحلم ..
| |
|