من خلال المقال التالي سوف أسلط الضوء على المسألة التوحيدية , وسوف أنقل بعض الصلوات القديمة التي استدل عبرها المؤرخون على أقدمية التوحيد الرافدي على حساب التوراتيات , كذلك يحكي هذا المقال - ويبوح صراحةً - أنه لا قيود حقيقية بين التوحيد والشرك كمفهومين ميثولوجيين متناقضين , بل نستطيع التأكد من هذا بسهولة , فبلا شرك ما كان للتوحيد ظهوراً , فهو مولود من رحم الآلهة المتعددة , لهذا فالاختلافات تنمحي تماماً بين التوحيد والشرك والوثنية , لأن المفهوم الإلهي تمّت أسطرته تاريخياً , وكان عبارة عن تصوّر ذهني ميتافيزيقي , يحاول التصالح مع المادة عبر الوثنية التي نناقشها في مقالنا هذا مع التوحيد .
ترتيلة آمون )
واحد ولاثاني له , واحد خالق كل شيء
قائمٌ منذ البدء عندما لم يكن حولهُ شيء
والمخلوقات خلقها بعدما أظهر نفسه إلى الوجود
أبو البدايات , أزلي , أبدي , دائمٌ , قائم
خفي لا يُعرف له شكل , وليس له من شبيه
سرٌ لا تُدركهُ المخلوقات , خفي عن النّاس والآلهة
سرٌ إسمه , ولا يدري الإنسان كيف يعرفه
سرٌ خفيٌ إسمه , وهو الكثير الأسماء
هو الحقيقة , يحيا في الحقيقةِ , إنّه ملكُ الحقيقةِ
هو الحياة الأبديّة , به يحيا الإنسان , ينفخ في أنفه نسمة الحياةِ
هو الأبُ والأم , أبو الآباء وأم الأمّهات
لم يلد ولم يولد , لم ينجب ولم ينجبه أحد
خالق ولم يخلقه أحد
صنع نفسه بنفسه
هو الوجود بذاته , لايزيد ولا ينقص
خالق الكون , صانع ما كان والذي يكون وما سيكون
عندما يتصوّر في قلبهِ شيئاً يظهر إلى الوجودِ
وما ينجم عن كلمته يبقى أبد الدّهور
أبو الآلهة رحيمٌ بعبادة
يسمع دعوة الدّاعي
يجزي العباد الشكورين ويبسط رعايته لهم
آمون
كانت هذه ترتيلة مصريّة غاية في القدم منذ فجر السلالات إلى نهاية التاريخ الفرعوني , وقمت باقتباسها من كتاب فراس السواح ( الأسطورة والمعنى - دار علاء الدين ) حيث أثبتت هذه الترتيلة المقدّسة صدق شكوك الباحثين الميثولوجيّين والتي دارت حول فكرة التوحيد العريقة لدى قدامى المصريين ولم تكن توراتيّة المنشأ كما يتصوّر البعض ممّن يرون أن التوحيد كان مؤسساً على الوحي الإبراهيمي , وكما يظهر من المقتطف السابق , أو كما سيظهر من المقتطف القادم , فإن المصريين آمنوا بإله واحد , موجود بذاته , خفي وأزلي , شامل القدرة والمعرفة , لا تدركه الأذهان ولا العقول , ومُرسلٌ للرسل وخالق للكائنات الطائعة له . وكان الإسم المُختار لهذه الأسطورة الإلهية هو نتر Netr
وصار دلالةً هيروغليفيّة للألوهية في الخط المصري . ومن مواصفات نتر أنّه رهيب القوّة , وهائل المقدرة , وهذا ما رفعه فوق سائر الآلهة وميّزه عنهم .
كما أورد فراس السّواح ترتيلة فرعونيّة ثانية تدور في الفلك التوحيدي الفرعوني الصّرف , ووصفها السواح بأنها ( درّة الدرر التوحيدية ) وكانت مرفوعة إلى الإله المصري آمون من حوالي 1300 ق . م , جاء فيها :
هو الذي ظهر إلى الوجود في الأزمان البدئيّة
آمون الذي جاء إلى الوجود في الأزمان البدئيّة
طبيعته خفيّة وغامضة لا يُسبر غورها
لم يأتِ إلى الوجودِ إله قبله
ولم يكن معهُ أحد
لم يكن معهُ في ذلك الوقت إله ليخبرنا عن شكله
بلا أمٍ ينتسب إليها
بلا أبٍ يقول هذا أنا
صنع البيضةَ التي خرج منها بنفسهِ
هذه التراتيل تثبت تأثّر الديانات الوثنيّة في مصر بالمفاهيم التوحيدية , وتنفي ادّعاءات ذوي الأديان الإبراهيمية بأنهم السبّاقون في توحيد الله , وكذا في الأديان والأساطير الرافدية يبرز التوحيد من أنقاض الشرك و والمقصود بالشرك إشراك أكثر من إله واحد في طقس ما , أو في عقيدة ما , وكان الرافديون يقدّسون كبير الآلهة وعظيمها , وهو أحقها وأجدرها بالعبادة حسب التصوّر البدائي السّائد في تلك الحقبة التاريخيّة , وهذه الترتيلة توحي بوجود تقديس خاص لكبير الآلهة ( إنليل ) في مدينة نيبور العراقية , وقمت بانتقاء أجزاء من الترتيلة الطويلة جداً التي دوّنها فراس السواح , وأتى فيها :
إنليل ذو الكلمة المقدّسة والأوامر النافذة
يقدّر المصائر للمستقبل البعيد , وأحكامه لا مبدل لها
الرب المبجّل في السّماءِ والأرضِ , العليم الذي يفهم الأفهام
وحده أمير السماءِ , وحده عظيم الأرض
لولا إنليل الجبل العظيم , لم تُبن المدن ولا القرى
ولم يفض البحر بكنوزه الوفيرةِ
ولم يضع السّمك بيوضة بين أجمّات القصب
ولم تصنع طيور الجو أعشاشها في طول البلاد وعرضها
لولاه لم تفتح الغيومُ الماطرةُ أفواهها في السّماء
ولم تمتلىء الحقول والمروج بخيرات الحبوب
ولم تطلع الحشائش والأعشاب بهية في البوادي
ولم يكن لبقرة أن تضع عجلها في الإسطبل
ولم يكن لغنمة أن تنجب حملها في الحظيرةِ
ولم يكن لذواتِ الأربعِ نسلٌ ولم يقفز ذكرها على أنثى
إن أعمالك البارعة تثير الرّوع
ومراميها عصيّة كخيطٍ متشابكٍ لا يمكن فكّه فمن يقدر على فهم أفعالك
أنت قاضي الكون وصاحب الأمر فيه
عندما تصوّر كلمتك في السّماء تغدوا عموداً
وعندما تهبط نحو الأرضِ تصير قاعدةً وأساساً
كلمتك زرعٌ , كلمتك قمح وحبوب
هي ماء الفيض الذي به تحيا البلادُ
أي إنليل , أيها الجبل العظيم , لك الحمد والثّناء
وفي الألواح الآكادية تم العثور على ترتيلة مصاغة لخدمةِ الطقوس الدّينية العِراقية الرافديّة , فتقوم أنحيدوانا , إبنة صارغون الأعظم , بإنشاد هذه التفعيلةِ تضرعاً إلى الآلهةِ إنانا ( أو عشتار ) تطلب منها نفس الشيء الذي مارسه الدّينيون على مر العصور , وهو الصلاة , وطلب الرحمة والرزق والخضوع . تقول إنحيدوانا بنت صارغون :
إليكِ أرفع صلاتي يا سيدة السيدات ويا آلهة الآلهات
أي عشتار يا سيدة البشر أجمعين ومسدّدة خطاهم
أنتِ حقاً نور السموات والأرض , أيتها الجبارة إبنة سن
وفي ترتيلة ثانية , تظهر ملامح إنسانيّة مختبئة للآلهة شبيهة بمواصفات الإله الإبراهيمي ( الرحيم الباطش المتكبر إلخ ) ولكن لدى العراقيين كانت الآلهة تعبّر عن وجدان ذاك العصر الذي لم يكن بدموية العقلية الإسرائيلية , حيث تظهر عند الآلهة العراقية حب الشهوة والغزل والأنوثة , فتقول الترتيلة في بعض المقاطع التي انتقيتها :
لك الثناء أيتها الآلهةَ الأكثر روعة بين الآلهات
لكِ التبجيلُ يا سيدةَ البشر وأعظم آلهة السّماء
هي المتشحة بالحب والمتعِ والرّغبات
هي الطّافحة حياة وسحراً وشهوات
في شفاها حلاوة , وفي فمها حياة
هي الممجدة ورأسها يغطيه النقاب
بيدها تمسك مقادير الأمور جميعاً
من يقرأ التراتيل السابقة , الفرعونية والرافدية على السواء , سيعرف بسهولة أن التوحيد كان سارياً ومتواجداً عند أهل الأوثان في النيل والهلال الخصيب , وذلك قبل ظهور ما يسمى بالأديان السماوية بآلاف السنين .
وفي الميثولوجيا الآشورية وجد الأنثروبولوجيون على ترتيلة ذات طابع توحيدي , ورد فيها تمجيد وتأليه ( الله ) أو ( آمون ) أو ( عشتار ) وهي الصور المستنسخة من بعضها , ويأتي في هذه الترتيلة ما يلي :
أنت نور الآلهة العظمى
نور الأرض الذي يضيء العالم
تعطي الوحي والإلهام , وفي كل يوم تصنع قرارات السماء والأرض
شروقك نار باهرة تكسف كل النجوم
وأنت المتألق الذي لا يضاهيهِ أحد من الآلهة
آنو وإنليل لا يصدران قراراً دون موافقتك
وإيا صاحب أقدار الأعماق ينظر وجهك ويتّكل عليك
أنظار الآلهة جميعاً شاخصة في انتظار شروقك
ويظهر في ثقافات الصينيين مفهوم الإله اللاشخصاني ( تي دين ) وهو ينافي الإله المتصرف المتكبر المتجبر الإبراهيمي والرافدي والفرعوني , فالإله الصيني هو نسخة آسيوية من نتر ولكن معطّل التأثير المباشر رغم قوّته , وقام الصينيون بأسطرة هذا الإله على هيئة شموليّة غير متخيَّلة , ويشغل هذا الإله سماء الصين بكاملها , كما أن هذا الإله يختلف عن نظرائه حيث لا يُرسل الرسل ولا يبعث السّعادة ولا يبث التعاسة وخلافه , ويتّصل الصينيون بهذا الإله عبر الصلاة الفردية الاختيارية أو التنجيم أو الشعوذة .
وقدّم الهندوس مفهوماً مميزاً عن التّوحيد والشرك , حيث كانت الأديان السّائدة قديماً في العراق وشمال إفريقيا تعرضت لضربة قاصمة على يد الاسكندر المقدوني , ولكن الهندوسية بقت سليمة وبعيدة عن منطقة التوتّر , ما منحها الفرصة للتطور والازدهار واستطاع الحكماء الهندوس بناء ذهنيّة متماسكة , إلى أن أتى عصر التعدد من جديد , وتحديداً في القرن السادس قبل الميلاد امتداداً لخمسة قرون أماماً , حيث تم إرساء قواعد التيّارين الرئيسيين في الفكر الهندوكي ( الأرثوذكس والهرطيقين ) فتطور مفهوم الأرثوذكس وتبنّى أسفار الفيدا الأسطورية واعتبرها وحياً إلهياً منزلاً , أما الهرطيقين فرضوا هذا القول
وانتهى بهم المطاف إلى إنكار الظاهرة الإلهية Atheism
ونشأ عن الهرطقة الملحدة فيما بعد ديانتي البوذية والجيناينية , ومازالت هاتان الديانتان تنظران إلى الإله على أنه غير موجود Nihilism وتنظران إلى الكون على أنه عدمية
وهذا يعيدنا إلى "تلابس" الوثنية بالتوحيد , وأنه لا تعدد بدون وحدة , ولا وحدة بلا تعدد , فكلا الشيئان يحملان ذات الجوهر , الجوهر الذي لا يهتم بالحقانية , بقدر مايهتم بتأملات الإنسان التي انتهت إلى التقديس وتحصين الرموز والإنفعالات بشكل لا يقبل النقد أحياناً , إن لم يكن دائماً