ولد مسيلمة بمنطقة الهدّار(1) باليمامة، وتشير الأخبار إلى أنّ مولده كان قبل ولادة عبد الله والد النبيّ أو قبل ولادة النبيّ(2) وأنّه كان من المعمّرين وتوفّي عن سنّ تناهز 150 عاما(3) ولا أظنّه عاش كلّ هذا الزمن، وإنّما المعنى أنّه عاش كثيرا وربّما توفّي، أو بالأحرى قتل، عن ثمانين أو تسعين أو حتّى مائة سنة، واسمه الصحيح هو "مسيلمة" وقد ذهب البعض مستشرقين إلى أنّ اسمه "مسلمة" وذكرته كتب التراث "مسيلمة" تصغيرا له وتحقيرا من شأنه، وهذا القول مردود من وجهين، الأوّل أنّ اسم مسيلمة ليس حكرا على نبيّ اليمامة وجاء في كتاب الردّة اسم "مسيلمة بن يزيد القشيري" كان مع الأشعث بن قيس حين ارتدّ في كندة(4) وذكر ابن الأثير في اللباب: (ناشر بن الأبيض بن كنانة بن مسيلمة بن عامر بن عمرو…بطن من همدان)(5) وجاء في معجم قبائل العرب: (عامر بن مسيلمة: بطن)(6) فالاسم بالتصغير لا يعني دائما التقليل والتحقير إذ قد يعني التعظيم والإكبار كقولنا "دويهية" لداهية، و"بطيل" لبطل، وربّما تستعمله العرب في أسماء الأعلام من باب التلطيف والإعزاز للمولود، فنجد من الأسماء "عمير" كعمير بن سعد، وكليب، وشريح بن الحارث، وطليحة، وسهيل، وعبيد، وعبيدة، وغيرهم كثير، ومثل ذلك مسلم ومسلمة ومسيلمة. والوجه الثاني هو العملة التي نشرها Philippe De Saxe-Cobourg في المجلّة البلجيكيّة للعملة التابعة للجمعيّة الملكيّة، وترجمة نصّ العملة إلى العربيّة: (بأمر أبو ثمامة مسيلمه رسول الله أمير المؤمنين)(7) وهي مكتوبة بالأحرف اليونانيّة واللاتينيّة، وهي ذهبيّة وعليها صورة هرقل وابنه، ولا نتعجّب من أن يضرب مسيلمة العملة باسمه، إن صحّت هذه القراءة، فما سنراه في ثنايا هذا البحث يدعّم فرضيّة أنّه كانت له مكانة كبيرة.
ونسبه الكامل على قول ابن حزم في جمهرة أنساب العرب: (مسيلمة الكذّاب بن ثمامة بن كثير بن حبيب بن الحارث بن عبد الحارث بن عديّ بن حنيفة، يكنّى أبا ثمامة)(8) وفي الاشتقاق لابن دريد: (مسيلمة بن حبيب، يكنّى أبا ثمامة الكذّاب)(9)، طبعا لفظة "الكذّاب" هي من إضافتهما، وبنو حنيفة يعودون إلى بكر بن وائل وهي من القبائل العربيّة المشهورة في الجاهليّة إن لم تكن أشهرها، ويقول ابن خلدون: (وأمّا بكر بن وائل ففيهم الشهرة والعدد […] ففي بني حنيفة بطون متعدّدة أكثرهم بنو الدول بن حنيفة، فيهم البيت والعدد، ومواطنهم باليمامة)(10) وهم قوم أهل زراعة وتحضّر، يصدّرون المنتوجات الفلاحيّة إلى بلدان عديدة ومنها مكّة حتّى سمّيت "ريف مكّة"(11) وفي اليمامة "سوق حجر" وهو من الأسواق الموسميّة ويأتيه التجّار والشعراء وتجري فيه منافرات ومفاخرات مثلما هو الشأن في عكاظ(12) ومن مشاهيرهم الأعشى ميمون الشاعر وهو من الفحول وشعره من الطبقة الأولى، وهوذة بن عليّ الحنفي ويكنّى بذي التاج وكان ممّن يزور كسرى في المهمّات(13) وقال المبرّد في الكامل: (كان هوذة ذا قدر عال وكانت له خرزات فتجعل على رأسه تشبّها بالملوك […] وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى هوذة، كما كتب إلى الملوك)(14) ومنهم يقظان بن زيد الحنفي ويقال له "مباري الريح" لجوده، وقد شاركت بنو حنيفة مع إخوانها من أبناء بكر بن وائل في معركة ذي قار وانتصروا فيها على الفرس، ويقول ابن حبيب في المحبّر: (وكانت وقعة ذي قار التي انتصفتْ فيها العرب من العجم […] ورسول الله بمكّة قبل أن يهاجر)(15) ورجّح أبو الفداء في المختصر تاريخ ذي قار بعد هجرة النبيّ عام وقعة بدر الأوّل(16) وصنّفها أبو عبيدة في "كتاب الديباج" ضمن أيّام العرب العظام(17) وقال النبيّ حين سمع بالانتصار في ذي قار: (بي نصروا)(18) وقد تعمّدتُ ذكر نبذة مقتضبة عن أبناء بكر بن وائل، حتّى نفهم فيما بعد حرب الردّة بين قريش وبني حنيفة وأسباب رفضهم لحكم قريش واعتزازهم بمآثرهم وماضيهم.
وكان اسم اليمامة "جو" وقد سُمّيت "اليمامة" نسبة إلى زرقاء اليمامة وقصّتها مشهورة، وكان قبل ذلك يسكن "جو" قبائل "طسم وجديس" فهاجمهم جيش "حمير" وهزمهم(19) وهذه الأخبار تتّفق مع نقش أركيولوجيّ في اليمن يعود إلى سنة 360 ميلادي وفيه أنّ الملك الحميري أرسل جيشا إلى "جو" وانتصر عليها(20) وفيها يقول الأعشى، إن صحّ الشعر إليه: ( فاستنزلوا أهل جوّ من مساكنهم**وهدّموا شاخص البنيان فاتّضعا) ثمّ سكن بنو حنيفة بعدهم، وفي ذلك قصّة كعادة الرواة.
وكان مسيلمة قد تنبّأ قبل مبعث النبيّ، داعيا إلى عبادة الرحمن حتّى سُمّي برحمان اليمامة، وحينما سمعت قريش "بسم الله الرحمن الرحيم" قال قائلهم للنبيّ محمّد: (دقّ فوك، إنّما تذكر مسيلمة رحمان اليمامة)(21) وذهب أهل التفسير إلى أنّ الآية 60 من سورة الفرقان (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن، قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا) كانت نقاشا حول مسيلمة، إذ يروي مقاتل في تفسيره: (قال أبو جهل: يا ابن أبي كبشة، تدعو إلى عبادة الرحمن الذي باليمامة)(22) وفي تفسير الطبري: (وذكر بعضهم أنّ مسيلمة كان يدعى الرحمن، فلمّا قال لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اسجدوا للرحمن، قالوا: أنسجد لما يأمرنا رحمان اليمامة؟)(23) وفي معالم التنزيل للبغوي: (ما نعرف الرحمن إلاّ رحمان اليمامة، يعنون مسيلمة الكذّاب، كانوا يسمّونه رحمان اليمامة)(24) وفي تفسير القرطبي: (ما نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذّاب)(25) وفي الجواهر للثعالبي: (يعني أنّ كفّار قريش قالوا: ما نعرف الرحمن إلاّ رحمان اليمامة)(26) وفي تفسير الرازي ويتميّز بأنّه مسند للصحابة والتابعين: (قد بلغنا أنّه إنّما يعلّمك هذا الذي تأتي به رجل من أهل اليمامة يقال له الرحمن وإنّا والله لن نؤمن به أبدا)(27) إلخ… لكنّ مسيلمة لم يدّع الألوهيّة ولا أظنّ قريشا تعنيه بالسجود في قولها (أنسجد لما تأمرنا) وإنّما رفضت هذه التسمية لأنّها لإله مسيلمة وهي تعرفه بالاسم (الرحمن) ولذلك قالوا: (أنسجد لما تأمرنا) على سبيل المناكرة وليس (أنسجد لمن تأمرنا) وإذ أنّ مسيلمة كان يدعو إلى عبادة الرحمن فقد غلب عليه هذا اللقب، فسمّي برحمان اليمامة، ولا أظنّ قريشا تجهل أنّ الرحمن هو الله، وهي لفظة مشهورة وقتئذ، ويستعملها اليهود والمسيحيون، وإنّما اعتراضهم، حسب رأيي، كان على التسمية بوصفها تحيل على مسيلمة وما يتبع ذلك من انقياد دينيّ من قريش لبني حنيفة، ولهذا قالوا إنّ مسيلمة يعلّم محمّدا القرآن حيث جاء في تفسير القرطبي: (قالوا: إنّما يعلّمه بشر وهو رحمان اليمامة يعنون مسيلمة الكذّاب، فأنزل الله تعالى: الرحمن علّم القرآن [إلى آخر السورة] )(28) وفي الكشّاف للزمخشري أنّ الوليد بن المغيرة قال: (وما الذي يقوله إلاّ سحر يؤثر عن مسيلمة وعن أهل بابل)(29) وفي معالم التنزيل في تفسير سورة المدّثّر: (إن هذا إلاّ قول البشر يعني يسارا وجبرا فهو يأثره عنهما، وقيل يرويه عن مسيلمة صاحب اليمامة)(30) وفي معاني القرآن للفرّاء: ( وما قوله إلاّ السحر تعلّمه من مسيلمة الكذّاب)(31)
ملاحظة1: يتّفق تقريبا المفسّرون على أنّ الآيات (إنّه فكّر وقدّر فقتل كيف قدّر ثمّ قتل كيف قدّر ثمّ نظر ثمّ عبس وبسر ثمّ أدبر واستكبر فقال إن هذا إلاّ سحر يؤثر إن هذا إلاّ قول البشر) (المدثّر، 15-28) كانت نزلت في الوليد بن المغيرة ويكنّى "الوحيد" في قومه لمعرفته بالبلاغة وأشعار العرب، وهو يقول: (إنّ هذا إلاّ قول البشر) وبغضّ النظر عن أنّها شهادة من رجل جاهليّ ذي مكانة في اللغة، فقد وُضعت رواية منسوبة للوليد بن المغيرة، نراها تتكرّر كثيرا عند المدافعين عن إعجاز القرآن، تقول: (قال الوليد: إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله مغدق، وما هو بقول البشر) فالقرآن نفسه يؤكّد أنّ الوليد اعتبره من قول البشر، وذلك بعد أن فكّر وقدّر، فكيف ننسب إليه عكس ما قال القرآن؟ فانظرْ، يا أصلحك الله، كيف توضع الروايات.
ملاحظة2: نلاحظ تكرّر لفظة الرحمن كثيرا في القرآن المكّي بعكس القرآن المدني وقد شككت في يكون النبيّ قد تعلّم من مسيلمة، وزوجة مسيلمة كانت من قريش وهي كيسة بن الحارث، من بني عبد شمس جدّ الأمويّين، وهي بنت أخي أروى والدة عثمان بن عفّان، وهي أيضا بنت أخي فاختة التي تزوّجها أبو العاصي بن الربيع بعد وفاة زوجته زينب بنت النبيّ، ولا تذكر الأخبار أنّ كيسة قد ولدت لمسيلمة بل لا تذكر له عقبا أصلا، وجاء ذكر "شرحبيل بن مسيلمة" عند الذهبي في تاريخ الإسلام(32) وكان محاربا مع بني حنيفة في حروب الردّة، وربّما هو ابن مسيلمة فمات مع أبيه وانقطع ذكره. وجدّ كيسة بنت الحارث، كان متزوّجا من البيضاء بنت عبد المطّلب، عمّة النبيّ.(33) وليس من المستبعد أن يكون مسيلمة زار مكّة مرارا، وزوجته قرشيّة، لكنّنا لا نملك دليلا على تعلّم النبيّ من مسيلمة سوى الإشاعات التي أطلقتها قريش ونقلتها لنا الأخبار.
أرسل النبيّ سرايا وبعوثا وجيوشا من المدينة إلى عديد الأماكن في الجزيرة العربيّة لكنّه لم يحاول غزو بني حنيفة، بل أنّه أرسل جيشا إلى مؤتة لمحاربة الإمبراطوريّة البيزنطيّة بجيشها النظاميّ الكبير الذي يبلغ مائة ألف وخرج بنفسه إلى تبوك، ورغم ذلك لم يرسل جيشا واحدا إلى اليمامة خاصّة أنّ فيها شخصا يدّعي النبوّة، وهو ما يجعلنا نرجّح بعد تمحيص وغربلة للأخبار والأحاديث أنّ مسيلمة لم يكن معارضا للنبيّ ففي الأخير هما يدعوان إلى إله واحد توحيديّ، ولا إشكال، من حيث المبدأ، في أن يرسل الله أكثر من نبيّ في عصر واحد: (واضربْ لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، إذ أرسلنا إليهم إثنين فكذّبوهما فعزّزنا بثالث فقالوا إنّا إليكم مرسلون) (يس، 13-14) ففي هذه الآية أرسل الله رسولين ثمّ عزّزهما بثالث، وكذلك لا إشكال في أن يرسل الله مسيلمة ومحمّدا في عصر واحد، ولا يتعارض هذا مع كون النبيّ محمّد خاتم المرسلين. ونحن نعطي هذه الأمثلة لنوضّح أنّه لا مشكلة من الناحية النظريّة الإسلاميّة في أن يكون مسيلمة نبيّا مرسلا مع النبيّ محمّد، وأؤكّد أنّنا نتحدّث من ناحية المبدأ فقط دون أن نتناول صدق أو كذب النبيّ الآخر. كما أنّ مقتل مدّعي النبوّة لا يعني أنّه كان كاذبا، ونجاحه لا يعني أنّه كان صادقا، والقرآن نفسه يشير إلى أنّ بعض الأنبياء قد تعرّضوا إلى القتل: (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حقّ وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلاّ قليلا) (النساء، 155) فقتل النبيّ وفشل دعوته لا يعني أنّه كان كاذبا، كذلك قتل مسيلمة وفشل دعوته. وإذ أشرنا إلى أنّ فشل الدعوة لا يعني أنّ مؤسّسها كاذب، فكذلك نضرب مثالا على أنّ نجاح الدعوة لا يعني صدق مؤسّسها، وأبلغ مثال عندنا هو الديانة المسيحيّة واعتبار عيسى ابن الله، فمليارات البشر آمنوا ويؤمنون وسيؤمنون بهذه العقيدة، رغم أنّها عقيدة كافرة من وجهة النظر الإسلاميّة، كقول القرآن (لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم) (المائدة، 17) وتكاد أن تنشقّ الأرض من كفر هذه العقيدة: (تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا) (مريم، 90) فمنذ ألفي سنة والجبال تكاد أن تخرّ ورغم ذلك فقد نجحت العقيدة المسيحيّة وانتشرتْ في أنحاء العالم.
والنبيّ لم يحارب مسيلمة وإنّما حاربته قريش في عهد أبي بكر تحت غطاء الردّة، وذلك بعد أن اقترنتْ النبوّة بالملك، فقريش تستمدّ شرعيّتها من النبيّ محمّد لتبسط سلطانها على جميع العرب، فرفضت بنو حنيفة هذا الحكم القرشيّ، فإن كان هناك تفاضل في المآثر والمجد فبنو حنيفة يرون أنّهم أحقّ بذلك وإن كان هناك تفاضل غيبيّ بالنبوّة فبنو حنيفة يرون أيضا أنّ النبوّة فيهم، ويروي الزمخشري إنّ رهط مسيلمة كانوا يقولون: (نحن أنبياء الله)(34) وتروي الأخبار أنّ مسيلمة قال: (يا بني حنيفة، أريد أن تخبروني بماذا صارت قريش أحقّ بالنبوّة والإمامة منكم؟ والله ما هم بأكثر منكم وأنجد، وإنّ بلادكم لأوسع من بلادهم، وأموالكم أكثر من أموالهم)(35) وقد وُضعت أحاديث كثيرة توطّد حكم قريش وإمامتها على العرب، حتّى وصلت درجة بعضها إلى درجة الحديث المتواتر، وأرجّح أنّ هذه الروايات التي تتحدّث عن فضل قريش وأحقيّتها بالإمارة والحكم إنّما برزتْ بعد وفاة النبيّ بعد حروب الردّة، وقد لاحظ فرج فودة ملاحظة ذكيّة قائلا: (وهي كلّها أحاديث وضعها من لا دين لهم إلاّ هوى الحكّام، ولا ضمير لهم ولا عقيدة، لكنّك في نفس الوقت تخشى من اتّهامك بالعداء للسنّة […] ولا تجد مهرباً إلا بتداعيات اجتماع سقيفة بني ساعدة في المدينة، والذي اجتمع فيه الأنصار لانتخاب سعد بن عبادة، وسارع أبو بكر وعمر وأبو عبيده الجراح إليهم ورشّحوا أبا بكر، ودار حوار طويل بين الطرفين، انتهى بمبايعة أبي بكر، وأنت في استعراضك للحوار، لا تجد ذكراً للحديث النبويّ السابق، وهو إن كان حديثاً صحيحاً لما جرؤ سعد بن عبادة سيّد الخزرج على ترشيح نفسه، ولكفى أبا بكر وعمر والجرّاح مؤونة المناظرة، ولما فاتهم أن يذكروه وهو في يدهم سلاح ماض يحسم النقاش، ويكفي أن تعلم أنّ سعد بن عبادة ظل رافضاً لبيعة أبي بكر إلى أن مات، ولم يجد من يأخذ بيده إلى هذا الحديث فيبايع عن رضى وهو الصحابي الجليل ذو المواقف غير المنكورة في الإسلام)(36)
فلم يحدث الصدام بين قريش وبني حنيفة إلاّ بعد وفاة النبيّ، أمّا أثناء حياته فلم تكن العلاقة بين مسيلمة ومحمّد بهذه الحدّة، وقد كان لقرآن مسيلمة تأثير حتّى على الناس في المدينة وتحدّث الناس به حيث يروي الهيثمي في مجمع الزوائد: (أكثر الناس في شأن مسيلمة قبل أن يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه شيئا فقام رسول الله خطيبا فقال: أمّا بعد، ففي شأن هذا الرجل الذي قد أكثرتم فيه وأنّه كذّاب من ثلاثين كذّابا يخرجون من بين يدي الساعة وإنّه ليس من بلد إلاّ يبلغه رعب المسيح/ رواه أحمد والطبراني وأحد أسانيد أحمد والطبراني رجاله رجال الصحيح)(37) ونستشفّ من هذا الخبر أنّ مسيلمة شغل الناس، ولا يمكن أن يشغلهم بقرآن ركيك، ومن الواضح أنّه أهمّ النبيّ أيضا وشغل باله حيث جاء في الصحيح أنّ النبيّ رأى في المنام وكأنّ في يديه سوارين من ذهب، وهذا المنام يوحي نفسيّا بشعور من التقييد والهمّ، وفسّر النبيّ منامه بمسيلمة والعنسيّ(38) وأخرج الحاكم في المستدرك: (أتى رسول الله مسيلمة، فقال له مسيلمة: تشهد أنّي رسول الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: آمنت بالله ورسله، ثمّ قال: إنّ هذا رجل أخّر لهلكة قومه، هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)(39) وكأنّ النبيّ كان يشكّ في حال مسيلمة فلم ينف ولم يؤكّد وإنّما بيّن إيمانه بالله ورسله وجاء في الحديث الصحيح أنّ مسيلمة زار النبيّ في المدينة حيث أخرج البخاري: (قدم مسيلمة الكذّاب على عهد رسول الله فجعل يقول: إن جعل لي محمّد الأمر من بعده تبعته وقدمها في بشر كثير من قومه فأقبل إليه رسول الله ومعه ثابت بن قيس بن شمّاس وفي يد رسول الله قطعة جريد حتّى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال: لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ولن تعدو أمر الله فيك ولئن أدبرت ليعقرنّك الله وإنّي لأراك الذي أريت فيك ما رأيت)(40) ونحن نستبعد أن يكون مسيلمة قد طلب الإمارة بعد النبيّ، خاصّة أنّه جاء في جيش كبير إلى المدينة، وإنّما الدلائل تشير إلى أنّه جاء يطالب بتقاسم الأرض، فنصف لقريش ونصف لبني حنيفة، وهو نفسه الجواب الذي ردّ به ملك اليمامة هوذة بن عليّ على رسالة النبيّ قائلا: (إن جعل الأمر لي من بعده سرت إليه وأسلمت ونصرته وإلاّ قصدت حربه، فقال النبيّ: لا، ولا كرامة، اللهمّ اكفنيه)(41) ولا أظنّ أنّ هوذة بن عليّ طلب أن يكون الأمر له من بعد محمّد، فهذا غير منطقي وهو أصلا ملك على اليمامة وله من القوّة والعدد ما يستطيع أن يحافظ به على مكانته، وإنّما الراجح عندنا أنّ جواب هوذة الحقيقيّ هو أن يقتسم الأرض مع محمّد، أو أن يحافظ كلّ منهما على ما تحت يديه فلا يعتدي أحدهما على الآخر، ويبدو أنّه كان بينهما اتّفاق "دبلوماسيّ" بتعبير عصرنا وسلام وتبادل للهدايا، حيث يذكر ابن حجر في الإصابة شخصا اسمه "كركرة": ( كركرة، مولى رسول الله كان نوبيّا، أهداه له هوذة بن عليّ الحنفيّ اليماميّ)(42) كما أنّ هوذة حين أتاه رسول النبيّ، وهو سليط بن عمرو، أجازه بجائزة وكسوة، ولذلك نفهم الكلام المنسوب إلى مسيلمة قائلا: (إنّ قريشا قوم يعتدون)(43) ويجعل أهل الأخبار هذا الكلام في مراسلة بين النبيّ ومسيلمة ونحن نرجّح أنّه وقع بين أبي بكر ومسيلمة.
يردّد البعض أنّ بني حنيفة اتّبعتْ مسيلمة بسبب العصبيّة القبليّة، ويستشهدون بما ذكره الطبري في تاريخه قول أحد أتباع مسيلمة: ( كذّاب ربيعة أحبّ إليّ من صادق مضر) فالقائل يعلم أنّ مسيلمة، وهو من ربيعة، كذّاب، وأنّ محمّدا، وهو من مضر، صادق، لكنّه تبع مسيلمة عصبيّةً، لكنّ هؤلاء يغفلون عمّا أورده الطبري، برواية أخرى، في السطر الموالي مباشرة وهو أنّ هذا الرجل قال: (كذّاب ربيعة أحبّ إليّ من كذّاب مضر)(44) فالرجل يعتبر مسيلمة ومحمّدا كذّابين على السواء، والروايتان يرويهما سيف بن عمر وقد تقدّم الحديث بشأنه في الجزء الأوّل. ولو عقدنا مقارنة سريعة بين مسيلمة ومحمّد، للاحظنا أنّ النبيّ حينما كان بمكّة، وطيلة دعوته، لم يتّبعه إلاّ حوالي مائة شخص، ولم يؤثّر قرآنه فيهم، ولم يبدأ الناس في دخول الإسلام إلاّ بعد الهجرة بفضل الغزوات والغارات، بينما لم يذكر التاريخ أنّ مسيلمة أغار على غيره، وقد اتّبعه الآلاف، ممّا يشير إلى تأثير قرآنه عليهم.
وقد وصلنا بيتان من الشعر في مدح مسيلمة، فالأوّل على البحر البسيط من قصيدة لشاعر من بني حنيفة: ( سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا***وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا)(45) ويعلّق الزمخشري: ( وأمّا قول بني حنيفة في مسيلمة: رحمان اليمامة، وقول شاعرهم فيه: وأَنْتَ غَيْثُ الوَرَى لا زِلْتَ رَحْمَانَا، فباب من تعنّتهم في كفرهم)(46) والبيت الآخر، على الوافر، أورده فخر الدين الرازي في التفسير الكبير: ( وأمّا قول الشاعر: وجوه ناظرات يوم بدر***إلى الرحمن تنتظر الخلاصا، قلنا هذا الشعر موضوع، والرواية الصحيحة: وجوه ناظرات يوم بكر***إلى الرحمن تنتظر الخلاصا، والمراد من هذا الرحمن مسيلمة الكذّاب، لأنّهم كانوا يسمّونه رحمن اليمامة، فأصحابه كانوا ينظرون إليه ويتوقّعون منه التخلّص من الأعداء)(47) ونلاحظ الوفاء الشديد الذي يكنّه أتباع مسيلمة لنبيّهم، واستعدادهم للتضحية بأرواحهم، فقد جاء رسولان من مسيلمة إلى النبيّ وأحدهما يدعى ابن النوّاحة فقال له النبيّ: (أتشهد أنّي رسول الله؟ فقال: أشهد أنّ مسيلمة رسول الله، فقال رسول الله: لو كنت قاتلا رسولا لقتلتك)(48) وهناك من أصحاب مسيلمة من أسلم وقرأ القرآن ثمّ ارتدّ وعاد إلى اليمامة حيث يروي ابن الأثير في الكامل: (وأمّا مجاعة والرجّال فأسلما، وأقام الرجّال عند رسول الله حتّى قرأ سورة البقرة وغيرها وتفقّه وعاد إلى اليمامة فارتدّ، وشهد أنّ رسول الله أشرك مسيلمة معه فكانت فتنته أشدّ من فتنة مسيلمة)(49) ولنا أن نتعجّب من شدّة تعلّق أصحاب مسيلمة به إذ أنّه حينما اتّجه خالد بن الوليد إلى اليمامة لمحاربة مسيلمة في الردّة قبض، في طريقه، على جماعة من بني حنيفة عددهم ثلاثة وعشرون رجلا: ( فقال لهم خالد: يا بني حنيفة، ماذا تقولون في صاحبكم مسيلمة؟ فقالوا: نقول إنّه شريك محمّد بن عبد الله في نبوّته […] فقدّم خالد بقيّة القوم وضرب أعناقهم صبرا)(50) وقد قتلهم خالد صبرا وكان لهم متّسع من الوقت للتراجع أو "التوبة" ورغم ذلك أصرّوا على موقفهم حتّى قطعت أعناقهم.
ويشير ابن كثير في البداية والنهاية إلى عدد الجيش الضخم الذي كان يدافع عن مسيلمة: (وقد ذكر ذلك مستقصى في أيام الصديق حين بعث خالد بن الوليد لقتال مسيلمة وبني حنيفة، وكانوا في قريب من مائة ألف أو يزيدون، وكان المسلمون بضعة عشر ألفا)(51) وهذا رقم مهول مبالغ فيه، وإنّما المعنى الذي نستخلصه هو أنّ عدد بني حنيفة المساندين لمسيلمة كان كثيرا ويفوق عدد المسلمين، وقد استمات الحنفيّون في الدفاع حتّى استحرّ القتل بين الطرفين، ولهذا السبب قام أبو بكر بجمع القرآن في مصحف، قبل جمع عثمان، حيث قُتل الكثير من حملة القرآن في اليمامة، وكانت مذبحة بين قريش وأتباعها وحنيفة، وهذا هو طريق الملك والسلطان، طريق معبّد بالجماجم والدماء، وقد سبى المسلمون نساء بني حنيفة ومنهنّ خولة بنت قيس كانت من نصيب عليّ بن أبي طالب وأنجب منها محمّد بن الحنفيّة وكنيته "أبو القاسم" واسمه وكنيته وسيرته تتشابه كثيرا مع النبيّ محمّد وهو ما دفع سليمان بشير إلى القول بوجود خلط في أحداث السيرة النبويّة وإنّها مستمدّة من سيرة محمّد بن الحنفيّة(52)
وحينما قُتل مسيلمة صرخت جارية من فوق قصره تندب مسيلمة قائلة: (وا أمير المؤمنيناه)(53) وقال أحدهم يرثيه: (لهفي عليك أبا ثمامه***لهفي على ركني شمامه/ كم آية لك فيهمُ***كالشمس تطلع من غمامه)(54) وبعد موت مسيلمة لم تفتر دعوته تماما وإنّما بقي البعض يردّدون آيات من قرآنه ويصلّون بها حتّى زمن خلافة عثمان بن عفّان، وقد روى أحمد والدارمي والبزار والنسائي وغيرهم رواية بألفاظ مختلفة وخلاصتها: كان لبني حنيفة مسجد في الكوفة آذانه: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ مسيلمة رسول الله، وكانوا يقيمون الصلاة بقرآن مسيلمة، ويفشون أحاديثه، فسمعهم رجل فنقل خبرهم إلى عبد الله بن مسعود وكان والي الكوفة في زمن عثمان بن عفّان، فأرسل من قبض عليهم وجاء بهم، فاستتابهم، فتاب بعضهم وأبى بعضهم، فضرب أعناق الذين أبوا(55) ويبدو أن لا فرق بين دين محمّد ومسيلمة من حيث الجوهر وربّما من حيث العبادات أيضا، بل ربّما يكون مسيلمة متشدّدا في الدين أكثر من النبيّ إذ يذكر ابن سعد بإسناد حسن (عن أبي مريم الحنفي أنّ عمر بن الخطاب دخل مربدا له ثمّ خرج فجعل يقرأ القرآن، قال له أبو مريم: يا أمير المؤمنين إنك خرجت من الخلاء، فقال: أمسيلمة أفتاك بهذا؟)(56) وأبو مريم كان من أصحاب مسيلمة وهو قاتل زيد بن عمر بن الخطّاب في معركة اليمامة، وفي هذا الحديث أنّ عمرا خرج إلى الخلاء لقضاء حاجة ثمّ عاد وأخذ يقرأ القرآن فأشار عليه أبو مريم بضرورة الوضوء، فقال له عمر: هل هذا من فتاوى مسيلمة؟