أين هو المثقف العضوي في العالم العربي ؟
|
| |
تمر الأمم والشعوب بأزمات حادة وحالات من انسداد الأفق وضبابية الرؤى المستقبلية لا سبيل للخلاص منها إلا بتحليل ودراسة هذه الأوضاع للوقوف على مواطن الخلل والضعف والأكيد أن للمثقف دور بالغ الأهمية في تحليل ونقد الأفكار وطرح الأسئلة المعرفية من اجل تصحيح الاعوجاج وإعادة بناء المفاهيم والقيم وقيادة المجتمع والرأي العام نحو الوجهة الصحيحة والخيارات المثلى المناسبة للمصلحة العامة، واليوم والمنطقة العربية تمر بمخاض عسير توشك أن تنفصل البنية الاجتماعية وتتآكل هياكل الدولة يتساءل المتابع أين هو المثقف العضوي في العالم العربي من كل هذه الأحداث ؟
لقد مثل المثقفون دائما الآباء المؤسسين للأفكار الثورية في العالم في حين يتراجع دور المثقف العربي لصالح الفئات الاجتماعية الاخرى ليظهر العرج البين في ثورات الربيع العربي على رأي الكاتب الكبير الطاهر وطار ‘الثورات التي لا تتخذ المثقفين سمادا لها ستظل تسير عرجاء’ (الطعنات) فالمثقفون ملح الثورات وسمادها الذي يمنعها من الانحراف عن الأهداف الكبرى ويجنبها أنصاف الحلول ،ولكن من هو المثقف المقصود ؟ يرى المفكر الايطالي الماركسي انطونيو غرامشي (1891-1937) أن جميع الناس مثقفون بطريقة معرفية أو بأخرى ولكنهم لا يملكون الصفة الاجتماعية الرمزية للمثقفين ويكون بهذا الأساس (المعلمون، الفلاحون، العمال، الحرفيون …) مثقفين تقلديين يملكون ثقافة مهنية بحسب طبيعة عملهم وينقلون ثقافة متواترة من جيل إلى جيل. إلى جانب هذا يوجد المثقف العضوي الذي يملك القدرة المعرفية وملكة التفكير والرؤية الاستشرافية ويحمل هموم المجتمع والأمة وبتعبير يساري هموم الطبقات الكادحة العمال والفلاحين ويسمع صوت المضطهدين ويدافع عن القيم ويؤسس بذلك الأرضية الصلبة لتماسك القواعد الاجتماعية ويمارس الفعل الاجتماعي، فهو ضمير الأمة والصوت المعبر عن طموحاتها وقيمها الاجتماعية ولقد دافع غرامشي عن أفكاره ومبادئه الفكرية والإنسانية بوصفه مثقفا عضويا وقضى مريضا في سجون الفاشية الايطالية .
ويذهب المفكر المغربي عبد الله العروي الى أن مسؤولية الانسداد السياسي والاجتماعي في العالم العربي لا تقع على السياسي لخضوعه للاكراهات السياسية والضغوط الداخلية والخارجية كما لا تقع على المواطن البسيط الذي يخضع للاكراهات الاجتماعية ومتطلبات المعيشة وهمومها ولكن المسؤولية تقع على عاتق المثقف بوصفه مستقلا عن جميع الاكراهات منتجا للمعرفة وللرمزية المرتبطة دائما في ذهن العامة بان المثقف يملك جزءا من الحقيقة.
المثقف العضوي ضمير إنساني: المثقف العضوي بهذا الأساس ليس ضمير المجتمع الذي يعيش فيه فحسب ولكنه ضمير الإنسانية بصورة عامة والعدالة والحرية وحقوق الإنسان ضالة المثقف أينما حلت وأينما تعرضت للانتهاك والابتذال كان نصيرا لها، ويصبح ضمير المثقف على المحك في حالة تعارض المبادئ والقيم الإنسانية مع المصالح القومية للدولة الوطن ونظامها السياسي على هذا الأساس مثل الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر مثقفا عضويا بامتياز لما اتخذ موقفا مناهضا للحرب الهمجية الفرنسية على الجزائريين وراح يصدر البيانات ويقود المظاهرات المناهضة للاستعمار، ولما أشار احد مستشاري ديغول عليه باعتقاله أجابه أن فرنسا لا تعتقل ضميرها، وهذا مواطنه عالم الرياضيات موريس أودان(1932-1957) يتعرض للاعتقال والتعذيب والاختفاء القسري جراء مساندته للثورة الجزائرية لافتا أنظار الرأي العام الفرنسي إلى الأساليب الوحشية للإدارة الفرنسية اتجاه الجزائريين ولأن روح الثورة والمثقف بقيت متقدة في عائلة أودان ترفض ابنته استلام وسام الاستحقاق الفرنسي برتبة فارس من الرئيس ساركوزي دون الكشف عن حقيقة وتفاصيل اعتقال ووفاة والدها، وبعد الحرب الأمريكية على العراق فاجأ المخرج الأمريكي مايكل مور الحضور وهو يستلم جائزة الأوسكار صارخا على منصة التتويج ‘إننا نعيش في زمن وهمي يدفعنا رئيس وهمي إلى حروب بأسباب واهية عار عليك يا سيد بوش’ كان مايكل مور يدافع عن أمريكا الحرية ومبادئ ويلسون التي لوثها الرئيس بوش والمحافظون الجدد، وقبل موجة الربيع العربي خلخل الروائي الاسباني خوان غويتيسلو عرش الزعيم الليبي رافضا استلام جائزة القذافي الدولية للأدب التي كان الكتاب العرب يتزاحمون عليها ويبذلون إليها سبلا شتى، فالروائي الاسباني الذي قضى شبابه مناهضا لفرانكو لا يستقيم له أخلاقيا وهو في آخر عمره أن يستلم جائزة من أموال الشعب الليبي دون رضاه، ولما نشر الروائي الطاهر وطار قصة الزنجية والضابط من ‘المجموعة القصصية الشهداء يعودون هذا الأسبوع′ اغتاظ منها الرئيس بومدين ولكن طالب الابراهمي الوزير المثقف اخبره أن الجزائريين لن يذكروا اسم وزير الثقافة ولا أسماء الوزراء والحكومات ولكن يبقى اسم وطار الروائي والكاتب في ذاكرة كل الجزائريين، فالمثقف العضوي لا يتبع هوى الجماهير بتعبير مالك بن نبي ولكنه يصدح بالحقيقة مهما كانت طبيعتها سواء أرضت الجماهير أو أسخطتها، وسواء سايرت هوى السلطة أو أغضبتها فعادة الأنظمة الدكتاتورية أن تضيق بحماقة الفلاسفة على رأي الجابري، فالمثقف يملك رأس المال الرمزي الذي يمكنه من قيادة الرأي العام والتأثير فيه، وصوته المسموع يفتح الآذان الصماء، ولكن في العالم العربي يتراجع المثقف العضوي لصالح المثقف الأيديولوجي وبنظرة بسيطة على الواقع العربي نلاحظ ذلك الانقسام الحاد بين المثقفين الاسلاميين من جهة والقوميين اليساريين والليبراليين من جهة أخرى،فالمثقف أضحى أداة لتكريس الانقسام الحاصل وهو المؤسس للفعل الأيديولوجي الذي يساهم في زيادة الاحتقان الموجود بين المكونات الاثنية في المجتمع وقد يصبح البعد الأيديولوجي أكثر خطورة عندما يتسم بالروح الطائفية المقيتة والمثقف العضوي ليس معلقا على الأحداث ولكنه مستشرف للمستقبل بنظرته الثاقبة ومناصر أصيل لقيم الحرية والعدالة غير مفرط في سيادة الأوطان وتضحيات الأسلاف، وهو ليس بالضرورة في موقف عدائي أبدي ضد السلطة الحاكمة ولكن يجب أن يبقى في حالة يقظة فكرية دائمة ضد مناوراتها بحسب ادوارد سعيد، ولعل العالم العربي اليوم يشكو خيانة المثقفين للأفكار الوطنية الأصيلة التي تعد أكبر الخيانات خسارة في حياة الأمم والشعوب.