"أن نتفلسف هو أن نكون في الطريق، الأسئلة في الفلسفة هي أكثر جوهرية من الأجوبة"1 كارل يسبرس فيلسوف مظلوم بحق فهو لا يذكر في تاريخ الفلسفة إلا ضمن إطار الوجودية المؤمنة مع غابريال مرسيل وسيرين كيركارد وكذلك انتمائه إلى حقبة تاريخية تضم مارتن هيدجر وماكس فيبر.
بيد أن أهم من ذلك هو مراسلاته مع محبة الحكمة حنة أرندت وإشرافه على أطروحتها حول "الحب عند القديس أوغسطين" وإيثاره الصمت الفلسفي وعدم التعاون الفكري مع السياسة النازية الصاعدة في ألمانيا.
لعل المشهور من كتبه هو "مدخل إلى الفلسفة" و"عن الحقيقة" و"الإيمان الفلسفي" و"كبار الفلاسفة" و"خطب ومقالات فلسفية" ولكن ما يلفت النظر من تأليفاته ويدعو إلى التمعن والدراسة المستفيضة هو كتاب "فلسفة الوجود" الذي منعه النازيون وترجم فيما بعد إلى الفرنسية بالذنب الألماني ويمكن إثره ذكر كتاب "فلسفة" بأجزائه الثلاث:"الموقف الروحي من العصر" و"العقل والوجود" و"التوجه نحو العالم".
فلسفة الوجود التي شيدها كارل يسبرس ليست مجرد مسيرة للوعي الفردي في الحضارة الغربية وإنما هي بالإضافة إلى ذلك نداء إلى كل أشكال الوعي البشري لكي تشارك في اليقظة الكونية بلغة مشتركة2.
غير أن فيلسوف الوضعيات القصوى3 فضل السير على درب التفلسف واشتغل بفن السؤال على اختيار النسق وبناء المذهب وتقديم الأجوبة وحجته على ذلك أن الأمر الأهم في الفلسفة هو الأسئلة لأن كل سؤال يفترض جوابا وكل جواب يتحول إلى سؤال جديد وبهذا المعنى احتفل بالأشياء التي تعترض في طريقه.
لقد بحث كارل يسبرس عن الفلسفة الخالدة وسماها الفلسفة بالمعنى الصحيح ولم يجد تعريفا آخر لها غير فعل التفلسف ولكنه وضع عدة شروط أساسية لكي يستكمل هذا الفعل أصالته ويتكامل مع شمولية الكائن ويسطع معناه وتتحقق غايته ويبلغ مقاصده وهي على النحو الآتي:
-رؤية الواقع البشري في منبعه الأصلي من الوجود واستيعاب الروح التاريخية الفعالة.
-ادارك الواقع في المواقف الفكرية للبشر والأفعال الجوهرية التي يقوم بها تجاه أنفسهم.
-الانفتاح على الكوني بكل صفاته ونطاقه ودون الوقوع في الأبدية والشمول والكليانية.
- المبادرة على التواصل الحقيقي مع الناس عن طريق الحوار المقنع والصراع الفكري.
- مواجهة أشكال الإخفاق والفشل والعجز بتدعيم اليقظة العقلية والنهوض والتذكر والتعلم.
- التركيز على بؤر التي تنبجس منها الحقائق والمشاركة الحرة من طرف الإنسان للواقع.
لكن "ما هذه الفلسفة التي ولو كانت كونية فإنها تتجلى في صور ولو كانت غريبة؟"4
خلاصة ما يمكن قوله حول قيمة النظرة العالمية ليسبرس حول تاريخ الفلسفة هي مطالبته بأن يكون هذا التاريخ فلسفة قائمة الذات وتدرك الحقيقة بوصفها الكوني الأبدي وتستوعب الماضي وتحس بالواقع بوصفه نقطة مرجعية للفعل وتستجيب للوجود الحاضر وتحدد العالمية في الامتداد في الزمان والمكان والمرآوية وتعدد الظواهر وتتعامل معها باعتبارها طريق ملكي نحو الكونية وتشترط الرؤية العيانية.
كما يصور يسبرس عملية التدرج في المسار التاريخي من الجزئي والخاص الى الجوهري والأساسي بالقيام بعمل مضني قصد تحصيل المعارف والاقتراب من العقل الكلي وبلوغ الحاضر الأبدي للتاريخ وينقسم هذا العمل الشاق الى خطوات ثلاث وهي كالآتي:
- المعرفة التجريبية بالوقائع والقضايا والأبنية والسياقات والتأثيرات.
- تمييز الأشكال والصور وابراز الشخصي والنسقي في المجموعات.
- الاستيعاب والفهم بالجدال والتحاور والتواصل الشخصي والمعايشة 5.
أليس المطلوب هو إعادة الاعتبار للفيلسوف الكبير كارل يسبرس؟ ألم يصرح بأن "هناك معارف دقيقة تتخطى الزمان. ولكن هل هذه المعارف هي كل شيء؟ وهل تنحصر الحقيقة في ادراك العلاقات الدقيقة أم بجانب المعرفة الموضوعية المضبوطة ومن فوقها معرفة أخرى ممكنة تضيء كل أحوال الكوني وجهاته، معرفة لا تتوقف ولا تنغلق على نفسها، بل تتيح للحرية أن تنكشف وتتكشف لذاتها؟"6
د زهير الخويلدي
كاتب فلسفي