" أبطال الحكايات حقيقيون أكثر منا.."
- فرويد-
ليس من النادر أن يأتي عمل فنّيّ ليتأمّل من بعيد ويقول كلمته، بخصوص صراع إيديولوجي أو قومي، أو صراع سياسيّ يلبس لبوس الإيديولوجيا والقومية. ورغم كلّ وجهات النظر التي يكون الصراع قد تظاهر بها؛ تكون وجهة نظر العمل الفنّيّ الرفيع هي الأعمق والأصدق كاشفة ما لم يكن للمنخرطين في الصراع أن يكشفوا عنه لأنه ليس من وجهات النظر السائدة.. ويندرج فيلم house of sand and fog : (بيت الرمال والضباب) في هذا السياق الذي يحقّق المقولة النقدية القائلة : " الفنّ.. نوع من الفكر"!.
وغالبا ما تكون الأعمال الفنية التي نحن بصددها أعمالا رمزية يمكن قراءتها أو مشاهدتها مرّتين، مرّة بحسب سردها الظاهريّ، ومرّة بحسب سردها المبطّن المتوازي تماما مع الظاهر بشكل متقابل تقريبا، لذلك فهي ليست رمزية معقّدة بل بسيطة، وبدل أن تكون الرموز طلاسم وألغازا كما يخشى المشاهد العاديّ، فإنّها من خلال رمزيتها بالذات تفكّ ألغاز الموضوع السياسيّ الذي تتحدّث عنه. والفيلم الهامّ والمؤثّر ( بيت الرمال والضباب) للمخرج ( فاديم بيرلمان) ومن تمثيل (بن كينغسلي) و(جينيفر كونيللي):
يدور حول فتاة أمريكية تستيقظ من النوم صباحا على رنين جرس المنزل، فما أن تغادر غرفة نومها حتى تضطرّ إلى الوقوف على الرسائل الرسمية المتراكمة في المدخل، والتي من الواضح أنه قد تمّ دفعها من تحت الباب..! وسرعان ما تجد المدخل مسدودا بمجموعة من الرجال وعندما يتأكّد الطارق من هويتها يدخل ويدع الآخرين يدخلون، يملأ الرجال صالة المنزل وسط دهشتها، ويتلو عليها الرجل قرارا من المقاطعة بإخلاء المنزل تمهيدا لبيعه بالمزاد العلني بسبب عدم تسديد الضرائب المترتبة عليها وعدم ردّها على الإنذارات..! في الأثناء يقوم أحد الرجال بإبدال قفل الباب الخارجي!! ماتزال الفتاة واقفة بملابس النوم لا تكاد تصدق ما يجري من حولها، لكنّ مسؤول المقاطعة يتأهّب للرحيل مشيرا لأحد رجال الشرطة بأنّ عليه الآن التأكّد من تنفيذ القرار.. تنظر الفتاة إلى الشرطيّ الذي يقول لها بأنّها تستطيع الاتصال بالأصدقاء أو الأقارب فتردّ بأن لا أحد لديها!.. يمدّ لها يده ببطاقة تحمل عنوان مكتب مساعدات قانونية.. تتأكّد الفتاة بأنّ إخلاء المنزل محتّم من خلال عيني رجل الشرطة المتعاطف معها..
في مكان آخر نرى مجموعة من عمال الطرق أثناء تأدية عملهم الشاقّ وأثناء الاستراحة نرى أحدهم- رجل في العقد السادس من عمره- يتأمّل قصاصة جريدة : (إعلان عن بيت في المزاد العلني..) وفي المساء نرى الرجل نفسه يعمل بائعا في سوبر ماركت..والآن نراه مع بعض الزبائن الآخرين يتفحّصون المنزل المعروض للبيع..
في اليوم التالي نراه وقد وصل متأخّرا إلى مكان عمله الشاقّ فيلاقيه رئيس عمله بازدراء وتعال ويتأهّب لتعنيفه بكلمات قاسية، لكنّ الرجل الذي جاء هذه المرّة مرتديا ملابس أنيقة يردّ بازدراء وثقة بأنّه أتى من أجل تقديم استقالته..
هذا الرجل (مسعود بهراني) - وهو إيرانيّ مهاجر يقطن في الولايات المتحدة - يعود إلى منزله حملا باقة ورود، ويخبر زوجته (نادرة) بالخبر السعيد : "سوف نشتري بيتا يشبه بيت العطلات الذي كنا نملكه في الوطن"، لكنّ الزوجة تصرخ كمن تعرّض لطعنة : "لا..لا..لا." أمام أنظار ابنهما (إسماعيل)! لكنّ الرجل يصرّ بقسوة – شرقيّة- بأنهم سيتركون البيت الذي يكلّفه إيجارا باهظا وينتقلون إلى المنزل الذي اشتراه بربع ثمنه بالمزاد العلني..
الفتاة تأخذ أغراضها وتضعها في مستودع، وتعود بسيارتها في الليل وتنام قبالة بيتها الذي يسكنه الآن الرجل الذي أقنع زوجته وابنه بالانتقال إليه..لكنها تستيقظ في الصباح على ضجيج أعمال هدم وبناء تنظر من خلال زجاج سيارتها فتجد عمالا يزيلون جزءا من البيت من أجل بناء سلم خارجي وإحداث شرفة تجعل المالك يطلّ من بعيد على البحر، ممّا يجعل البيت أكثر شبها بالبيت الذي كان يسكنه في الوطن..والذي كان يطلّ على البحر أيضا.. تفقد الفتاة رشدها وتركض نحو العمال صارخة بهم لكنهم يقولون لها بأنّهم ينفّذون أوامر المالك الجديد، في اللحظة ذاتها تدوس بقدمها العارية على مسمار فتقع على الأرض وهي تتلوّى وتنزف.. يحضر المالك (مسعود بهراني) بسرعة ويحملها إلى داخل المنزل..تستقبلها زوجته (نادرة) وتقوم بتضميد قدم الفتاة بيديها، ثم تجلس الإثنتان معا : صاحبة المنزل وزوجة المالك الجديد وتحتسيان الشاي..تجول الفتاة بناظريها على المنزل الذي تحتلّه الآن أغراض السكان الجدد بأثاثهم الشرقيّ وترى كتابا غريبا(!) وضع بشكل عرضاني على رفوف المكتبة: ( القرآن الكريم)..
ترمز (الرمال) لإيران وللشرق الإسلامي بينما يرمز (الضباب) للغرب، والصراع على البيت بين الفتاة الأمريكية ومسعود بهراني هو صراع (الشرق والغرب) صراع على بيت (الرمال) و(الضباب).
***
في المشهد التالي بعد احتساء الشاي مع السيدة (نادرة) تذهب الفتاة إلى مكتب المساعدات القانونية، عملا بنصيحة الشرطيّ الذي أعطاها العنوان، وتلحّ على ضرورة استعادة منزلها، تبدي رئيسة المكتب تعاطفها مع الفتاة لكنّها تبدي استغرابها من القضية كلّها لأن كسل الفتاة وسلبيتها إذ تجاهلت الإنذارات بخصوص تسديد الضرائب التي لا تتجاوز قيمتها الـ(500) دولار هو سبب قيام المقاطعة ببيع المنزل في المزاد واسترداد مستحقّاتها و.. تقول المحامية أنّ الحل، أي استعادة المنزل من مالكه الجديد الذي اشتراه وفق القانون، ليس مستحيلا لكنه صعب جدا، والفتاة الآن، أي بعد دخول منزلها ورؤية الغرباء وأشيائهم داخله؛ أكثر إلحاحا على استعادة منزلها : " لا أريد هؤلاء وأشياءهم الغريبة في بيتي" تقول وتطلق إشارات سلبية حول السكان الذين اشتروا منزلها من المقاطعة .. رغم أنها لا تعرف هويتهم بالتحديد، تقول للمحامية : " لا أعرف.. إنهم من الشرق الأوسط".
تتوطد علاقتها بالشرطي الذي أشرف على إخراجها من المنزل، تلتقي به ويتبادلان الأحاديث تخبره بأنها مطلّقة تعيش - أو كانت تعيش - في المنزل الذي ورثته هي وشقيقها عن والدهما المتوفّى، وشقيقها يقيم ويعمل في ولاية أخرى كما تعيش أمّها في مكان بعيد وتهاتفها دائما لكن الفتاة لا تخبرها بمشكلاتها، ولا تشرك شقيقها نفسه بمشكلاتها وحتى عندما تضعف وتكلمه بعد تفاقم أزمتها بضياع البيت، فإنه يعتذر منها بسبب انشغاله بالأعمال..
الشرطي يخبرها من جهته بأنه متزوّج لكنه يعيش شبه فراغ عاطفيّ.. نكتشف من ورائهما حياة كئيبة لا تقلّ كآبة عمّا تعيشه أسرة (بهراني).. يجاري الشرطي الفتاة بنزوعها إلى الاقتراب من البيت رغم تحذيرات المحامية، في إحدى المرّات يقتربان في الوقت الذي يقيم فيه السيد (بهراني)وزوجته احتفالا باكتمال بناء الشرفة التي تطلّ على البحر البعيد مثل إطلالة بيتهما في إيران، ومن داخل سيارتهما يراقب الشرطي مجموعة من الأصدقاء الإيرانيين ضيوف السيد بهراني وهم يحتفلون بالبيت الجديد والشرفة المحدثة. ومن نظرات الشرطي الثاقبة وهوية المحتفلين؛ يتأكّد الفرز والمواجهة، ونرى السيد بهراني يلاحظ وحده سيارة الفتاة وهي تبتعد.
المخطط الرمزي للفيلم:
ترمز الزوجة نادرة لـ(إيران) بينما يرمز زوجها مسعود بهراني للنظام الإيراني السابق أما ابنهما (إسماعيل) فهو بصمته وسلبيته يبدو لامباليا وسط ما يدور حوله، وحتى عندما يقف في وجه أبيه الذي يضرب أمّه فإنه يفعل ذلك دون أن يتخلّى عن صمته ويتلقى من أبيه صفعة يعود بعدها إلى سلبيته لكنّ والده، بحنانه الشرقي أيضا، هو الذي يبادر إلى الاعتذار وإبداء العطف.. لكن (إسماعيل) يرمز للثورة الإيرانية كما سنرى. بالمقابل ترمز الفتاة التي تفقد بيتها بسلبيتها وكسلها للشعب الأمريكي الذي يبدّد إرثه، بينما يرمز الشرطيّ المتعاطف معها إلى النظام الأمريكي الذي يتجاوز القوانين بحجّة الدفاع عن مصالح الأمريكيين… وتكون الإشارات واضحة عندما يقترح الشرطي على الفتاة أن يذهب لوحده ويطلب من السيد بهراني إعادة البيت للفتاة واستعادة المبالغ التي دفعها قائلا إنّه رغم أنّ هذا تصرف غير قانوني ولكن باعتباره هو والسيد بهراني من العسكريين فقد يكون بإمكانهما التفاهم مع بعضهما أكثر ممّا يستطيعان مع المدنيين، ونكتشف أنّ السيد بهراني ليس ضابطا إيرانيا سابقا وحسب، بل إنه يحتفظ بصورة تجمعه مع الشاه السابق..
بعد فشل الحوار بين بهراني والشرطي الذي حاول تهديده بشكل غير قانوني تتفاقم المواجهة والإحساس بالخطر، وتتكشف نقمة السيد بهراني على ازدراء أمريكا وتخليها عنه رغم انتمائه لنظام حليف سابق.. كما يتفجّر غضب الزوجة نادرة على زوجها متّهمة إياه بالمسؤولية عن وضعهم الحالي فبسبب قيامه بقمع الشعب الإيراني هربوا من إيران وللسبب نفسه لا يجرؤون على العودة إلى وطنهم رغم وضعهم الشاذّ وتعرّضهم للخوف، وهنا يصفع السيد بهراني زوجته وللمرة الأولى يقف ( إسماعيل) في وجه أبيه بقوّة ولكن بصمت.. ويتعرّض لعنف أبيه.. في الوقت نفسه يتعرّض الشرطي للتحذير من المؤسّسة التي يتبعها من التعرّض للسيد بهراني، تصل الفتاة إلى اليأس من استعادة المنزل.. وفي أعماق الليل والصمت تقترب بسيارتها من المنزل بعد أن تشرب كمية كبيرة من الكحول تشهر مسدّسا وتصوّبه إلى رأسها لكنها تعجز عن قتل نفسها فتغرق في البكاء، ومن خلال الصمت والهدوء الليلي يصل نشيج الفتاة إلى أسماع السيد بهراني فيخرج مسرعا ليجد الفتاة داخل سيارتها تحمل مسدسها وهي بحالة من الإعياء تبلغ حدّ الانهيار.. يحمل السيد بهراني الفتاة إلى داخل المنزل يضع مسدّسها على الطاولة ويوقظ زوجته التي تساعدها وتدخل معها إلى الحمام يستيقظ (إسماعيل) على الجلبة فيجد مسدس الفتاة على الطاولة وتبلغ الرهافة الرمزية للفيلم أن يجلس (إسماعيل) قبالة المسدس ويحدق فيه، في الأثناء بينما الفتاة داخل الحمام وحدها وبعد مضيّ وقت يجب أن يكون كافيا للفتاة تدخل زوجة السيد بهراني فتجد أنّ الفتاة ابتلعت كمية من الحبوب في محاولة للانتحار.. فتنادي زوجها الذي يدخل لإنقاذها في هذا الوقت يكون الشرطيّ الذي يحوم حول المنزل قد اقترب من النافذة فرأى السيد بهراني وزوجته يحملان الفتاة وقد لفت بثوب، بينما ابنهما (إسماعيل) يجلس إلى الطاولة يمسك بالمسدس ويحدّق فيه، يقتحم الشرطي المنزل شاهرا مسدّسه ويدخل إلى الغرفة حيث بهراني وزوجته قد وضعا الفتاة على السرير وهما يحاولان إنقاذها فيظنّ أن أسرة بهراني قد قتلت الفتاة.. يحجز الشرطي الأسرة كلّها في الحمام في الوقت الذي حاولت فيه الفتاة أن توضّح للشرطي حقيقة الوضع، لكنّه أصرّ على الإجراءات التي اتّخذها بعد الذي رآه بعينيه : عائلة شرقية كادت تقتل فتاة أمريكية، ولن يقبل الآن بأقلّ من تنازل السيد بهراني عن المنزل واستعادة ماله، وأن تقوم الفتاة بشراء المنزل من المقاطعة. يقبل بهراني بالذهاب وحده مع الشرطي إلى المقاطعة غير أنّ الشرطي يصر على ذهاب (إسماعيل) معهما تحت تهديد السلاح، يذهب الثلاثة وتبقى المرأة الإيرانية مع الفتاة الأمريكية في المنزل، إنهما الضحيتان الأساسيتان لسياسات أمريكا وإيران، وهما تمثلان الشعبين الإيراني والأمريكي. ويخاطب الشرطي (إسماعيل) دائما بتلفظ الاسم بشكل خاطئ قائلا: (إشماعيل) بحرف (الشين) وكالعادة لا يردّ (إسماعيل) إلا بالصمت.
الخاتمة: اسمي إسماعيل..!
يصل الثلاثة إلى مبنى المقاطعة حيث يخفي الشرطي المسدّس عن أعين المارة لكنه يمسك ويتحكم بالسيد بهراني بطريقة مهينة، يغتنم (إسماعيل) فرصة في الأروقة ويهجم على الشرطيّ منتزعا منه مسدّسه فيحتمي الشرطي بالسيد بهراني الذي يجد نفسه بين الشرطي وبين ابنه الذي يوجه المسدس نحو الشرطي صارخا به : "اسمي هو إسماعيل وليس إشماعيل"، مما يرمز للعودة إلى الأصول نتيجة غطرسة السياسة الأمريكية وفشل سياسة الشاه الحليف لإيران. يحاول الأب بهراني تهدئة ابنه الذي صمت طويلا ولكن ليس بعد الآن، وهو ما يزال بين يدي الشرطي الذي يمسك به، أحد رجال الشرطة يسمع الجلبة فيقترب ويجد شابّا يصوّب مسدّسا نحو شرطيّ ورجل مدنيّ فيطلق النار على (إسماعيل) الذي يسقط على الفور.. يجنّ جنون والده، لم يعد يريد الآن المنزل ولا المال ولا أي شيء سوى إنقاذ ابنه، يهرع هو والشرطي لإسعاف (إسماعيل) إلى المستشفى وهناك يصلّي السيد بهراني ويتضرّع إلى الله.. لكن (إسماعيل) يموت!.. ويعود السيد بهراني إلى زوجته ولا يخبرها بوفاة ابنهما بل يصنع الشاي ويضع شيئا في فنجان زوجته وأثناء احتساء الشاي يحدث زوجته عن قراره بالعودة إلى إيران، سيعودان إلى الوطن، ويذكّرها بحدائق (أصفهان) الجميلة وهذا المشهد شديد التأثير ينتهي حين ينسكب الشاي من فنجان الزوجة وهي تضع رأسها على كتف زوجها وتصغي إلى حديث العودة إلى الوطن، يحملها زوجها ميتة إلى السرير ويقوم بإخراج ملابسه العسكرية القديمة، يرتدي ملابس الضابط في الجيش الإيراني ويضع على رأسه كيسا شفّافا ويرقد على السرير وهو يمسك بيد زوجته إلى أن يختنق.. تدخل الفتاة الأمريكية فتجدهما على هذه الحال تحاول إنقاذهما ثم تتكوّر على نفسها فوق السرير بينهما. في المشهد التالي نرى سيارات الشرطة والإسعاف تحيط بالمنزل ونجد الفتاة واقفة والضباب يلفّ المكان، يقترب شرطي منها ويسألها إن كان المنزل منزلها فتصمت للحظة وتجيب: " كلا إنه ليس منزلي"!