هيرة تستبيح الشارع المكفهر ، الزحام والضوضاء يتأبطان المكان ، تقف فجأة
في قلب الرصيف تركله "بالبيادة" . . يتوجع في صمت مقتول متسائلاً :
ـ من هذه الحسناء التي غزت" البيادة" قدميها ؟
طال وقوفها بجانب إحدى الأشجار تستظل من هجير الشمس ، وما إن اتكأت على
الجذع حتى همس لها :
- إااستعد . . إااستريح . . !
غادرت مسرعة . . صرخت فيها "بيادتها" بتذمر :
- إلى أين ؟
أجابت في صمت
- إلى اللامكان . . !
- ولماذا ؟
- لنحصل على اللاشيء .
يممت وجهها شطر إحدى الحارات ، ثمة تجمع صغير للأطفال . . تصف بحناياها
عاطفة جياشة عطشى للأمومة تقترب قليلاً . . يصرخ فيها طفل مستنجدًا :
- يا عسكري أمي "تُضَارِبْ ". . !
تسلك في شرود أحد الممرات المؤدية إلى السوق العام ، ولجت مسرعة دون تريث
فاصطدمت بالكلمات الشهوانية للباعة .
جوع النظرات النكراء يلتهم جسدًا غضاً يطوقه حزام غليظ أخضر ..
همس أحد الباعة ببلاهة :
-" يا ليتني القائش ". . !!
استدارت دون اكتراث ، وضربت برجلها الأرض في تحدٍ واضح ، واستأنفت رحلتها
صوب حارة من حارات الصفيح .
تنهرها إحدى الشمطاوات المتربعات على عرش من قش :
- "عيب يا بنتي تلبسي مثل العساكر" . . !
تنهدت محترقة في ضجر صاخب :
حتى هؤلاء ؟!
مجموعة من الشباب المتقرح بصديد الحضارة يعدون خطواتها الثكلى ، تلهبها
ألسنتهم بالتعليقات اللاذعة.. يتقدمون بشراهة عجيبة .. يشكلون نصف دائرة
مركزها دموعها المتكورة . !
يبس لسانها ، صار كقالب إسمنتي لا تستطيع تحريكه .. حاولت أن تصرخ .. أن
تتكلم . تهدد ، واستدارت في رباطة جأش لتفاجئهم بتهديد مشلول .. لتصفعها
الحقيقة .. لم يكونوا شيئاً . لقد كانوا شبابًا من ضباب .. !
أسلمت رجليها للريح لتأخذها سهواً إلى باب المنزل ، تتوارى في ردهاته ،
ويرتطم الباب خلفها بقوة فتتكئ عليه .
تعالت شهقاتها المقتولة بضمير الغائب ، صعدت درجات السلم المنهك من ركلات
البيادة .
بكت بشحوب جَّردها من رجولتها المكتنزة في البزّة والخوذة الحولاء .. !
وفي لحظة البرق.. جثمت على فستانها المكلوم بنار الوحدة ووحشة العدم ..
مزغردة بعمق لتكتشف أنوثتها من جديد.
فجأة يصرخ فيها الفستان :
أنا لا أقبل نصف امرأة مؤقتة ،
كل يوم ..