معالجة الاكتئاب في المنبع(*)
لعل التنبيه الكهربائي في أعماق الدماغ يخفف من حدة اضطرابات المزاج المدمرة.
-
باختصار
نحو 17% من سكان الولايات المتحدة يعانون في أي فترة زمنية من حياتهم ما يسميه اختصاصيو الطب النفسي «نائبة الاكتئاب الكبير»(1).
المعالجات المتوفرة، بدءا بالأدوية وانتهاء بالتخليج الكهربائي، عاجزة عن تحقيق سوى تحسن طفيف عند نسبة من مرضى الاكتئاب تصل إلى 20%.
غرس المساري(2) في باطن الدماغ، والذي عادة ما يستخدم اليوم في معالجة داء پاركنسون، يدرس حاليا عند البشر لتطبيقه في معالجة الاكتئاب الشديد.
تم تحديد دارات دماغية ترتبط بالاكتئاب، حيث تستخدم المعارف المستقاة منها بمثابة مرشدة إلى المكان الذي يجب أن تتموضع فيه المساري. |
[rtl]«أشعر فجأة بالهدوء.» من تفوهت بهذه الكلمات الجميلة كانت مريضتنا، وهي امرأة في منتصف العمر وتعاني اكتئابا شديدا. فقد قالت ذلك في غرفة العمليات بعد ثوان معدودة من قيام واحد منا (<لوزانو>) بتحريض باحة منتخبة من مكان عميق في دماغها بمنبه كهربائي. وأجريت هذه العملية عام 2003 في مستشفى تورونتو ويسترن واعتمدت فقط على مخدر موضعي بحيث أمكن للمرأة أن تظل واعية وأن تتحدث إلينا.
[/rtl]
[rtl]وعندما قمنا، آنذاك، بزيادة قوة التيار الكهربي فإننا سألناها عما إذا لاحظت أي اختلاف كان، وأدهشنا وصفها، فقد قالت إنها تشعر بالغرفة وكأنها تتحول من «أسود وأبيض إلى ملون» - وكأن مزاجها قد تحسن فجأة بنقرة إصبع على مفتاح كهربائي.
[/rtl]
[rtl]وكان هذا الاختبار أول دراسة من الدراسات التي أدت إلى تطوير طريقة جديدة قد تكون مجدية في معالجة الاكتئاب: تنبيه باطن الدماغ deep-brain stimulation، وهو تقنية تستخدم حاليا في معالجة اضطرابات أخرى، كداء پاركنسون على سبيل المثال. إن توفر خيارات علاجية جديدة للاكتئاب من شأنه أن يُلبي حاجة ملحة، فنحو 17% من سكان الولايات المتحدة يعانون، في أي وقت من الأوقات وعلى مدى الحياة، وعكةً واحدة أو أكثر مما يسميه اختصاصيو الطب النفسي «نائبة الاكتئاب الكبير»(1)، حيث تبلغ نسبة الإصابة نحو 8% عند النساء ونحو 5% عند الرجال، علما بأن هذه الوعكات ليست مجرد نوبات من نوبات الحزن. فالاضطراب الاكتئابي الكبير major depressive disorder الذي يظهر في فترات متقطعة، يتجلى على شكل نوبة من مزاج الحزن المتواصل مصحوب بالإحساس بالذنب والشعور بانعدام القيمة وفقدان الاهتمام بنشاطات الحياة، فضلا عن اضطرابات في التفكير والنوم وشهية الطعام والرغبة الجنسية، إضافة إلى أنه قد يتمظهر بآلام جسدية. وقد أطلق <وينستون تشرشل> على هذه الحالة التي كافح ضدها كفاحا مريرا، تعبير «الكلب الأسود».
[/rtl]
[rtl]والاكتئاب يمكن أن يكون مميتا. فالاكتئاب الكبير يدفع ما يقدر بنحو 15% من مرضاه إلى الانتحار، كما أنه يمكن أن يفضي إلى تفاقم مشكلات طبية أخرى، مثل أمراض القلب وداء السكري، وأن يسبب انخفاضا في مأمول الحياة عند الأشخاص الذين يعانون هذه الحالات المرضية.
[/rtl]
[rtl]وفي حين أن المعالجات المتوفرة - بدءا بالمعالجة السيكولوجية فالمعالجة الدوائية ثم المعالجة بالتخليج الكهربائي electroconvulsive therapy - عادة ما تكون فعالة لدى معظم المرضى، فإنها تبقى عاجزة عن تحقيق تحسن ملموس، أو أي تحسن، عند زهاء 10 إلى 20% من مرضى الاكتئاب. وهذه الفئة من المرضى هي بالتحديد تلك الفئة التي يمكن أن تكون مرشحة لتلقي معالجة بتنبيه باطن الدماغ بعد أن تصبح هذه التقنية تقنية راسخة.
[/rtl]
[rtl]ولم يتم ترخيص هذه التقانة للاستخدام الروتيني في المستشفيات حتى الآن، ولكنها اختبرت لدى 200 شخص تقريبا على مستوى العالم، حيث تتطلب من الأطباء أن يقوموا بحفر ثقوب في الجمجمة ثم غرس مسارٍ electrodes داخل الدماغ لتبقى فيه بصورة دائمة، الأمر الذي سيمنعها حتما من أن تصبح الخيار الأول لمعالجة أي شخص من الأشخاص في المستقبل. ولكن إذا ما تكللت الاختبارات القادمة بالنجاح، فمن المأمول أن تقدم هذه التقنية طوق نجاة إلى أولئك الأشخاص الذين من دونه قد يكون محكوما عليهم بالبقاء في قبضة اليأس المؤبد.
[/rtl]
كل ذلك يحدث في الدارات(**)
[rtl]لقد انبثق اختبار عام 2003 عن مجموعة أبحاث أجراها أحدنا (<مايبيرگ>) وذلك لتحديد المناطق المشاركة في نشوء الاكتئاب تحديدا بالغ الدقة. فعلماء الجهاز العصبي كانوا قد لاحظوا في ذلك الحين أن أعراض الاكتئاب وأعراض مجموعة أخرى من أمراض الدماغ تنجم عن اضطرابات في الأداء الوظيفي لدارات عصبية معينة. فالرجفان tremor والصمل rigidity المعروفان في داء پاركنسون Parkinson يحدثان نتيجة لإخفاق في الدارات التي تضبط الحركة. كما أن انحراف منظومة الدارات المشاركة في تشكيل ذكريات جديدة، أو استدعاء ذكريات قديمة، هو المسؤول عن داء ألزهايمر Alzheimer. وعلى نحو ما ذكر، فقد ظهرت أدلة كثيرة في مطلع العقد الأول من القرن الحالي تشير إلى أن الاكتئاب يعود في جوهره إلى اضطرابات في الدارات التي تتوسط في المزاج circuits mediating mood.
[/rtl]
[rtl]أما الدارات نفسها، فتتشكل من الوصلات التي تترابط من خلالها مجموعات فرعية من نورونات الدماغ البالغ عددها 86 بليوناً، حيث تمد كل خلية من هذه الخلايا فروعها إلى آلاف الخلايا الأخرى؛ بعضها إلى النورونات القريبة وبعضها الآخر إلى مسافات بعيدة على امتداد الجهاز العصبي المركزي. وما إذا كان الفرع سيمتد إلى هذه الخلية أو تلك، فالأمر يتوقف على الوراثة وخبرات الحياة المبكرة والإجهاد(3) النفسي. كما أن الخلل في اشتغال الدارات المشاركة في الاكتئاب قد يطال مناطق دماغية عدة. غير أن تحديد موقع هذه الشبكة من الوصلات تحديدا دقيقا يشكل أحد التحديات المستمرة التي يواجهها علماء الجهاز العصبي.
[/rtl]
[rtl]وقد بدأت <مايبيرگ> بعملها في منتصف تسعينات القرن العشرين، حيث قامت بتصميم سلسلة من التجارب للكشف عن باحات في الدماغ تشارك في تنظيم المزاج لدى الأصحاء ولدى مرضى الاكتئاب على حد سواء. وفي إحدى أولى هذه التجارب كان على المتطوعين الأصحاء أن يقوموا بممارسة تدريب ذهني لتخفيف إحدى الذكريات الحزينة في حياتهم.
[/rtl]
[rtl]وقد أظهر نوع من المسح الدماغي الذي يدعى التصوير الطبقي بإطلاق البوزيترون (PET) ا(4) تفاصيلَ تغير ملحوظ في النشاط تزامن مع لحظة شعور المريض بالاكتئاب. كما أثبت أحد أنواع التصوير PET أن مرضى الاكتئاب، عند مقارنتهم بالأشخاص الأصحاء، يبدون زيادة في تدفق الدم، وهو أداة لقياس نشاط الخلية الدماغية، في باحة معينة تقع في وسط الدماغ، فيما يُبدون، في المقابل، درجة نشاط منخفضة في الباحات المشاركة في تنظيم الحافز والدوافع والوظائف التنفيذية.
[/rtl]
[rtl]أما البقعة التي أظهرت أعلى درجة من النشاط في صور الماسح، فقد كانت تلك التي تمثل منطقة صغيرة في وسط الدماغ تدعى الباحة الحزامية تحت الثفنية the subcallosal cingulate area والمعروفة أيضا بباحة برودمان رقم Brodmann area 25، وهو الاسم العائلي للمشرح العصبي الألماني الذي ابتكر خريطة للدماغ سنة 1909 مستخدما تسميات رقمية بناء على الطريقة التي تتنضض بها الخلايا في موقع معين. وإضافة إلى ما سبق، فقد اكتشفت <مايبيرگ> أيضا أن القشرة الجبهية تنخفض درجة نشاطها بما يتناسب ودرجة الحزن التي يعانيها الشخص.
[/rtl]
[rtl]وفي مجموعة ثانية من التجارب التي أجرتها <مايبيرگ> أظهر التصوير PET لمرضى مكتئبين - وبعد اختفاء أعراضهم بفعل معالجة بمضادات الاكتئاب دامت أسابيع عدة - أن هذا التحسن يترافق مع تناقص في نشاط باحة برودمان رقم 25، مصحوباً بزيادة في نشاط القشرة الجبهية. ومع أن التغيرات شملت أيضا باحات أخرى من الدماغ، لكنها كانت في الباحة الحزامية تحت الثفنية مختلفة إلى حد مدهش، وهذا ما أشار إلى أن هذه المنطقة تؤدي دورا حاسما في حالات المزاج السلبية.
[/rtl]
[كيف تعمل]
إعادة استنهاض (تشغيل) الدماغ(***)
يقوم تنبيه باطن الدماغ على استعمال مسارٍ تثبت جراحيا في مكانها لإرسال تيار كهربائي عبر دارات عصبية (حزم الألياف العصبية التي تربط مناطق دماغية بعضها ببعض). وهذه الدارات المستهدفة لا تعمل بطريقة سليمة عند الأشخاص الذين يعانون الاكتئاب الكبير. وهذه الطريقة من المعالجة - التي مازالت تنتظر الموافقة عليها للاستعمال السريري الروتيني - بوسعها أحيانا تصحيح الاختلالات في بث الإشارات وبذلك تبدد مشاعر اليأس وانعدام المتعة.
الهدف توضع المساري في مكانها لكي تقوم بالتأثير في باحات دماغية عدة مترابطة فيما بينها، حيث تتمركز بالقرب من البنية الحزامية تحت الثفنية (باللون الأخضر)، والتي هي منطقة محورية تتفرع منها دارات مشاركة في صنع القرار والاستجابات الانفعالية ووظيفة الذاكرة لتمتد إلى أجزاء أخرى من الدماغ. وبعض هذه الفروع (باللونين الأحمر والأزرق) يترابط بالقشرة قبل الجبهية المتوسطة والفص الصدغي المتوسط (باللون الأزرق)، وبعضها الآخر (باللون الأصفر) بالقشرة الحزامية المتوسطة. وهذه الدارات تتعرض بمجملها للاختلال الوظيفي خلال النائبة الاكتئابية.
يزعزع الاكتئاب سير عمل الدارات العصبية الاعتيادي، في حين أن مسوح الدماغ يمكنها أن تؤشر إلى طرق علاجية قادرة على تعزيز ما تمتلكه الدارات من نزعة طبيعية للتجاوب مع فقد التوازن المذكور وتصحيحه. فالمسح يمكنه أحيانا أن يظهر ما إذا كان بوسع المعالجة المعرفية - السلوكية أو المعالجة الدوائية أن تساعد على استعادة التوازن. أما طرق العلاج الأخرى، كتنبيه باطن الدماغ، مثلا، فمن شأنها أن تستعمل فيما إذا كانت الدارات قد فقدت قدرتها الذاتية على الاستجابة. |
[rtl]وترسل باحة برودمان رقم 25 وصلات إلى العديد من مواقع الدماغ الأكثر أهمية وتستقبل منها وصلات مماثلة. وتشمل هذه المواقع: القسم الحجاجي والقسم الإنسي في الفصين الجبهيين، والمهاد the hypothalamus، والنواة المتكئة the nucleus accumbens واللوزة، والحصين، والباحة المحيطة بالمسال the periaqueductal area والرفاء الظهراني the dorsal raphe. وتتحكم هذه الباحات في الطريقة التي ينظم بها الدماغ سمات(5) السلوك الأساسية، بما في ذلك دورة النوم واليقظة، والحافز، والاستجابات للمخاطر المدركة، والمنبهات الجديدة (غير المألوفة)، وأحاسيس المكافأة، والتقوية، والذاكرة القصيرة الأمد، والقدرة على استعمال الخبرات السابقة في إرشاد التفكير حول الأحداث المستقبلية. ونظرا لأن هذه العمليات الحاسمة التي ينفذها الدماغ يصيبها الانحراف في الاكتئاب، فقد ذهبت <مايبيرگ> في تفكيرها إلى أن تنبيه هذا المحور من النشاطات العصبية بتيار كهربائي قد يكون من شأنه مساعدة الأشخاص المصابين بالاكتئاب.
[/rtl]
جراحة دماغية للاكتئاب(****)
[rtl]وبحلول عام 2002، تمت الموافقة على استعمال تنبيه باطن الدماغ في مناطق دماغية أخرى لمعالجة داء پاركنسون ومعالجة حالة أخرى تسمى الرعاش الأساسي essential tremor (مجهول السبب)، فأدركنا حينئد أن استخدامه عند البشر أصبح أمرا ممكنا. وللتخفيف من وطأة أعراض داء پاركنسون، تم تطبيق هذه المعالجة على أكثر من 000 100 مريض على مستوى العالم حتى يومنا هذا. وتجدر الإشارة إلى أن الإجراء الجراحي الأساسي الذي ينفذ في الاكتئاب هو إجراء مماثل، فالمرضى لا يتم اختيارهم للدراسة إلا من بين أولئك الذين تنطبق عليهم معايير مماثلة لتلك التي انطبقت على مريضتنا الأولى في تورونتو ويسترن. فلا بد لهؤلاء من أن يكون المرض قد ظهر عليهم منذ سنة على الأقل، وأن تكون المعالجة بأربعة أنواع مختلفة من الأدوية على الأقل قد فشلت في تحقيق أي تحسن. إضافة إلى ذلك، فلا بد أن يكونوا أيضا قد تلقوا معالجة بالتخليج الكهربائي ولم يستجيبوا لها، أو أن يكونوا قد رفضوها أساسا.
[/rtl]
[rtl]وتنبيه باطن الدماغ ليس مجرد شكل آخر من أشكال المعالجة بالتخليج الكهربائي التي يقوم مبدؤها على تحريض نوبة صرعية مضبوطة، ولكنها معممة، عند المريض المخدر وخلال جلسات قصيرة ومكررة على مدى أسابيع. فهذه التقانة الجديدة تطلق نبضات كهربائية قصيرة على منطقة صغيرة في الدماغ لها ارتباطات بغيرها من مناطق الدماغ المنخرطة في الاكتئاب، حيث يخضع المريض لمداخلة جراحية كبيرة يتم فيها غرس مسارٍ كهربائية ينبعث منها فيما بعد تنبيه متواصل من غير أن يتعرض المريض لخطر فقدان الذاكرة الذي يمكن أن تسببه المعالجة بالتخليج الكهربائي.
[/rtl]
[rtl]وفي اليوم الذي أجري فيه العمل الجراحي لمريضتنا المصابة بالاكتئاب في تورونتو ويسترن، قام الفريق الجراحي بتثبيت رأسها بدعامة للحفاظ عليه في وضع مستقر، ثم أجرى لها تصويراً بالرنين المغنطيسي، حيث تم تحديد المكان المخصص لموضعة المسرى في الباحة الحزامية تحت الثفنية. وقام الفريق الجراحي بعد ذلك بتخدير المريضة تخديرا موضعيا في غرفة العمليات ثم حفر ثقبين في جمجمتها وأمكن إدخال المساري عبرهما.
[/rtl]
[rtl]وبمساعدة كل من و [الخبيرين في الفيزيولوجيا العصبية في تورونتو ويسترن] قمنا بالتسجيل من نورونات المنطقة الحزامية تحت الثفنية للمرة الأولى لوضع ترسيمة لنشاط هذه النورونات من أجل معرفة وظائفها. واستناداً إلى ما سبق إجراؤه من تجارب تصويرية، اشتبهنا بأن هذه الباحات من شأنها أن تكون منخرطة في معالجة الانفعالات المرتبطة بالحزن. وباستخدام مسرى ميكروي(6) رأسه أدق من شعرة إنسان، حصلنا على قياسات مباشرة للنشاط الخلوي في النورونات(7) التي تستوطن تلك المنطقة من الدماغ.
[/rtl]
[rtl]وخلال عملية التسجيل من النورونات كنا نعرض على المريضة صورا متنوعة تظهر طائفة من المشاهد الانفعالية الإيجابية والسلبية على حد سواء، وقد اكتشفنا من خلال التسجيلات أن هذه النورونات كانت تزداد نشاطا حينما كانت المريضة تشاهد صورا محزنة ومزعجة، ولكنها لم تكن تتفاعل بتاتا مع المشاهد المفرحة أو المبهجة أو المحايدة.
[/rtl]
[rtl]وقمنا بعد ذلك بغرز مساري التنبيه في باحة برودمان رقم 25 في جهتي الدماغ اليمنى واليسرى. وبعد تشغيل التيار بثوان معدودة، أخبرتنا المريضة بأنها تشعر بتناقض ملحوظ في الألم النفسي وفي الثقل الانفعالي؛ وكأنما زال عنها وزن ثقيل بطريقة أو بأخرى. وهو إحساس وجدناه يحدث عند جل مرضانا، ولكن ليس كلهم. وكانت هذه الآثار على أشدها عند بداية التنبيه، وكانت تظهر مجددا بتكرار التنبيه لمرات عدة، ولكنها كانت أقل قوة. لقد بتنا نعرف اليوم أن مواصلة العلاج في هذه البقعة نفسها لمدة أيام أو أسابيع تكسب المريض فوائد طويلة الأجل بصورة عامة.
[/rtl]
[rtl]لقد تعلمنا من هذه المداخلة الجراحية، وغيرها من المداخلات التي أجرينها، أن التموضع الدقيق للتماسات الكهربائية المولدة لمستوى ثابت من التنبيه هو أمر لا غنى عنه. ففي تلك العملية الجراحية الأولى ظهر الانفراج بعد أن قام واحد أو اثنان من تلك التماسات الأربعة بتزويد المريضة بتيار ثابت.
[/rtl]
[rtl]وانطلاقا من المراقبة الحثيثة، قام و، اللذان يعملان في مختبر <مايبيرگ> بجامعة إيموري، بتطوير طريقة تصوير جديدة للتوصل إلى مزيد من الدقة في تحديد حزم الأسلاك العصبية، أو المادة البيضاء، التي تتقاطع في منطقة برودمان رقم 25، والتي يبدو أنها تفضي إلى انفراج فوري وتولد أيضا آثارا مضادة للاكتئاب طويلة الأجل عندما تُحفز.
[/rtl] [rtl]وما أن توضع المساري في مكانها الصحيح ويتم تثبيتها على الجمجمة، حتى يقوم الجراح بغرس مولد نبض كهربـائي يشبه الناظمة القلبية تحت الجلد أسـفل عظـم الترقوة. وهي ناظمة تعمل بطاقة البطارية وتنبه الباحة المستهدفة بصورة متواصلة وبتردد قدره 130 نبضة في الثانية. وقد كان اختيارنا لمتثابتات (معايير) parameters التنبيه، يعتمد جزئيا على خبرتنا في معالجة مرضى الپاركنسون، حيث يبدو لنا حتى الآن أن هذا النبض العالي التردد يعود بأحسن الفوائد على المريض.
[/rtl]
[rtl]وما أن تنجز الإعدادات حتى تكون المداخلة الجراحية قد اكتملت. ويقوم الأطباء بعد ذلك باستعمال جهاز محمول للتحكم عن بعد(8)، لضبط التنبيه الذي يتلقاه كل مريض ضبطا دقيقا، وبحسب خبرتنا، فبمجرد إقرار الإعدادات فليست هناك ضرورة للقيام بتعديلات إضافية. وسوف تقرر الأبحاث القادمة ما إذا كان المرضى الذين لا يستجيبون للإعدادات العيارية بحاجة إلى إعدادات أخرى، أو ما إذا كانت الآثار المضادة للاكتئاب يمكن تسريع ظهورها عن طريق إعدادات مختلفة. والبطاريات يجب استبدالها كل ثلاث سنوات تقريبا بعد استهلاك طاقتها، كما أن البطاريات القابلة للشحن أصبحت متوفرة الآن.
[/rtl]
لماذا تسعفنا ناظمة الدماغ؟(*****)
[rtl]لقد شهد بعض المرضى أعراضهم وهي تختفي كليا، لكن الاستجابات تفاوتت والمعالجة لم تسعف الأشخاص جميعهم. أما المرضى الذين استجابوا سريريا - والاستجابة تعني هنا تناقصا بنسبة 50% أو أكثر على مقاييس الاكتئاب - فيمكن أن تتباين نسبتهم بين مستشفى وآخر، حيث تراوحت بين 40 إلى 70% خلال فترة قدرها ستة أشهر. ويمكن لهذا التباين في الموجودات أن يعود إلى التحدي المستمر المتمثل باستخدام الأعراض والمسوح الدماغية كمحددات لاختيار أكثر المرضى صلاحية لتنبيه باطن الدماغ.
[/rtl]
[rtl]وقد أظهرت إحدى الدراسات التي حظيت ببعض الاهتمام نتائج ضعيفة. وهذه الدراسة التي رعتها جهات صناعية وأجريت من قبل St. Jude Medical - ومقرها الرئيسي في سانت پول/منيسوتا - قرر القائمون عليها سنة 2013 تعليق قبول مرضى جدد، علما بأن المرضى الذين كانوا قد بدؤوا مشاركتهم فيها ما زالوا يتلقون العلاج. ولم تظهر حتى الآن مخاوف تتعلق بسلامتهم. بيد أن تحليل منتصف المدة الزمنية للتجربة، المطلوب من قبل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، كشف عن أن المرضى المزودين بغرسات التنبيه لم يشهدوا تراجعا في حدة الأعراض بالقدر الكافي مقارنة بمجموعة أخرى بقيت المساري لديها موقفة عن العمل لمدة ستة أشهر. ويقوم باحثون الآن بمراجعة المنهجية المتبعة في هذه الدراسة لتحديد ما إذا كان من الممكن تحسين مفعول المعالجة عن طريق تصميم مختلف.
[/rtl]
لم تمضِ لحظات قليلة على تفعيل المساري حتى شعرت مريضتنا بتراجع الألم النفسي والثقل الانفعالي. |
[rtl]نحن لا نفهم تماما ما هي الأسباب الكامنة وراء هذا التفاوت القائم بين الدراسات المختلفة التي اختبرت تنبيه باطن الدماغ. فالتفسيرات ربما تتعلق باختلاف المعايير المستخدمة في انتخاب المرضى، أو ناجما عن أن بعض المرضى ربما كان لديهم اكتئاب مشوب بأعراض نفسية أخرى، أو أنه قد يكون ذا صلة بتنوع التقنيات الجراحية المستخدمة، مثل مكان موضع المساري أو الطريقة التي يتم بها توصيل التنبيه، الأمر الذي قد يشكل بدوره عاملا حاسما أيضا. ومن عوامل التشويش المحتملة هو أن بعض المرضى قد يشعرون بتحسن أحوالهم لمجرد إيمانهم بقدرة العمل الجراحي (بعبارة أخرى: تأثير العلاج الوهمي the placebo effect)، أو لأنهم يستفيدون سيكولوجيا من تفاعلاتهم المكثفة أحيانا مع الفريق المعالج. بيد أن هذه الهموم قد تتراجع حدتها جزئيا مع مرور الزمن، ذلك لأن بضع دراسات حديثة جدا تشير إلى أن المعالجة تمتلك فعالية حقيقية: فقد لوحظ تدهور في حالات المرضى إثر انخفاض مستوى شحن البطارية أو بعد إيقاف التنبيه، وذلك في الوقت الذي لوحظ فيه أيضا أن هؤلاء المرضى سرعان ما يتعافون مرة أخرى بعد استئناف التنبيه، وهذا ما يجعل التفسير المستند إلى تأثير العلاج الوهمي أقل ترجيحا.
[/rtl]
[rtl]وتجرى حاليا دراسات بحثية سريرية تجريبية عدة في أتلانتا وهانوفر ونيو هامبشاير وتورنتو، الأمر الذي سيوفر معلومات جديدة مهمة عما يمكن أن تحققه هذه التقنية فعلا، وسوف يتابع الباحثون العمل على صقل تقنيات جراحة غرس المساري طوال هذا الوقت، فضلا عن أنهم يريدون أيضا التوصل إلى إدراك كيفية جعل كم التحفيز أفضل ما يمكن لكل مريض، إضافة إلى أنهم في الوقت نفسه ينهلون المزيد من العلم حول ما يتركه تنبيه باطن الدماغ من آثار قصيرة وطويلة الأمد في الاكتئاب.
[/rtl]
[rtl]فهناك سبل جديدة للاستقصاء تستكشف حاليا مواقع مختلفة في دارات الدماغ المستهدفة بالتنبيه، ذلك لأن الباحة الحزامية تحت الثفنية قد لا تبرهن على أنها المكان الأمثل عند كل مريض، لا سيما وأن و [من جامعة بون في ألمانيا آنذاك] حققا تحسنا سريعا لدى عدد قليل من المرضى من خلال تحريض منطقة تسمى حزمة الدماغ الأمامي الإنسية medial forebrain bundle. كما أن هناك مناطق أخرى تقع في أعماق الدماغ ويمكن أن تشكل أهدافا محتملة أيضا، وهي: المخطط البطني the ventral striatum، والطرف الأمامي للمحفظة الداخلية the anterior limb of the internal capsule، والسويقة المهادية السفلى the inferior thalamic peduncle، والعنان the habenula.
[/rtl]
[rtl]إن اختبار المواقع الدماغية المختلفة، التي قد تكون مشاركة في الاكتئاب، يمكن أن يسمح باختيار الأهداف استنادا إلى نوعية الأعراض تيمنا بما يتم في داء پاركنسون. فمرضى الاكتئاب يعانون توليفات متباينة من الأعراض تنعكس بطرز مختلفة في مسوح الدماغ. وتعد معاينة هذه الطرز من النشاط الدماغي الشاذ طريقة واعدة بخصوص اتخاذ القرار حول ما إذا كانت المعالجة الدوائية أو المعالجة المعرفية السلوكية هي الخيار الأفضل، وهذا ما يمكن تطبيقه في آخر المطاف على تنبيه باطن الدماغ أيضا.
[/rtl]
[rtl]ويجب أن ترفد محاولات صقل هذه التقنيات بمزيد من الأبحاث الأساسية لفهم كيف تقوم هذه التقانة بتغيير الأداء الوظيفي للدماغ، لا سيما وأن الآثار المضادة للاكتئاب يمكنها أن تستمر لأيام أو أسابيع بعد فترة طويلة من التنبيه، حتى ولو تم إيقافه. فالدماغ قد يخضع لتبدلات طويلة الأمد عبر عملية تسمى «بلاستية عصبية» neuroplasticity بعد التغير الذي يطرأ على دارات الدماغ نتيجة للتنبيه. وبالفعل، فقد أظهرت الدراسات على القوارض أن تنبيه باطن الدماغ يغير من نشاط شبكات واسعة من دارات الدماغ ويمكنه أيضا تحريض تخلق نورونات جديدة في منطقة الحصين، وهي عملية كانت أبحاث أخرى قد أثبتت ضرورتها لتشكيل ذكريات جديدة وللتخفيف من وطأة الاكتئاب على حد سواء. أما إذا قُطعت المعالجة لفترة طويلة، فإن الأعراض تظهر مجددا؛ مما يدل على أن هذه المعالجة لا تُمكّن الدماغ من شفاء نفسه بنفسه بصورة دائمة.
[/rtl]
[rtl]لقد أدت إمكانية التحكم في الدارات الكهربائية عن طريق تنبيه باطن الدماغ إلى اهتمام متزايد بتطبيق هذه التقنية على أمراض نفسية أخرى، بما في ذلك الاضطراب ذي الاتجاهين bipolar disorder، واضطراب الوسواس القهري obsessive-compulsive disorder، ومتلازمة توريت Tourette’s syndrome، والإدمان على الكحول والمخدرات. فالإمكانات التي يتمتع بها تنبيه باطن الدماغ تتيح له معالجة المرضى الذين فشلت لديهم الخيارات الأخرى وربطت أمراضهم بدارات تشتغل بطريقة شاذة.
[/rtl]
[rtl]لقد قام فريق <لوزانو> مؤخرا باستغلال تنبيه باطن الدماغ للبنية تحت الثفنية نفسها المستهدفة في الاكتئاب واستخدمه في معالجة حالات صعبة من القهم(9) العصابي المزمن chronic anorexia nervosa، حيث تبين أن بعض المرضى، الذين عاشوا مع مرض الأكل هذا لمدة عشر سنوات أو أكثر، تتراجع لديهم أعراض الاكتئاب وأعراض القلق والوسواس بفعل تنبيه باطن الدماغ، حيث بات هؤلاء المرضى أقل قلقا من الأكل ومن زيادة الوزن، وأضحوا قادرين على المشاركة في برامج علاجية. كما أن التغير في أمزجتهم أتاح لهم في نصف الحالات الثماني عشرة تقريبا العودة إلى الوزن الطبيعي بعد عام واحد.
[/rtl]
[rtl]وحتى الآن تحمل النتائج مؤشرات تدل على اتجاهات جديدة. فالفهم المتنامي للطريقة التي تعمل بها دارات الدماغ يساعد على توضيح نشاطه غير الطبيعي. وبفضل هذه المعارف ينبغي أن يكون الجراحون العصبيون قادرين على وضع المساري في مواقع استراتيجية من باطن الدماغ لتقديم العون اللازم لمرضى الاكتئاب الذين لم يستجيبوا للمعالجات الدوائية والكلامية، فضلا عن مساعدة غيرهم من الأشخاص الذين يصارعون مجموعة من الاضطرابات الأخرى، بدءا باضطراب القهم العصابي وانتهاء بداء ألزهايمر.
[/rtl]
[rtl]المؤلفان[/rtl] | Andres M. Lozano - Helen S. Mayberg |
<لوزانو> أستاذ في قسم الجراحة بجامعة تورونتو ويتابع تخصصه في معالجة الاضطرابات الحركية والتسجيل من الدماغ.
<مايبيرگ> أستاذة في الطب النفسي والعصبي وطب الأشعة بجامعة إيموري، حيث تركز في جزء كبير من أعمالها على تعقب دارات الدماغ المشاركة في الاكتئاب. | | |
مراجع للاستزادة