منامات
لجوخة الحارثي :
نقلة أولي لتأسيس رواية مفتقدة في عُمان ومقاربة
كابوسية للحُب والفقد
عبدالله الريامي
(عمان)
(1)
يكتسب الإبداع الروائي
فرادته وحداثته الأدبية من اشتغال بالمصير الفردي، في الظاهر. مُعبراً عن
أزمة سياسية (فكرية) وجودية في الباطن.
رواية منامات الصادرة حديثاً
للكاتبة العُمانية جوخة الحارثي، تتقاطع مع هذا المفهوم. رواية تقول الصمت
الذي يرافق الشعور بالخلل الموغل في الذات والمجتمع. مقاربة كابوسية للحب
والفقد والمكان. كتابة وُلدت من التمزق الحميم بين الواقع والحلم. بين
الحياة والموت. مشغولة بعناية وجُرح. جرح الاكتشاف الأول، ملامسة الأشياء،
أسر اللحظات، كما يفعلُ رسام أو شاعر. من دون تجاوز أو ذوبان، بوعي فني
لاختيار الشكل (الروائي) وأدواته.
(2)
الكتابة، هنا، تسعي لأن تكون علي خط المواجهة مع القبح والقهر. تقدِم
الكاتبة شهادة قاسية في واقعيتها لنموذج الرجل في مجتمعها، فهو منتفخ
ب(أناه)، مريض بنرجسيته، خاضع، مُزيف، كذاب، جبان، وحتى المُراهق أبله. لا
ينجو من ذلك سوي الأب الذي طواه الموت بعد أن فاجأه ما أقعده علي كرسي
متحرك، وبقي حاضراً في الذكريات، وفي كابوس دموي مُتكرر تبدأ به الرواية،
ولا ينتهي، عنه وعن أشياء أخري.
في المقابل، هناك نماذج للمرأة نمطية في
تقليديتها، بحكم استمرار تقليدية المجتمع، بينهن أمهات، جدات، لكنهن
مُميزات بالمعاناة والنبالة وحتى بضرب من الحكمة. أما المرأة الشابة فهي
الطالبة الجامعية (الموظفة) المثقفة الساعية للتنوير عبر تعليم الكتابة لمن
فاتهن ذلك، الشجاعة في الجهر بآرائها، المشتعلة بالفكرة، المؤمنة بقضية حد
احتمال الضلوع في تنظيم سري.
من مبدأ لا إطلاق في الحياة والأدب فان
نموذج الرجل، في الرواية، سائد فاقع في الواقع. وليدافع من شاء عن نموذجه
المضاد. لكن الملاحظة الملحة، هنا، هي أنه لا وجود لنموذج امرأة مشوهة في
مجتمع مشوه الرجُل والقيم؟
وتبقي مي، المناضلة، التي غدت الاستشهادية
آيات الفلسطينية مثالها، سؤالاً: هل هي ظاهرة راهنة، أم أنها إشارة الى
واقع ممكن حتى وان بدأ عبر حلم الكتابة. مي، في كل الأحوال، هي الضوء في
مجتمع قاتم مطفأ، في الرواية والواقع علي حد سواء.
(3)
الكتابة، هنا، علي خط المواجهة مع الكتابة نفسها، باعتبارها قوة وسحراً.
وباءً حين ترن الكلمات في الداخل ولا تُسمع. خلاصاً نحيلاً، عندما لا يطيق
الألم تجسد الكلمات. عندما تتمدد شقاء في براح الروح. عندما تصبح جمر
المشي حافياً علي وهم التوحد مع الآخر.. تكثر توصيفات الكتابة في الرواية،
بحثاً عن ماهيتها، أو علي الأقل محاورتها، نديماً للروح، شافياً محتملاً من
جروح الماضي.
تتساءل الراوية، الشخصية الرئيسة، بألم: حين انزاحت غشاوة
الجهل، حل خمار المعرفة، كيف يمكننا أن نري الغابة من كثافة الأشجار؟ ،
يعكس التساؤل طبيعة الصمتين في الرواية، الأول: صمت طليق، فني، في نسيج
الاشتغال الروائي. والثاني: صمت أسير الكوابح النفسية والثقافية
والاجتماعية، في انتظار مِراسٍ أكبر، في انتظار انجاز المهمة الروحية
والإبداعية للكتابة: خلخلة تلك الكوابح وتصفية أو مقاربة اكراهاتها علي
الوعي والشعور، إزاحة خِمار المعرفة كما انزاحت غشاوة الجهل، بموهبة السؤال
وإرادة المواجهة المفضية الى المسؤولية. المواجهة والمسؤولية دليلان علي
الحُرية.
أسئلة الذات والوجود الأكثر اتساعاً، غير محاولة مقاربة الحب
والموت، تحيا أسيرة، في الرواية، بين رماد الصمت وقوة الشهوة. من هنا تقع
هذه الكتابة في المسافة المُعذبة بين دخان الذكري (الماضي) ونار الحُرية
(المستقبل) فهل ستحمل الرواية التالية، للكاتبة ولأقرانها، قبساً من نار.
(4)
الراوية، الشخصية الرئيسة، شابة فقدت الأب. أنهت دراستها الجامعية وتعمل
حيث عشقت زميلها عشقاً مُستحيلاً، فالحب عنده لا وجود له، فهو، يرغب أو
يكره، مخطوبٌ لابنة عمته كما في التقاليد التي لم تزل، ومشغول بطرق انتهاز
الامتياز الوظيفي. لذلك وقعت في سحيق الأذى الذي نلحقه بأرواحنا حين نحاول
دمجها بأرواح أخري . أصيبت بتشنجات، نوبات صرع، مزقتها كوابيس ومنامات لا
تنتهي. خضعت للعلاج العصبي، وللعلاج الشعبي علي ظن أنها مسكونة بالجن. لكن
حقيقة مرضها هو اليأس (الاكتئاب) الذي لم يفهمه غير عمتها الذكية التي رأت
انتكاسة الحُب في عينيها، فلا بد وأنها قد مرت بذلك يوماً، فاعتنت بها،
تغمسها في ماء الفلج الدافئ، تفركها، تفرِق شعرها تحت الماء، لتسكين
الهموم، ونفي الحزن، وتبريد القلب.
كانت العمة سلوتها وشقيقتها في
الفقد، تزيد عليها بفقد ابنها حمد الذي أقسمت أن تشرب غسول قدميه أن عاد،
وعاد شاباً بعد أن كان قد انتزع من ثدييها، تحت أشجار الموز، في زنجبار بعد
طلاق.
أما الأم فتزوجت من مقتدر لأجل تربية الأولاد وحتى لا تتسول
الأخوال، وهكذا بعد سنتين من وفاة الزوج (أصبح حضن أمي لرجل آخر)، ولم تكن
علاقتها بابنتيها حميمة، بمعني فقدان الاتصال (الحنان) بينهم، الأمر الذي
لعب دوره بضراوة في السوية النفسية للراوية وأختها. زوجها كثير الغياب بحجة
الانشغال بينما يتغامز الآخرون علي ذلك: ألأنها لم تمنحه طفلاً؟ حرصت الأم
علي كبرياء تريده أن يشع في عينيها المطفأتين باليأس، وأقراص بروزاك
المضادة للاكتئاب المُزمن.
مي، الشخصية الرئيسة الأخيرة، مصدر القلق
الدائم، أوصلتها مراهقتها في تعلقها بمدرسة الرسم في الثانوية، حداً غير
طبيعي، لا يمكن السكوت عنه! بينما تتحمل الراوية، الأخت الأكبر، تقلباتها
النفسية وتتحمل عبء الوظيفة من أجل أن تصرف علي فساتينها وعطورها الباذخة،
وبعد ذلك علي دراستها في جامعة عجمان (الإمارات) ذلك أن مجموعها لم يؤهلها،
بصفتها أنثي، الالتحاق بالتخصص الذي رغبت في جامعة السلطان. وعادت مي
بالشهادة وبأفكار جديدة، تلبس الكوفية الفلسطينية مثل الشهيدة آيات، وتنظم
التظاهرات لأجل الحقوق والحقوق العربية المهدورة، مثيرة خوف البيت من أن
تتورط أكثر، وتقع في المحظور السياسي: تنظيم سري.
ما تقدم هو محاولة
لتلخيص أجواء الرواية، فماذا تقول الكاتبة نفسها، في المتن، عن روايتها:
أريد نظاماً ما وسط هذه الفوضى، أريد مشجباً لتعليق الذكري، ومقصاً يعيث في
أنسجتها تصنيفاً، متى بدأ الخيط الأول؟.. ماذا أريد الآن؟ أني أرتب هذا
العالم الضاج؟.. أقول لنفسي: فلأسرد هذه الأحداث المجنونة سرداً منطقياً،
فإذا بي أكتشف ألا أحداث هناك، مشاعرٌ فقط، مشاعرٌ تختزل الحياة كلها، أما
مواقفنا الحاسمة معاً، والأحداث الضخمة، فلا تكاد توجد، التقينا، تعذبنا
بإتقان، ثم افترقنا، هذا كل شيء، وأختنقُ الآن كأي حمقاء بالدخان الذي
نسميه ببساطة، بمحاولة إقصاء، بتواطؤ غبي: الماضي !
هذا التوصيف،
بالضبط، هو ما أخذه بعض من كتبوا، وفي مقدمتهم المحرر الأدبي ل رويتر ،
حُجة علي أنها ليست رواية بالمعني الفني المُتعارف عليه وخالية من
الأحداث!! دون توضيح منه للمتعارف عليه؟ لكن يبدو أن المقصود بالمتعارف
عليه هو أن تقف الرواية العربية عند ما أنجزه الروائي الكبير نجيب محفوظ،
غافلين عن انجازات تجريبية الرواية بعده، لاغين كل الجماليات التي طورت
السرد العربي وما زالت.. أليست المشاعر أحداثاً، أليس السرد هو ما يأكل
الحياة حسب موريس بلانشو أليس الكلام (كل الكلام) هو دائماً الكلام الأخير
الذي لا يُنهي القول ولا يُشير الى بداية. إذا كانت الرواية حسب بلانشو
أيضاً هي الكلام الآخر الذي لم يصنع الحكاية، فهل يروي الشعور ويسرد؟ هذا
ما تجيب عليه هذه الرواية ومثيلاتها بنعم روائية.
استثمرت الكاتبة
تقنيات سردية مختلفة، تعدد المستويات والضمائر، التوازي، الفلاش باك،
والرواية كاملة تحققت ببراعة أسلوب التقطيع - المونتاج السينمائي.
(5)
تجري اللغة كما يجري الماء كثيف الحضور، في الرواية، ترميزاً ومشهدية.
تنساب، أساليب وثقافةً، متعددة الروافد في تجريبية متناغمة، من استعارات
قرآنية، الى قراءات في الرواية المعاصرة، الى الشعر العربي قديمه وحديثه،
وحتى الاستعانة بمقتطفات صحافية، وصولاً الى لغة النص الصوفي الذي تستأنس
به الكاتبة كثيراً، وكأن النص الصوفي جسر بارع للعبور من وعي الى آخر، من
ثقافة دينية الى ثقافة مفتوحة. هناك توظيف لمقاطع عديدة لأبي حيان
التوحيدي، جلال الدين الرومي، (وغيرهم؟) كما يرد النص الصوفي حواراً علي
لسان بعض الشخوص! ويبلغ الافتتان مقاطع تستفيد فيها الكاتبة من اللعبة
الحُروفية للمتصوفة، تنوع عليها، تستنطق الحُروف كيما تبوح بمعني أو تعكسه،
كأن الحرف صورة المعني. تلعب بالألفاظ المتشابهة مختلفة المعاني، ليس
جناساً وطباقاً ومقابلة، لأن الأمر يتطور الى ملاحقة حرف بعينه (الخاء،
الدال، السين) تتبعه في الكلمات لتشكيل القول في جُمل ومقاطع تتوخي تشابكاً
فنياً يفوز بتراكيب ومعانٍ متنوعة. شغف بلعب لغوي مُحبب إذا ما توقف عند
هذا الحد! تدرك الكاتبة، ولا شك، أن ذلك فسحة داخل الأسلوب نفسه لا أكثر.
الباعث علي الملاحظة المقاطع الكثيرة نسبياً، لهذا التنويع، مقارنة بحجم
النص كاملاً.
اللجوء، هنا، الى توظيف لغة النص الصوفي يتجاوز حاجة
التنويع الأسلوبي الى صميمية المناخ النفسي العام للرواية، في انعكاس صادق
لطبيعة وصراع الشخصية الرئيسة. فتجربة العشق الكاوي المستحيل وآثاره
العنيفة الضارية علي الروح والجسد يجعل من تعبير الراوية: أنا هو وهو أنا
نطقاً شخصياً طازجاً، لا استعارة صوفية منبتة أو مُقحمة.
(6)
في مُجتمع ذكوري، بالرغم من بعض مظاهر الاقتسام الأنثوي، تصبح علاقات
التواصل بين الجنسين غير سوية، ويصبح المجتمع مغلقاً بالرغم من أن البيوت
مقفلة علي الأسرار المشاعة ، كما ورد علي لسان الرواية التي سعت لتفاعل
علاقات وموجودات، حسياً ومادياً، عقلانياً وآلياً. وعملت الشخصية الرئيسة
في حالات وحدتها المريرة علي أنسنة الأشياء ومخاطبتها وتحويل الأحاسيس الى
الجمادات من أجل بعث الحياة في عالم مغلق.
عكست الرواية بعضاً من التيه
والتأرجح بين قيم المجتمع التقليدية وحداثته المزعومة. ولامست بعضاً من
تجليات الفضاء العُماني مكاناً طبيعياً واجتماعياً، تاريخاً ومعتقدات
موروثة. وتناثرت هنا وهناك حاسة تشكيلية جميلة هي مزيج من الفطرية
والاكتساب.
إذا كانت الكاتبة قد لامست جروحاً يومية مفتوحة، فان الأهم
هو قرعها لناقوس لا يريد أحد أن يسمعه: إننا نعيش في بلد مكتئب، وان
الأمراض النفسية والعصبية تسري كالنار في هشيم مجتمع ملتاع، مأزوم، وبلا
هدف.
****
مقطع من الرواية
غرفتي صفراء، أردتها زرقاء فكانت صفراء، كلُ شيء أصفر: الأثاث والفِراش
والستائر. الجدار، وحده الجدار، به زرقة فاتحة.
نقوش الأباجورة الصينية
تنحلُ من زرقتها، وتتحرر، فيطير هذا الطائر الأزرق ذو الذيل الطويل حولي،
وحين يملني أفتحُ له النافذة الصفراء.. وفي آخر الليل أجده، بدفئه الناعم،
نائماً لصق خدي. وهذه الزهرة الزرقاء، الوحيدة علي الجدار، تقوم برحلاتها
السرية كل ليلة، ثم تعود مُبتسمة بهُزء الى إطارها. لا أعرف أي دروب ترتاد،
لم تخبرني قط. علبة الأدوية علي الطاولة الصغيرة، حبوب بيضاء وصفراء تتحول
الى عيون. عيون واسعة تدخلني وتراني من الداخل، لا يغرقها الماء ولا
تنهضم.
عاد الطائرُ الى فننه الأزرق، أنظر إليه ولا ينظر الى، أسمعه،
أسمع تغريده الجميل وأغمض عيني علي الدمع. قال خالي، أصغر أخوالي: عشقت حرف
العين من زد الحُروف ، وأحاط زوجهُ بذراعه، زوجه الجميلة، ابتسمت،
وطفلتاهما ضحكتا، هذه الورود صناعية، مجرد بلاستيك ملون. لا داعي لأن تفرح
يا داخلي بها، ولا داعي لأن توحي لك بالحدائق والبساتين، وخالي سافر وزوجه
الى تايلاند، وصورهم مع الفيلة دارت من يد الى يد، وخلف الصورة، خلف الفيل،
بستان كبير، ووروده غير صناعية.
الوردة الزرقاء الكبيرة تغادر الوسادة
الى قلبي. قلبي مُجللٌ بوردة زرقاء كبيرة، الوردة علي قلبي كلطخة، الوردة
تلف قلبي كقماط، قلبي مولود صغير ملتف بقماط من وردة زرقاء كبيرة نائم علي
عربة خلفها الحُب. قال وهو يسحب ستارة البلاستيك البيضاء: القرب يزيد ألم
الاثنين ، ستارتي الصفراء تنسل منها خطوطها، وتصبح تجاعيد من حولي..
الثريات تلمع، وتحمل روحي فتافيت صغيرة مؤلمة، ومبتسمة. رادت الروح تلك
الدروبُ الملتوية، المظلمة، التي يشع النور من جانب خفي منها، واهتدت الروح
رغم العتمة، رغم حلكة الضوء الغامض الى آخر الدروب المُراوغة، ولم تجد
بغيتها حيث انتهي الدرب. لم تختبئ الشموس هناك ولم تتخف الأقمار في صناديق
جديدة. الصندوق الذي أهدته أمي مي لتفوقها، علبة الألوان والمشابك، ومي
علقت الصندوق في غرفتها، وقال لها موظف القبول بجامعة السلطان: نقبل الذكور
فقط بهذه النسبة ، ومي بكت لأنها لا تريد أن يدفع زوج أمي تكاليف دراستها.
قالت أمي: لكنه قادر ومستعد . ردات الروح تلك الدروب ورجعت بلا عطايا، من
قلب زهرة اللوتس خرج وجهها، وجه مي الطفلي، وحين مددتُ يدي لم تلمس خدها
اللدن، تدلت المصابيح من السقوف ولمست ألمنا، والمصابيحُ أرادت أيضاً أن
تتحول عيوناً كبيرة مضيئة، تنزلق بدواخلنا لتضيء تعاريج الألم من عُمق ن