تحاول هذه المقالة، على غرار باقي المقالات المتخصّصة التي تهتم بالظاهرة الدينية، أن تعرض للقرّاء مجموعة من الأفكار والأطروحات التي قدّمها أهمّ الباحثين الغربيين الذين درسوا ظاهرة الإسلام في المجتمع المغربي إبّان الفترة الاستعمارية وما بعدها "الكولونيالية والأنجلوساكسونية"، من خلال التركيز بشكل مقتضب على أهمّ ما كتبه هؤلاء الباحثون ضمن الأبحاث والدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية التي تناولت بالدرس والتحليل موضوع الإسلام في المغرب.
يمكن تصنيف الدراسات النظرية والميدانية الذي تناولت إشكالية الإسلام في المجتمع المغربي إلى ثلاث موجات أساسية من تاريخ الأبحاث والدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية في المغرب، وهي:
ـ الموجة الأولى: وهي الأبحاث والدراسات الكولونيالية، التي ميّزت المرحلة الاستعمارية والبعثات العلمية، التي قام بها كل من شارل دو فوكو Charles de Foucauld، وإدموند دوتّي Edmond Douttéوهنري باسّي Henri Basset وإدوارد ميشو بلير Édouard Michaux-Bellaire وجاك بيرك Jacques Berque، حيث تميّزت هذه الأبحاث والدراسات في اشتغالها على مظاهر الدين في بُعديْه الاجتماعي والثقافي.
ـ الموجة الثانية: هي المتعلّقة بالسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا الأنجلوساكسونية في المغرب، والتي اشتغلت على الدين من منظور وظيفته ودوره في المجتمع، عند أعمال إرنست غيلنر Ernest Gellner وكليفورد غيرتز Clifford Geertz وديل إيكلمان Dale F Eickelman وغيرهم.
ـ الموجة الثالثة: وهي الدراسات الوطنيّة التي أنجزها باحثون مغاربة حول موضوعات وقضايا متنوّعة مثل القيم والتديّن وتغيير المعتقد عند الشباب، ومن هؤلاء الباحثين نجد رحمة بورقية، المختار الهراس، إدريس بنسعيد، حسن رشيق، محمّد الطوزي، عبد الغني منديب، إلخ.
وسنكتفي في هذه المقالة، بالتركيز على كلّ من إدموند دوتي وميشو بلير ضمن الموجة الأولى، وإرنست غيلنر وكليفورد غيرتز ضمن الموجة الثانية، باعتبارهم المؤسّسين الفعليّين لسوسيولوجيا وأنثروبولوجيا الإسلام في المغرب. أما بالنسبة إلى الموجة الثالثة التي أشرنا إليها أعلاه، فسوف نخصص لها مقالة خاصة بها في قادم الأيّام.
الموجة الأولى: الأبحاث والدراســـات الكولونياليـــة
أوّلا: إدموند دوتّي
يعدّ إدموند دوتي ﴿1867-1926﴾ من بين أهمّ الباحثين الكولونياليين الذين لهم مكانة مهمّة في تاريخ المغرب، فهو من أوائل الباحثين الذين حاولوا تطبيق نظريات كل من المدرسة الأنجلوسكسونية والمدرسة الفرانكفونية في دراسة الظواهر الدينية في المجتمع المغربي، خلال القرنين 19 وبداية القرن 20. ومن أهمّ أعماله نجد كتاب "الصلحاء" وكتاب "السحر والدين في إفريقيا الشمالية"، وكتاب "مهمّة في المغرب: بين القبائل" وكتاب "مرّاكش" وغيرها من الكتابات.
تتميّز أطروحة دوتّي حول المعتقدات الدينية بالمغرب، بأنّ الإسلام عند دخوله للمغرب قام بعملية أسلمة المعتقدات الوثنية القديمة، وذلك بتكييفها مع الدين نظرا لكون الإسلام لم يستطع أن يقضي على كلّ الطقوس الدينية الوثنية التي ميّزت مجموعة من القبائل البربرية، يقول دوتّي في هذا الصدد: «فإذا بحثنا على سبيل المثال عن الكيفية التي استقر بها طقس رمي الأحجار البدائي، الذي نشأت عنه الكراكير المقدّسة، داخل الديانة الإسلامية، فإنّنا سنجد أنفسنا أمام النسق العام لأسلمة المعتقدات والممارسات الوثنية بالمغرب»[1]. تقوم أطروحة دوتّي على فكرة أساسية تتعلّق بدور الأولياء كوسطاء بين الله والمؤمنين لطلب الشفاعة، فما يميّز المغرب هو انتشار عبادة الأولياء والصلحاء الأموات والأحياء منهم بشكل كبير في مناطق المغرب، ويعود هذا الأمر إلى أنّ الإسلام يقوم على التوحيد المفرط، وهو ما «دفع الشعب إلى البحث عن وسائط أخفاها الفقهاء تحت رداء طلب الشفاعة، بينما هي في الواقع عبادة للإنسان (Anthropolâtrie). فالرسول نفسه لم يسلم من هذه العبادة، على الرغم من تحريم الإسلام لها بشكل واضح وصريح»[2]. وبالتالي، فإنّ استمرار هذه الظاهرة ليس بسبب البقايا الوثنية فقط، وإنّما بسبب التوحيد المفرط للإسلام أيضا. وقد عمل دوتّي على تقديم بعض الإشارات المهمة حول المجموعات الدينية التي عرفها المغرب، حيث ميّز بين المرابطين الذين يُورِّثون القداسة والبركة لأتباعهم، والشرفاء الذين ينحدرون من نسب النبي محمّد. واعتبر أنّ كلا الفريقيْن يستطيع أن يساهم في تأسيس الزوايا والأضرحة، كما ميّز كذلك بين الزوايا التي لها شيخ وأتباع وأضرحة، والتي ليس لها شيخ أو ضريح، واعتبر أنّ الأضرحة لها تأثير في الوسط القروي بعكس المدن، وأنّ الزوايا لها أهمية كبيرة في الوسط الحضري.
ومن الأمور التي ميّزت دوتّي عن غيره من الباحثين، أنّه قام بتطبيق نظريات المدرسة السوسيولوجية الفرنسية والمدرسة التطورية البريطانية لدراسة الظواهر الدينية في مجتمعات شمال إفريقيا التي اعتبرها مجتمعات بدائية، وهو ما جعله يقوم بتطبيق نظرية الرواسب أو البقايا الوثنية على جميع المعتقدات والممارسات الدينية عند المغاربة خاصة في كتابه "السحر والدين في إفريقيا الشمالية"، حيث اهتم بدراسة عادات التضحية وزيارة الأضرحة والطقوس السحرية اعتمادا على نظريات كل من إدوارد تايلور Edward Burnett Tylor ولويس مورغان Lewis Henry Morgan وجيمس فرايزر James George Frazer وإدوارد ويسترمارك Edvard Westermarck.
وبالتالي، فإنّ الاستنتاجات والخلاصات التي قدّمها دوتّي في أبحاثه ودراساته لم تكن سوى مجرّد تطبيق للنظريات السائدة عن المجتمعات البدائية، والتي اعتبرها مسلّمات لا تحتاج إلى دليل للبرهنة عليها. والواقع أنّ دوتّي لم يكن مرتاحا ومقتنعا بتطبيق هذه النظريات في دراساته وأبحاثه، وهو ما جعله يقول في هذا الصدد: «ربما سينتقدنا القارئ لكوننا أدمجنا في بعض الأحيان بشكل مصطنع هذه الوقائع في إطار السوسيولوجيا المعاصرة، أو لأنّنا اقترحنا تفسيرا غير مقنع للظواهر المدروسة»[3]. ثانيا: إدوارد ميشو بلير
يُعد إدوارد ميشو بلير (1857 ـ 1930) أحد أعلام السوسيولوجيا الكولونيالية بالمغرب، فقد التحق هذا السوسيولوجي بالمغرب عام 1884، ومنذ ذلك الحين، وهو يقوم بمهامّ داخل المغرب، وسيتمّ بعدها تعيينه من طرف المصالح الفرنسية خلفا لجورج سالمون George Salmon في 1906 للإشراف على البعثة العلمية في طنجة. وبعدها، سيعمل على تحديد أهداف البعثة العلمية من خلال: «البحث في عين المكان عن الوثائق لدراسة المغرب وإعادة بناء التنظيم والحياة، ليس فقط، بالاستعانة بالكتب والمخطوطات، بل أيضا من خلال الأخبار الشفوية، وتقاليد القبائل، والزوايا والعائلات (...)»[4]. هذا وقد قام ميشو بلير بعدّة دراسات وأبحاث حول المجتمع المغربي من مختلف الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية والتاريخية، فأعماله تعتبر ذات قيمة جوهرية في المشروع الكولونيالي خصوصا على مستوى إعداد جملة من المصنّفات والمحفوظات من قبيل:
● مدن وقبائل المغرب.
● الأرشيفات المغربية.
● الأرشيفات البربرية.
● مجلّة العالم الإسلامي.
إنّ السوسيولوجيا المغربية حسب قول ميشو بلير هي: «معرفة جميع الأحوال الاجتماعية المختلفة وعلاقات بعضها مع البعض وكيفية الاحتفاظ بالتوازن فيما بينها إلى يومنا هذا، بالرغم من كلّ التغيرات والاضطرابات الكثيرة التي حدثت عبر القرون»[5]. كما يرى بلير أنّ هذه السوسيولوجية تنقسم إلى ثلاثة أقسام أساسية، وهي التالية: ● سوسيولوجيا المخزن: وهي التي تهتمّ بدراسة مناطق سيطرة المخزن؛ أي المناطق التي تسمّى بالشرع.
● السوسيولوجيا الإسلامية: وهي خاصة بالبحث في التعبيرات والأشكال الدينية الرسمية والسنّية.
● السوسيولوجيا المغربية: وهي التي تأخذ على عاتقها مهمّة دراسة القبائل البربرية مع رصد البقايا التعبدية الوثنية في الممارسة الدينية، أو بتعبير آخر ما قبل المرحلة الإسلامية.
وتتوزّع أعمال ميشو بلير حول الإسلام في المجتمع المغربي بالتنوّع والكثرة، فهي عبارة عن محاضرات ومقالات وتقارير ودراسات، إلخ. ويرى ميشو بلير أنّه لدراسة الإسلام المغربي وتعويض النقص في المعطيات والمعلومات حول طبيعة الإسلام في المجتمع المغربي لابدّ من التطرّق إلى مسألتين أساسيّتين تتمثلان في:
ـ أصول الزوايا المغربية.
ـ المعتقدات الدينية للمجتمع المغربي.
ويلاحظ ميشو بلير بأنّ المعتقدات الدينية في المغرب عبارة عن تناقض بين الظاهر ومحتوى الإسلام؛ فالإسلام المغربي يقوم على صنفين: صنف شعبي يرتكز على تقديس الأولياء والصلحاء المحليّين، وصنف أرثوذوكسي؛ أي الإسلام الرسمي الذي يتميّز به المجتمع الحضري وخاصّة النُخب المخزنية.
ما يميز تحليلات ميشو بلير أنّها لم تخرج كثيرا عن المقاربة التطوّرية التي كانت تركز على الأصول الدينية والبقايا الوثنية، كما أنّه اعتمد في تحليلاته على المنهج التاريخي والمقارن موظّفا مجموعة من الوثائق الخاصة بالزوايا ومعتمدا على ما كتبه إدموند دوتّي حول الإسلام المغاربي.
ويأتي اهتمام ميشو بلير بدراسة الزوايا بهدف البحث في الأدوار التي لعبتها في تاريخ المغرب، وقياس قوّتها داخل البنية السياسية في المجتمع المغربي، حيث يقول في هذا الصدد: «إذا كانت الزوايا قد لعبت دورا مهمّا في تاريخ إفريقيا الشمالية، وبالأخصّ في المغرب، بدءا من القرن 19، فإنّ دراسة معمّقة لسيرها، ستكون، بكلّ تأكيد، أحد أشكال السياسة الأهلية الأشدّ أهميّة »[6]. وقد عمل على نشر أهمّ ما كتب حول الزوايا بالمغرب في كتاب بعنوان: "الزوايا بالمغرب" عام 1928، تقليدا لمؤلفات ضبّاط عسكريّين مثل أوكتاف ديبون Octave Depont وكزافييه كوبولاني Xavier Coppolani في الجزائر. وفي مقالة صدرت عام 1921 ضمن مجلّة هسبيريس تحت عنوان: "مقالة في تاريخ الزوايا المغربية"[7]، يستعرض ميشو بلير أهمية الزوايا في تاريخ المجتمع المغربي وتاريخ العالم الإسلامي ومعرفة وظائفها من أجل السياسة الأهلية لفرنسا. كما يفسّر المذاهب الأساسية في التصوّف، ويقدّم تاريخ التعليم الصوفي بالمغرب ويشرع كذلك في تقديم تعاريف لعدة زوايا في المغرب، مثل الزاوية الناصرية بتمكروت والزاوية الحنصالية قرب مراكش، إلخ. كما يعتبر بأنّ تاريخ المغرب هو تاريخ يقوم على التناوب من حيث الصراع والتنافس والتعاون بين الزوايا والسلطة المخزنية، وأنّ دور الزوايا في المغرب غالبا ما يتقلّص ويتراجع عن أداء وظيفته الدينية في حالة وجود قوة أو سلطة أقوى منها. الموجة الثانية: الأبحاث والدراســـات الأنجلوساكسونيـــة
أولا: أرنســت غيلنــر
أرنست أندريه غيلنر (1925 ـ 1995) هو أحد أهم وأشهر الأنثروبولوجيّين البريطانيين خلال القرن 20م، تأثّر كثيرا بالعديد من الباحثين في مساره العلمي، مثل ابن خلدون وإيميل دوركهايم Émile Durkheim وإفانز بريتشارد E. E. Evans-Pritchard وروبير مونطاني R. Montagne، عُرِف باشتغاله على العديد من القضايا والموضوعات التي ترتبط بالإسلام والتحديث، وبتوجيه النقد لمختلف النظريات التي يعتقد بأنّها منغلقة مثل الشيوعية، من أهم منجزاته: كتاب "صلحاء الأطلس" وكتاب آخر بعنوان: "مجتمع مسلم".
إنّ ما يميّز مقاربة غيلنر هي أنّها متأثرة بالمقاربة الانقسامية التي اعتمدها إيفانز بريتشارد على قبائل النوير بالسودان، وقد طبّقها غيلنر في دراسته المعنونة بـ"صلحاء الأطلس"، وهي دراسة ميدانية بقبيلة آيت عطا الموجودة بالأطلس الكبير المتوسّط في المغرب. ورغم أنّ هذه الدراسة تعرّضت لانتقادات كثيرة من طرف الباحثين المغاربة والأجانب من حيث طبيعة الموضوع والفرضيات التي طرحها، إلاّ أنّها تبقى دراسة لا تخلو من الأهمية على مستوى المعرفة السوسيولوجية والأنثروبولوجية.
في كتابه "صلحاء الأطلس" اهتم غيلنر بنشاط الأولياء لدى سكّان البربر في الأطلس الكبير. ويميّز غيلنر بين نوعين من الإسلام، فهو يرى أنّ هناك اختلافا بين إسلام القبائل في المجتمع القروي وإسلام الفقهاء بالمدن، معتبرا أنّ الأولياء في المجتمع القروي يشكّلون بديلا لإسلام الفقهاء بالمدن.
وتعود ظاهرة انتشار الأولياء في المجتمع المغربي حسب غيلنر إلى انتشار ظاهرة الأمية وعدم معرفتهم بالقرآن الكريم وسنة النبي محمد، إلى جانب استمرار العداوة التاريخية بين القبائل والحواضر، وهو ما يسمح للقبائل بتجسيد الخطاب الديني في الوسط القبلي عبر اللجوء إلى الأولياء وتبجيلهم على حساب فقهاء المدن.
يرى غيلنر أنّ الوليّ الصالح يعبّر عن «شكل من أشكال التنظيم الديني في الإسلام. ويتمتّع الوليّ عموما بالكاريزما، وهي بمثابة السلطة المقابلة للسلطة السياسية القائمة، بل إنّ هذه الكاريزما تتعدّى شخص الوليّ لتشمل ورثته. ومن هذا الباب، يتسنّى ربط الأولياء بنسب الرسول»[8]. ويمكن القول إنّ وظائف الأولياء عديدة تقوم على ما هو أخلاقي بالدرجة الأولى، وتتميز بالحياد تجاه مختلف القبائل ومن أهمّها[9]: ● وظيفة سياسية: إذ يشرف الوليّ على تعيين شيوخ القبائل، ويرسم حدود نفوذ السلطة السياسية بما أنّ مكان إقامة الوليّ عادة ما يكون على الحدود الفاصلة بين نفوذ القبائل المتجاورة.
● وظيفة تجارية: وتتجلّى في تأمين الحماية الكافية للقوافل التجارية خاصة أنّ التقاطع متحقّق بين طرق التجارة ومسالك الحجّ.
● وظيفة دينية: يقدّم معرفة دينية معيّنة لرجال القبائل، خاصّة في المواسم والمناسبات الدينية العديدة؛ وذلك بحكم أنّ هؤلاء أمِّيّون.
أمّا بالنسبة إلى إسلام المدن من وجهة نظر غيلنر، فإنّه عبارة عن إسلام رسمي وهو إسلام الفقهاء، والشرفاء والقضاة، وكبار التجّار في المدن. وهذا النوع من الإسلام يسمّيه غيلنر بـ"الدين الحضري"، حيث يعود هذا النوع من الدين إلى المدن نفسها التي وفّرت إمكانية انتشاره مثل المساجد والمدارس التي تسمح بتعلّم العلوم الشرعية وممارسة التجارة. فالدين الحضري حسب غيلنر يتميّز بعدّة خصائص تتمثّل في أنّه يقوم على نموذج الكتابة والتوحيد والفرداني وغياب الوسيط بين الإله والفرد المسلم.
وحسب غيلنر، فإنّ العلماء بالمدن لهم وظائف مهمّة يلعبونها من داخل المجتمع المغربي، والتي «تتجلّى أساسا في وظيفة تفسير القيم بالنسبة إلى المؤمنين، واحتكار إنتاج الخطاب الديني، بالإضافة إلى الدور السياسي الاستشاري الذي يمنحهم سلطة دينية ـ سياسية دالّة تتمثل في كونهم أهل الحلّ والعقد؛ أي أنّهم المؤتمنون على الشرعية، وإليهم تردّ أمورها»[10]. وعلى الرغم من ذلك، فهم يمتلكون فقط الحقّ في تزكية السلطان عند اختياره لأنّهم لا يمتلكون النفوذ الكافي في حسم اختيار السلطان، ولا يمتلكون أيضا القدرة على التأثير بشكل كامل على المجتمع، نظرا لأنّ الغالبية المسلمة من أفراد المجتمع لا تلجأ كثيرا إلى العلماء لترسيخ مبادئ عقيدتها، وتفضّل أن تلجأ إلى عالم الصوفيّة. ثانيا: كليفورد غيرتز
عندما نتحدّث عن كليفورد غيرتز (1926 ـ 2006)، فإنّنا نتحدّث عن أبرز علماء الأنثروبولوجيا الأمريكية، وأكثرهم تأثيرا في العقود الأخيرة من القرن 20م، فهو أحد روّاد الأنثروبولوجيا الرمزية، أو بعبارة أخرى، أحد أهمّ مؤسسي المدرسة التأويلية في الأنثروبولوجيا الأنجلوسكسونية. وله مقالة مشهورة تحمل عنوان: "الدين بوصفه نسقا ثقافيا"، والتي نشرت لأوّل مرة عام 1966م، اقترح فيها غيرتز أنّه من أجل دراسة الدين ينبغي أن ندرسه كنسق رمزي يؤوّل على أساسه المؤمنون العالم والدنيا ويعيشون حياتهم في ضوء هذا التأويل.
يعرّف كليفورد غيرتز الدين بقوله: «نظام من الرموز يفعّل لإقامة حالات نفسية وحوافز قوية وشاملة ودائمة في الناس عن طريق صياغة مفهومات عن نظام عام للوجود وإضفاء هالة من الواقعية على هذه المفهومات، حيث تبدو هذه الحالات النفسية والحوافز واقعية بشكل فريد»[11]. فالدين حسب غيرتز يعتبر مجموعة من الرموز التي تعطي معنى وتسمح للأفراد بإدراج الوقائع والتجارب في نظام معين للعالم، حتّى وإن كان نظاما غير تجريبي، فإنّه مع ذلك يسمح للأتباع من اعتباره نظاما حقيقيا. إنّ الدين عند غيرتز ليس عنصرا من عناصر الثقافة، وليس مجرّد ماورائيات على الإطلاق أو مجرّد أخلاقيات، فهو على عكس ذلك يعتبر الدين نظاما ثقافيّا بامتياز قائما بذاته، حيث يعبّر عن روح الجماعة ونظرتها للعالم والكون كلّه. يقول: «إن روح الجماعة لدى شعب من الشعوب هي الجوّ العام والخاصّية التي تطبع حياة الناس في ذلك الشعب، وهي أسلوب هذا الشعب فيما يتعلّق بالأخلاق والذوق الجمالي والمزاج العام، بل هي موقفهم الأساسي تجاه أنفسهم وتجاه العالم كما ينعكس ذلك في الحياة. أمّا نظرتهم إلى العالم، فهي الصورة التي تتكوّن لديهم عن الأشياء كما هي في الواقع المحض، هي مفهومهم عن الطبيعة، عن الذات، عن المجتمع، وهي تحوي أكثر ما لديهم من الأفكار شمولا عن النظام»[12]. وفي دراسته للظاهرة الدينية حول المجتمع المغربي، يرى غيرتز في مؤلّفه الذي صدر عام 1968 تحت عنوان: "الإسلام من وجهة نظر علم الإناسة"، وهي دراسة مقارنة للتطوّر الديني في كلّ من البلدين المغرب وإندونيسيا، أن تاريخ المجتمع المغربي هو تاريخ ديني بالأساس؛ فالشخصيّة المتحكّمة في تاريخ الإسلام بالمغرب هي شخصية دينيّة بامتياز، كون إدريس الأوّل هو قائد للبلاد، حيث يستمدّ قوّته وسلطته من الدين باعتباره أحد أحفاد النبي محمّد، حيث يقول في هذا الصدد: «لقد كان إدريس الأول الذي بنى فاس في القرن التاسع هو أوّل ملك حقيقي للبلاد، وهو من أحفاد النبي (محمد) وقائد حربي عظيم ومصلح إسلامي مجدّد. وربّما لم يكن ليكون ملكا لولا وجود الخصلتين الأخيرتيْن»[13]. ويؤكّد غيرتز أنّ الدين الإسلامي لعب دورا مهمّا في الحفاظ على الهوية والشخصية المغربية في مرحلة الاستعمار، حيث كان للدين أثر كبير في تشكيل الحركة السلفية والحركة الوطنية لمواجهة أطماع الاستعمار الفرنسي والإسباني، بعدما حاولوا تقسيم المغرب والتمييز بين سكان البربر والعرب على أسس دينية وعرقية.
وقد انطلق غيرتز من فرضية أساسيّة أنّ الدين هو مؤسّسة اجتماعية والعبادة ممارسة اجتماعية والاعتقاد هو أيضا يرتبط بما هو اجتماعي، ممّا جعله يقوم بتحليل قصّة الوليّ اليوسي المعروف شعبيا بسيدي الحسن اليوسي، وهي شخصية تاريخية معروفة في المجتمع المغربي. فهذه الشخصية التي ازدادت في قبيلة بربرية مجهولة في جبال الأطلس المتوسط سنة 1631، ادّعت أنّ والده من العرب، بل من السادة والأشراف الذين يرجع نسبهم إلى إدريس الثاني مؤسس مدينة فاس. فهذه الشخصية تميّزت بأنّها قائمة على مفهوم "البركة"، يقول غيرتز حول هذا المفهوم «هي إحدى الكلمات التي يستحسن أن تتكلّم عنها من أن تعرفها، والتي قد تعرف في سياقها فقط، وإن كان يمكن تعريفها بصورة غير دقيقة على أنّها قوّة روحية من يملكها يصبح وليّا أو مرابطا»[14]. والوليّ الصالح هو من يمتلك البركة؛ أي الهبة الإلهية التي يمنحها الله لأفراد يتميّزون عن غيرهم. فالأولياء هم من يساهمون في تشكيل المجتمع المغربي وتوحيده، وفي إنتاج تصوّرات حول البركة كمفهوم يحيل إلى التعبّد والوقار والقدسية، والممارسة الشعبية للدين. وقصّة اليوسي ترمز إلى قوّته وقدرته في التغلّب على السلطان المولى إسماعيل من أجل نزع الاعتراف بقدسيّته والتشريف به مثل الأولياء الشرفاء، وتحوّله إلى وليّ صالح بعد وفاته وقبره إلى ضريح يُزار ويُعظّم دائما من قِبَل زوّاره. ويرى غيرتز أنّ الحياة الدينية في المجتمع المغربي لم تتغيّر كثيرا، فقدرة المغاربة على تكييف الدين مع مواقفهم في حياتهم اليومية يجعل من النظرة الدينية عندهم غير مجزّأة مما يبعدها عن النزاع والصراع الديني. كما أنّ طبيعة النظام السياسي وتحكّمه في المجال الديني ساهم بدوره في الحفاظ على هذه النظرة، فالمؤسّسة الملكية بالمغرب كان لها دور في الحفاظ على الوحدة الدينية عند المغاربة، وهذا ما تجسّده شخصيّة الملك التي تجمع بين المصلح الديني والسياسي المقتدر، نظرا لأنّ الملك إنسان «يملك كاريزما وراثية وشخصية معا. وشرعيته وأحقّيته في الحكم إنّما هي مشتقّة في نفس الوقت من كونه شريفا علويا وأنّه في نظر العلماء المحيطين بالعرش أكثر أفراد الأسرة الحاكمة تهيؤا من الناحية الروحية لاستلام مهامّ المنصب»[15]. وذلك على خلاف بلدان إسلامية لم تستطع تكييف الدين مع التحوّلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي عرفها العالم، وفي عدم سيطرتها على الحركات الدينيّة التي تأخذ من العنف وسيلة من أجل الوصول إلى السلطة. ختام القول
إنّ الملاحظ من خلال الأبحاث والدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية التي أنجزت حول الإسلام في المجتمع المغربي إبّان الفترة الاستعمارية وما بعدها، قد أجمعت أنّ الدين الإسلامي بالمجتمع المغربي يلعب دورا مهمّا في الحفاظ على الوحدة الاجتماعية والسياسية عند المغاربة، وأنّ الإسلام كدين يقوم على نوعين من التديّن: التديّن الرسمي والتديّن الشعبي؛ أي أنّ هناك نوعين من الإسلام: إسلام المدن والحواضر القائم على القرآن وإسلام البوادي والزوايا القائم على الأولياء والمقامات. فالإسلام من وجهة نظرهم يعتبر ظاهرة اجتماعية وثقافية بالدرجة الأولى، حيث يظهر ذلك من خلال التديّن الشعبي الذي يُعدّ الأكثر بروزا في المجتمع المغربي إلى حدود أواخر القرن العشرين، نظرا لأنّ تاريخ المجتمع المغربي هو تاريخ قبائل وزوايا، ولأنّ سياسة الدولة في المجال الديني كانت وما تزال تسمح بوجود ممارسات ثقافية واجتماعية تتعلّق بأضرحة الصلحاء، علما أنّها ممارسات تعتبر في الأصل بدعة لدى العديد من الحركات الإسلامية. وتتميّز هذه الأبحاث والدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية بأنّها تؤكّد أنّ هناك اختلافا في طبيعة تمثّلات المغاربة للدين ولطريقة التديّن عندهم، على الرغم من وجود تشابه بين الدين الشعبي والدين الأرثوذوكسي الرسمي على مستوى المعتقد وممارسة الطقوس الدينية من حيث الصلاة والصوم عند المغاربة.