الفنــــان: ولد جون سيميون شاردان Chardin(1699) إبان حكم لويس الرابع عشر، وتوفّي (1779) قبيل الثورة الفرنسية. هكذا يكون القرن الثامن عشر هو زمن حضوره، وتكون الأنوار هي مصدر تألقه، والنزعة الكلاسيكية موضع منشئه. امتهن والده حرفة النجارة، وكان يعوّل على ابنه البكر لخلافته، لكنّ الابن كان يتوق لما هو أسمى وأرفع. التحق سنة 1724 بأكاديمية القديس بولس، وإن لم تكن في مستوى الأكاديمية الملكية للفنون، فإنّها ستمدّه بتقنيات الرسم وأدواته. عاش شاردان حياة هادئة شبيهة بفنّه التصويريّ(لم يغادر باريس إلا مرّة واحدة)؛ دخْل متواضع، معاش من الملك، وشقّة باللوفر.
الفيلســوف: اندري كونت ـ سبونفيل ( باريس 1952 ) خرّيج المدرسة العليا للأساتذة. مجاز في الفلسفة. دكتوراه شرفية من جامعة فون ـ هينو ببلجيكا. أستاذ محاضر بالسربون. من مؤلفاته " مقالة في اليأس والسعادة القصوى" في جزأين، و"مقالة مختصرة في الفضائل الكبرى ".
العلاقة بينهما: اعتبر كونت ـ سبونفيل أنّ لقاءه بالفنّان لم يكن إلا وليد الصدفة، ولم تبدأ هذه العلاقة إلا سنة 1979 خلال زيارته لمعرض أقيم في ذكرى وفاة الفنان. ستُعدّ هذه الزيارة بمثابة اكتشاف، وسيغيّر هذا المعرض حياة بأكملها، وهي مسألة ـ كما يقول الفيلسوف ـ نادرة جدا، فالفنون التشكيلية تستحوذ علينا دون عنف، ولا تصل إلينا إلا متأخّرة، بعد أن تكون الحياة قد تشكّلت، واشتدّ عودها، وولّى زمن الشباب. بهذه العبارات يلخّص الفيلسوف علاقته بفنّان لا هو بالعنيف، ولا هو بالمشاغب، فنّان بسيط ومتواضع ومحبوب. كُتب هذا النصّ ربيع سنة 1999 بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد جون سِميون شاردان. ما الذي يوجد في النسخة ولا وجود له في الأصل؟ ما الذي يحضر في الفنّ التصويريّ ويغيب في الواقع؟ ما يوجد فعلا كون النسخة نسخة، فهي بتعبير آخر قائمة على المحاكاة، إنّها ما لا يعيره الواقع اهتماما. إنها لا تعرّف بذاتها، بقدر ما تدفعنا للاعتراف بها، ولا تتبـدّى إلا بوصفها تمثّلاً. إنها باختصار، حقيقة، أكثر مما هي مجرّد واقع. لهذا نعجب بالنسخة ونستحسنها، رغم موقف باسكال منها*. الوجود الواقعيّ في متناول أيّ كان، أو بالأحرى في متناول الجميع. أمّا الوجود الحقيقيّ فعكس ذلك. إن كان كلّ شيء حقيقيا Vrai، فليس ذلك بالمعنى الذي قد ينطبق على تمثّلٍ ما. يكتفي الواقع بالوجود هنا: إنّه يتجلّى دون أن يتمثّل ذاته. هو ذا نمــطه في الوجود الحقيقيّ. لكن دون علمه بذلك. " تزهر الزهرة فقط، كما قال سيلزيوس، لأنّها تْزهر، إذ لا تنشغل بذاتها، ولا تتوق لأن تُـرى…" فلا هي لا تَـرى ذاتها، ولا تفكّر في ذاتها، ولا تتبدّى لذاتها. وحدها الذات بإمكانها تمثّل ما يقدّمه لها الواقع، والتساؤل حينئذ حول حقيقة تمثّلها. ليست الحقيقة، بهذا المعنى (كحقيقة تمثّلية) إلا في متناول الفكر وحده: إنّها مرتكزه ذاته، كما نقول عن حاملة قنطرة ومرتكزاتها، أو قوّة حدث وأهمّيته، أو مرمى بندقية ومداها. هذا ما يضفي على فنّ الرسم طابعا روحيا، روحيّ بالضرورة، وروحيّ بالذات (cosa mentale كما قال دافنتشي)، أو بالأولى لأنّ طابعه الروحيّ هذا، المتنوّع من حيث درجة سموّه وغناه، ليس تابعا للموضوع الذي يعبّر عنه، بل للحقيقة الإنسانية، للتمثّل الذي نكوّنه عن الموضوع. لن يكون التمثّل صادقا Vrai ، ما لم يكن الموضوع المتمثـَّل كذلك. ولا يعدّ التطابق مع الواقع، كما يقول الفلاسفة، حقيقيّا إلا شريطة أن يكون الواقع كذلك. وأن حقيقة الفكر ( veritas intellectus) عند السكولائيين ( حقيقة الفهم، حقيقة الذهن والتمثل)، تقتضي حقيقة الشيء veritas rei وتفترضه (الشيء ذاته كحقيقة)، والتي من دونها لن تكون إلا وهما أو استيهاما. إنّ الحقيقة (الحقيقة كمطابقة والحقيقة كتمثل) تفترض الانكشاف alètheia كما هو في فكر الإغريق أو عند هيدجر، أي الحقيقة كانكشاف، كانبثاق للوجود، كحدث وكواقعة… بهذا المعنى، لو كنّا نتقن النظر ما كنّا في حاجة للرسم، إذ العالم والأشياء كافيان…أتّفق فعلا مع هذا الرأي، و ما إخال شاردان، الفنّان بمعنى الكلمة، إلا متّفقا هو كذلك. وإلا فلماذا يرغب، كما عبّر عن ذلك "أن تتعلّم العين رؤية الطبيعة"؟ لماذا يتأسّف كون جلّ الناس "لم يشاهدوا قطّ الطبيعة"؟ ذلك لأنّنا لا نجيد النظر، أو بالأحرى لا نتقنه. نحسن فقط الترقّب، والترصّد، والتفحّص والتأويل، وإصدار الأحكام. نبتغي العثور خلف الأشياء على سرّها، وحقيقتها ومعناها. لا نجيد النظر، فنسعى للتخمين. نخلط بين النظرة والتساؤل، بين الرؤية والتأويل، لا نكتفي بالمعرفة، فنتطلّع للفهم. نحن في حاجة لكلّ ذلك من أجل التحكّم والتغيير، والترقّب والتصرّف. تتّجه نظرتنا نحو الفعل أكثر ممّا تتّجه نحو الموضوع، تتّجه صوب النجاعة أكثر منها نحو التأمّل. أدركت العلوم منتهاها، وكذلك الأمر بالنسبة للتقنية، ممّا لا شك فيه أنّهما معا مفيدان وضروريان، لكنهما نقيض البساطة أو الحكمة. هكذا انفصلنا من تلقاء أنفسنا عن كلّ الأشياء. انفصلنا عن الواقع بالفكر، عن الحقيقة بالمعرفة، عن الحاضر بالتمثّل. أضحى العالم بالنسبة إلينا عائقا، ظلا، كأنه مشكلة أو خدعة. لقد غدونا جميعنا أفلاطونيين على وجه التقريب، وإن لم نقرأ أفلاطون، كانطيين دون أن نطّلع على كانط، سجناء الكهف، ما دمنا نعتقد في ذلك، سجناء الزمان والمكان، الفهم والذاتية، لنقل صرنا مثاليين، نتعلّق بالخرافة، نعتقد في الإيمان، متعطّشين لشيء ما، لموضع ما، لدلالة ما، لتعالٍ ما، مقتنعين جميعنا بوجود واقع يختفي وراء العالم، شيء ما في ذاته أو فكرة خلف الأجسام، أو خلف الصيرورة، ماهية وراء المظاهر، كمفتاح لغز، كمخرج، كحقيقة أصدق من الواقع… ثمّ إذا بكم، بعد كلّ هذا، تعاينون على اللوحة أرنبا ميتا، حجلا ونارنج برتقال…أو ثلاث تفاحات وكستناءين وقدحا من فضة…أو طفلا يلهو. تتوقّفون فجأة عن البحث والتحرّي. الحقيقة هنا ماثلة أمامكم. حاضرة. منكشفة. بادية للعيان في اللوحة؛ نعم في اللوحة، وفي كلّ مكان من العالم. لماذا ترغبون إذن في أن يغدو أرنب أو ثلاث تفاحات أكثر حقيقة من كلّ ما هو موجود؟ كأنّ الأمر يتعلّق بعملية قلب renversement. يفتننا فنّ شاردان التصويريّ بحقيقته، التي تخصّه وحده فقط، ثم يحيلنا على العالم الذي يحتويها، الذي تشير إليه، الذي تحتفي به، كحاصل الحقائق الممكنة والواقعية. الرسم روح، لكنّ الروح لا يتبدّى لذاته، إلا بمنحنا العالم. يتموقع الأثر الفنّي لشاردان، في أوج بهائه، بالضبط في عملية القلب هذه. هناك بادئ ذي بدء حقيقة الواقع، ثمّ الواقع كحقيقة. الحقيقة أولا veritasثم الانكشاف بعد ذلك alètheia ، التمثل ثم الحضور فيما بعد، الروح ثم العالم بعد ذلك. كما لو أنّ الأمر هو محض استراحة خلال مسار بحثنا، أو توقّف في مجرى سباقنا، أو سلم أثناء معركتنا، أو صمت في سياق خطاباتنا. ما الذي نبحث عنه إذن؟ إنها الحقيقة. لكن إن كانت الحقيقة هي التي تحتوينا، فما السبيل للإمساك بها؟ إن كان كلّ معنى يفترضها ويقتضيها، فما سبيلها هي ذاتها لامتلاك المعنى؟ هكذا ليس ثمّة شيء نخمّنه، ونفك شفراته ونؤوّله. يكفي أن نعرف ونتعرّف. لا وجود لشيء نتملّكه. تكفي الرؤية، ولن تظفر قطّ أية رؤية بامتلاك ما تراه. يتعلّق الأمر على كلّ حال بوضع تأمّليّ، بالمعنى المزدوج للكلمة، روحيّ وجماليّ. إن هذا الوضع هو ما يثيره ويوقظه فينا فنّ شاردان. تحبط فينا أجمل رسوماته للطبيعة الميتة كلّ تعليق وتأويل وثرثرة. إن كان لا بدّ من الحديث عنها، ما دمتُ قد تعهّدت بذلك، فدائما في مقابل ضرب من المفارقة، وعدم التطابق. الفنّ التصويريّ لشاردان هو الأكثر صمتا من كلّ الأعمال الفنّية للرسّامين. لا ينبغي الحديث عنه إلا في أفق جعل هذا الصمت أكثر شفافية، أكثر قابلية للإدراك واللمس. لا يملك قدح ماء، قرنفل، أو قفّة توت ما يقوله، ولا ما يدلّ عليه. إن كان الأثر الفنّي لشاردان يحيل على الواقع فإنّه يشير إليه على طريقته الخاصة، وذلك كي يؤكّد فعلا أنّ الواقع لا يحيل إلا على ذاته، لا يشير إلا لذاته ولا يمثّل إلا ذاته: ليكتف بذاته وليكفنا عنه ـ ما دام لا وجود لشيء آخر. لهذا السبب فالصمت والتأمّل متساوقان. لأنه لن يتسنّى لنا التأمّل ما لم نتوقّف عن التأويل. إذ لا يمكن لنا الاستسلام للواقعيّ إلا إذا توقّفنا عن إضفاء معنى عليه.
المصدر: