لمبضع الجراح قدرته على ترميم العطب في جسد المريض، وذلك عبر مجساته التي تدرك حجم القلق ودفق النبض في الجسد المسجّى وهو ينتظر مصيره، بين عتمة الموت واشراقة الحياة . لكن المبضع حينما يتحول الى ريشة فنية، فانها تعالج الخلل المسجى على قارعة الحياة . ورغم ان المقارنة بين المبضع والريشة أمر مستبعد ولكن الفنان مناف محمد خضير، ذلك الشاب المتوثب حيوية، والطبيب المتخصص بجراحة القلب قد جعلنا نستسيغ هذه المقارنة، بل نقتنع بها، وذلك في معرضه الفني الذي أقامه في قصر الثقافة والفنون بالبصرة. والذي أطلق عليه (نسيان بصري) . وكلمة نسيان، بحد ذاتها والتي أختارها الفنان عنوانا لمعرضه، تحمل سطوة الإدانة، لمن ساهم في هذا النسيان وقوة الملامة لمن بقي متفرجا إزاء نتائج النسيان التي جعلت البنية المعمارية للمدينة تتآكل وتتخرب وتنزوي في الظل . مما يجعل الشعور بالعزلة يتنامى ويترسخ . العزلة التي تتأتى من خلال صمت البيوت المتآكلة والمنسية . والصمت الذي يخلق شعورا بالفراغ اللامتناهي .واذا كان باشلر يرى في البيت فردوسا ماديا بإعتباره من أهم العوالم التي تدمج الأفكار والذكريات والأحلام الإنسانية . فإن الفنان مناف قد أبرز حجم الخواء الروحي الذي نعيشه، في خضمّ انتكاساتنا المتلاحقة .وهو يصور لنا هذه البيوت المتآكلة والمنسية والمتداعية، وكأننا سلمنا بالخراب الذي تسرب لنا، دون القدرة على ترميم روحه .
في موروثنا الشعري يبرز الطلل كمعادل موضوعي لذكريات حزينة ومؤلمة . ترتكز على المكان المهجور وعلى الإنسان الذي هجره ولكنه ابقى شيئا من ملامحه ومسيمه وبعض متعلقاته، لذا فالشاعر يستحضر كل احلام يقظته من خلال ما تبقى من أطلال .وهكذا فان هذه الرؤى المشحونة بهواجس العشق تعيد للمكان هويته المسلوبة . هذا ما اراد الفنان ان يصل اليه في تقديري، وهو البحث عن جوهر الأمكنة بعد جفافها وتآكلها وشيخوختها .تلك الأمكنة والتي تمثلت لنا على هيئة غرف بائسة وشبابيك رثة وشناشيلفقدت بريقها وبيوت آيلة للسقوط وأزقه خاوية ومنسية. عوالم كانت تعج بالحياة،في لحظة لم نكن على وعي بجمالها، ولكننا فقدناها وكأنها قد أغتيلت في لحظات زمنية متحجرة، فاصبحت مهملة تنام على قارعة النسيان .
لذا فقد كان الفنان مناف شبيها بشاعر الطلل الذي يبحث عن دمنة باقية ليتلمس من خلالها الزمن الذي ذهب دون رجعة، وذلك من خلال تحسس الحياطين والدرج والطين والسلالم، يبحث في اجوائها عن لوعة العتمة الحالكة لحياطين كانت تشع بالحياة، عن رطوبة الظلال الباهتة التي تتسرب من خشب السنديان الذي كان يصهل بالحيوية، عن لوعة الزمن المعلق بين السقوف البائسة، عن الأبواب المسمرة على وهج الإنتظار .
يرى باسترناك " أنّ الصورة هي وحدها التي تستطيع أنْ تجاري الطبيعة " وعليه فقد كانت لوحات (نسيان بصري) للفنان مناف قد منحتنا فرصة انْ نُطلّ على ملامح بصرية انقرضت وهاهي تتجلى لنا بهية بالألوان الحالكة أو الألوان الحارة او الباردة . هنا تتحول الألوان الى لغة حافلة بالتشبيه والتورية والإستعارات، كي تقرب لنا فداحة الصورة وهي تفصح عن نفسها بشكل حكائي صارخ .
ولنحاول ان نتصفح الصورة داخل اللوحة من خلال استعراض سريع.
بابان بالوان داكنة ولون مائل الى الزرقة بينما يبدو الجدار متآكلا، وكأن البابين يتسلقان ربوة . وفي لوحة أخرى تبدو النافذة مضاءة رغم قسوة العتمة الحالكة المحيطة، بيد أنّ ثمة أشعة بيضاء تتسرب باستحياء الى المكان المغلق . وبالتالي يظل المكان عاريا سوى النوافذ العتيقة !
في لوحة اخرى نجد أنّ الأبواب مازالت قادرة على التعريف ببهاء المكان رغم أنها مقفلة برفق .ومع ذلك فإنها تُشعر المتفرج بانها مفتوحة على مصراعيها . بينما يبدو نوع من التزويق الناتيء، اضافة الى المطارق النحاسية، حتى أنك حينما تتملى اللوحة تشعر بان ثمة سؤال يحاصرك . لماذا تحتفظ الأبواب على بهائها رغم قسوة الزمن؟
لوحة اخرى تمثل نافذة بالوان ناصعة تقابلها سلالم معتمة بينما تتصارع الألوان وكأنها تتوالف مابين البارد والحار لتكوّن مزيجا ذا تأثيرات شعورية مختلفة.
لوحات أخرى تمتلك تدرجا لونيا واخري يتسلل منها اللون بحياء واخرى صارخة اللون مما يوحي بالخواء والوحدة ومجهولية المكان . فهناك فتحة تمنح السلالم المظلمة رحيقا شفافا من الأشعة . وفي لوحة أخرى يبدو هيكل البيت كاملا كما تبدو شناشيله العتيقة منهمكة في بؤسها بينما تطل النافذه وحيدة مقفرة . وفي لوحة اخرى يمتد الزقاق مكشوفا مهملا تتكيء فيه الجدران على بعضها وكأنه يعلن حالة الفوضى والخراب .
وهكذا فاننا نجد ان اللوحة عند مناف امتداد لغيرها . وكأني ارى في المعرض لوحة واحدة تكمل بعضها في هرموني فني لاغبار على ابداعه .
وفي كل ذلك كان الفنان موفقا في التأكيد على أنّ البيت هو كوننا الأول الذي ينبغي عدم التفريط به .
اوتاوة/كندا