إسمع واسكت المعطي قبال -
mkabbal@gmail.com ترتكز الدبلوماسية على ثلاث دعائم رئيسية: النفاق والكذب والسرية. إن كان النفاق والكذب مرشحان لعمر مديد، فإن حبل السرية أصبح، على العكس، قصيرا بعد تسريب موقع «ويكيليكس»، الأسبوع الماضي، الدفعة الأولى من المذكرات التي حررها دبلوماسيون أمريكيون معتمدون في بعض العواصم العالمية. لأول مرة في تاريخ الدبلوماسية العالمية، فقدت السرية غشاءها السميك لتعرض علينا مشهدا مفعما بالدسائس والضغينة، بالنفاق والبهتان. بشراكة خمسة صحف عالمية (الغارديان، نيويورك تايمز، إلباييس، دير شبيغل، لوموند)، شرع الموقع الإلكتروني «ويكيليكس»، إذن، في تسريب الارتسامات، التعاليق، الخواطر (أو ما يسمى في المصطلح الدبلوماسي المذكرات)، وذلك على شكل رسائل يصل مجموعها في الأخير إلى 250000 وثيقة. واستعراض أولي للارتسامات، التي دونها هؤلاء الدبلوماسيون الأمريكيون، يوضح مدى «الاحترام» و«التقدير» الذي تكنه الولايات المتحدة -ممثلة في كتابة الدولة في الخارجية- للخصوم والأصدقاء على حد سواء. في ما يتعلق بالرئيس الأفغاني حميد كرزاي، تحدثت المذكرة عن «شخص ضعيف». أما أخوه أحمد وليد كرزاي، فهو «شخص مرتش ومتاجر في المخدرات». فيما يخص العربية السعودية، الحليف الرئيسي الثاني للولايات المتحدة الأمريكية، فهي مسكونة بالهوس الإيراني، الشيء الذي كان من وراء النداء الذي وجهه العاهل السعودي إلى الأمريكيين بضرب النظام الإيراني و»سحق رأس الثعبان».
بعد الملك عبد الله بن عبد العزيز والعقيد القذافي (الذي ترافقه باستمرار «بوديغارد» ذات صدر مكتنز) والرئيس اليمني علي عبد الله صالح، من المنتظر أن يصدر الموقع مستقبلا مذكرات جديدة تخص شخصيات سياسية ورؤساء آخرين، أمثال: عمر البشير، حسني مبارك، عبد العزيز بوتفليقة... إلخ، الذين لا يعدون -في نظر الدبلوماسيين الأمريكيين الذين صادفوهم أو احتكوا بهم- كونهم «أقزاما سياسيين»... بعد دول الخليج، يقربنا المشهد من بعض رؤساء مراكز القرار، وبخاصة رؤساء الدول الأوربية، الذين كالت لهم هذه «الكيبلات» أو الرسائل، بسخاء، نعوت تصغير بل وتحقير، فالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل تخاف من ظلها وتفتقر إلى الإرادة السياسية. أما دفيد كاميرون، الوزير الأول البريطاني السابق، فهو إنسان سطحي. بيرلسكوني؟ شخص متصابٍ ولا يملك أي حس بالمسؤولية. فيما الوزير الأول الروسي فلادمير بوتين «فحل مستبد». أما الرئيس التركي أوردوغان فـ»يكره إسرائيل». لكن الحيز الوافر من هذه المذكرات خصص للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، الذي وصفته مذكرة أحد الدبلوماسيين الأمريكيين بكونه «أول رئيس فرنسي مقرب من أمريكا منذ الحرب الكونية الثانية». وقد أبان عن هذا الانحياز خلال رئاسة جورج بوش الابن. كونه من دعاة الليبرالية الجديدة لم يمنع بعض السفراء والدبلوماسيين من وصفه بكونه «شخصا شديد الحساسية وذا ميولات سلطوية»، حيث يستعمل وسائل الزجر مع مساعديه. وتشير مذكرة أخرى حررها غريغ ستابلوتون، السفير الأمريكي السابق عام 2006، إلى ساركوزي لما كان وزيرا للداخلية. أثناء زيارته لساركوزي، الذي كان يستعد للإعلان عن ترشحه للرئاسة، نادى هذا الأخير من نافذة مكتبه على ابنه الأصغر، البالغ من العمر 9 سنوات. تقدم الابن يجر كلبا بيد ويحمل أرنبا في اليد الأخرى. شعر ساركوزي بالفخر وهو يقدم ابنه إلى السفير. وضع الابن الأرنب على الأرض ليسلم على السفير، لكن الأرنب تسلل إلى الخارج، حيث ركض من خلفه الكلب، وتبعهما ساركوزي الذي جثا على ركبتيه للإمساك بالأرنب. خجل السفير من منظر المرشح للرئاسة وهو جاثٍ يبحث عن أرنب! وتشير مذكرات أخرى إلى أنه أصبح واجما وحزينا منذ طلاقه من سيسيليا، زوجته السابقة.
أولى الدروس التي يمكن استخلاصها من قراءة هذه التقارير أن دول الخليج، وبخاصة السعودية، تخاف من البعبع النووي الإيراني بحكم جوارها الجغرافي للجمهورية الإسلامية وعدم توفرها على الحماية النووية اللازمة. العبرة الثانية هي تماس وتقاطع وجهات نظر دول الخليج وإسرائيل من حول ضرورة نزع الشوكة النووية الإيرانية، التي اشتد عودها بفعل الإطاحة بنظام صدام وإضعاف دور السنة والمسيحيين. ثالث عبرة هي عجرفة وتعالي الدبلوماسية الأمريكية، بل وقاحتها التي ينهل خطابها من المعجم السياسي والدبلوماسي الإسرائيلي: نفس العبارات، نفس المصطلحات ونفس الحقد. المأساة هي أن جميع الأطراف التي كانت محط تصغير واستهزاء من طرف الدبلوماسية الأمريكية، بدل أن تحتج على هذه السلوكات، لزمت الصمت مغلوبا على أمرها. وهذا ما يطلق عليه البعض في لغة الدبلوماسية: «اسمع واسكت».