كلما فتحتُ أشيائي القديمة، أفتش عن الخطاب الذي بعث لي به صديقي المقيم بإحدى الدول الأوروبية وما يحتويه من فرصة عمل. لقد قادتني أحلام الشباب المجنونة للهجرة التي غيرت مجرى حياتي، تركتُ كل شيء ورائي، كنت أبحث عن شيء جديد، شيء مختلف. اعتبرني الجميع محظوظا وقتها، لكني لم اكن أعرف أنني سأخسر الكثير. عندما ذهبت وقتها إلى السفارة لأكمل الإجراءات، وجدت آلاف الشباب يصطفون جنبا إلى جنب محاولين أن يصلوا إلى تلك الفرصة التي صنعتها لي الصدفة، لهذا أعرف جيدا كيف يستطيع تجار الموت أن يبيعوا الأحلام، وكيف يستطيعون الترويج لها جيدا، يقبضون المال والروح معا، وإن كان لا يهمهم إلا المال، فثمن كل شيء في بلادي مرتفع إلا الإنسان.
بمجرد أن هبطت الطائرة، أحسست ببروده شديدة. ظننتُ أن السبب تغير الجو. ولكنني بعد ذلك عرفتُ السبب: إنها بلاد تستطيع أن تحقق فيها الكثير من المال، ولكنك ستظل تشعر دائما بالصقيع. ومن وقتها لم أستطع أن أنظم بيتا واحدا من الشعر، فكلما حاولتُ أن أمسك القلم، شيء في داخلي يوقفني ويسحب القلم من بين يدي مع أنني كنتُ من أشهر شعراء وطني قبل أن أغادره.
الشعر عندي أصوات متناغمة، مشاعر من الحب الطاهر، دائما ما كان فكري وقلبي في حاله توحد دائم، لقد كنت أكتب ما أشعر به مهما كلفي ذلك من عناء.
إنني الآن أشعر بكل المشاعر المتناقضة، الفرح؛ الحزن؛ السعادة؛ التعاسة؛ الحب؛ الكراهية. وعلى الرغم من هذا لا أستطيع الكتابة. جربتُ أن أمشى في المدينة وأتجول فيها؛ أن أرى أبنيتها الفخمة وأناقتها التي لا مثيل لها، وكل ما يبهر العين، لكن بدون جدوى.
حلمت كثيرا ولكن ما فائدة الأحلام مع مرارة واقع تشعر فيه كل يوم بالغربة، لذلك أدمنتُ لعبة غريبة، في كل صباح أقلب في أوراق التقويم وأقرأ ما تحويه في محاولة خائبة للتعرف على ما يخفيه القدر، ليس هذا فحسب بل صرتُ أسترق ما تحويه الأيام المقبلة.
انتبهت إلى المنديل الأصفر، تذكرتها ،هربت مني كل الملامح إلا ملامح وجهها ظلت محفورة في ذاكراتي، ابتسامتها الرقيقة، صوتها الناعم الذي يسكنني، نظرة عينها وهي تطلب مني عدم الرحيل، فالمرأة في مجتمعنا لا تستطيع أن تبوح بما تريد صراحة، حينها أعطتني هذا المنديل المطرز الذي نقشت فيه قلبا كبيرا وكتبت فيه اسم الوطن.
وإذا بي أتذكر أغنية فيروز "يا مرسال المراسيل"، لأعرف لماذا اختارت هي اللون الأصفر لتهديني إياه قبل رحيلي، نعم كانت تشعر بأنني لن أرتاح بعيدا عنها وعن وطني، وعندما ستبكي بداخلي المواويل، سأسأل عن أهل المنديل. طلبتها بلطف دون أن تقولها.
لقد خسرتُ كتابه الشعر وخسرت حبها أيضا، حبها الصافي كسماء بلادي، خسرت الجلوس لساعات طويلة أمام النيل أحادثه وأشكو له.
وعندما لم يكن يعرف الجميع أين أنا كانت تأتي لتلاقيني على ضفافه، كانت تسمعني بلهفة كما النيل، كم كنت أحس بأن النيل به حكايات كثيرة: المفرحة منها والمؤلمة، إنه يسمعني كما يسمع الجميع، ولم يكن يفرق بين أحد.
لم أعد أشم تلك الرائحة المميزة التي تعلو الأفق كلما اقترب رمضان: الذرة، والبطاطا المشوية، وصوت جرس بائع الفول الذي يطوف على المنازل. لم أعد أسمع صوت الأطفال وهم يملئون الشوارع ضجيجا، وسؤال الجميع عني عندما أختفي، لم أكن أدرك قيمة كل ذلك، لقد عرفتُ متأخرا أنها خسائر كبيره. لكنني قررتُ في النهاية العودة، تاركا كل شيء ورائي.
نعم سأعود، لستُ غانما ولا منتصرا، ربما سأعود لأكتب الشعر، هنيئا لي، فكما يقول هولدرن: هنيئا لمن يسكن في وطن معروف على أرض ثابتة، حينئذ تضيء سماؤه بصورة أجمل؛ بصورة أجمل؛ بصورة أجمل