أتخيّلني لحظة تستفزني فكرة ما، في رأسي شيء أشبه بالصّداع. لا، ليس صداعا بمعنى الشعور بالألم ذلك الذي أحفظه عن ظهر قلب، هو شيء يسري ما بين عيني تماما أسفل جبهتي، يمتد إلى وراء رأسي، فأشعر كما لو أن حبلا مشدودا يرتخي لحظة، ويعود ليشتد لحظات ولحظات. أرى نفسي في فضاء واسع لا أدركه، أركض في كلّ الاتجاهات التي لا أعرف، أتمادى في البحث، أعاود الركض مجددا، أسقط، أحاول الوقوف، ترتجف يداي، أتعب، أكرر محاولات الوقوف، أمشي ببطء، أتثاقل في مشيتي أكثر، أتعثر بالخوف، بالوجل، بالنسيان، بآفة فقدان ذاكرة الفكرة والحرف.
أحاول الإمساك بأفكار أراها أمامي تتجسد بصورة أشخاص، تلبس ثيابهم، وتأكل طعامهم، وتشرب ماءهم، وتأوي في لحظات التعب إلى فراشهم، أفكاري كقبيلة يجتمع ساكنوها يوم عيد أو فرح أو انتصار، فأقبل، أضمها، أهنؤها، أقرؤها سلاما من قلبي، والكثير من الامتنان لأنها تسكن هذه الرأس التي يلعنها الصّداع حين يطيب له المقام فيها.
لست أمتهن الحرف إطلاقا، أنا فقط أسرد خبايا نفسي، أبسط ما في داخلي على بساط شفاف، أعرضه أمامي كبائع متجوّل، لكن لا أصرخ كما يفعل، يخونني صوتي كلّ مرة، فيخرج للعلن مبتورا، ضبابيا، أجوف. أحاول أن أعدّل من نبراته، لكن الغصّة التي تأبى أن تفارقني، تسكن ها هنا، مداها قبل الحلق بقليل، أيسر الصدر، حيث النبض يختلف إيقاعه.
تبتلعني الموسيقى في حالات كهذه، أترك نفسي لها، لا أقاوم، أنشد ميلادا جديدا كلّما أحسست بها تغوص في أعماقي، أتلو في قلبي صلاة الخلود، وأمضي بهذي الرّوح إلى البعيد، أريد أن أمحو آثام الذكرى، أن أنسى، أن أخلق في كوني عالما لا يستقبل الأحزان، لا يستضيف الوجع، عالما لا يكون فيه الألم حاضرا على الدوام.
تبترني الذكرى، تجلدني بسياط الغياب، وأنا المعلقة بغيم الحضور الخائن، أترقب مطر الشوق كي أبتل به عن آخري، أريد أن أنسى، أن أبتسم دون أن يتلعثم قلبي، دون أن يضطر لرسم الابتسامة بقلم جاف، دون أن أستعير ألوان الطيف.
أريد أن أبتسم، وأرى أمامي قوس قزح كبير، غيمة بيضاء تحرسني من بعيد، يدا ترسم قلبا على نافذة الحلم، وعصفورا صباحيا أطعمه قلبي، لينبت في عشه غدا قلب آخر أكثر اخضرارا، قلب لا يذبل حين تزوره الذكرى، قلب مطاطيّ لا يتمدد بحرارة الشوق، ولا يتقلص ببرودة الغياب، قلب يستطيع الابتسام وقت يشاء.