هي فوضى! عبد الله الدامون -
damounus@yahoo.com الذي يريد أن يفهم سر هذه الفوضى
المندلعة في طرقات المغرب، لا بد له أن يبحث عن الأسباب في مكان آخر تماما،
وهو مكان لا علاقة له بقوانين السير ولا بالمدونة الجديدة ولا بالحالة
الميكانيكية للسيارات ولا بالحفر في الطرقات، لأن الحفر الحقيقية موجودة في
عقولنا.
في المغرب، يمارس كثيرون عملية تفريغ نفسي عندما يسوقون سياراتهم، ولو أن
لدينا علماء نفس واجتماع حقيقيين فسيكون رائعا أن يجتمعوا يوما في ندوة
متلفزة ليشرحوا لنا نفسية السائقين المغاربة، ولماذا يتصرفون في الطرقات
بكل هذا الحمق.
كثير من المغاربة يعتبرون حيازتهم لسيارة كما لو أنهم يحوزون قطعة من
السلطة. إنهم يجلسون في سيارة هي ملكهم، وخلف مقود يفعلون به ما يشاؤون،
ويعتبرون أنفسهم يحكمون إمارة خاصة بهم، وأن الآخرين رعايا وهم الحاكمون
على الطرقات.
وحين نرى شابا، أو حتى شخصا بالغا، يسير بسيارته بطريقة جنونية وهو يخرج
يده اليسرى من النافذة ويطلق موسيقى صاخبة ولا يحترم أية إشارة مرور، فمن
الضروري أن نعتبره إنسانا مريضا من الناحية النفسية والسياسية.. إنه نموذج
لشخص كان له طموح وأفكار، وكان يريد أن يكون إنسانا مهما وأن ينطلق نحو
المستقبل، وحين فشل في كل ذلك أخذ يفرغ كل عقده المجهضة في سيارته. إنه
يريد أن يقول للآخرين إنه موجود، ومكان وجوده هو السيارة، لأنه فشل في
إثبات وجوده في مكان آخر.
في بلد مثل المغرب، لا وجود فيه لأحزاب سياسية حقيقية أو جمعيات مؤثرة أو
مثقفين رموز أو فضاءات رياضية وطبيعية كافية، من الطبيعي أن تظهر كل
أمراضنا النفسية في الطرقات، ومن الطبيعي أن يفرغ الكثيرون تمردهم على
قوانين السير، وأن يعتبر سائقون حمقى حرق الأضواء الحمراء بمثابة إنجاز
كبير، وتجاوز سيارة لأخرى بمثابة تفوق شخصي واجتماعي.
الحمق على الطرقات لا يتبدى في هذه المظاهر فقط، بل أيضا في مظاهر على قدر
كبير من العدوانية، لذلك على علماء النفس والاجتماع أن يشرحوا لنا، مثلا،
لماذا يرفض سائق شاحنة أن يترك سيارة إسعاف تمر في طريق فرعية ويمنعها من
التجاوز، ولماذا يحمل كل سائق سيارة في المغرب هراوة غليظة لاستخدامها عند
أول شرارة نزاع.
المغاربة يعشقون، إلى درجة الجنون، تجاوز بعضهم البعض بسياراتهم، وإلا ما
معنى أن تكون في سيارتك على شاطئ البحر، والشمس تغرب قربك، وفجأة تسمع دوي
منبه قوي لسيارة سائق معتوه خلفك يريد أن يتجاوزك وينطلق بسرعة مجنونة.
ما نراه على طرقاتنا يترجم، إلى حد كبير، الكبت السياسي والاجتماعي الذي
نعيشه. وحين يواجه الناس انكسار أحلامهم وطموحاتهم في الحياة والسياسة،
فإنهم يُركبونها معهم في سياراتهم.
في بلدان الخليج، مثلا، التي تفتقر إلى أدنى مقومات الديمقراطية السياسية
والاجتماعية، تفتقت عبقرية الأنظمة عن فكرة غاية في الأهمية، وهي ترك الناس
يفرغون مكبوتاتهم في سيارات فارهة وينطلقون بسرعات جنونية، لكن ذلك لا
يحدث على الطرقات العامة، بل في ساحات بعيدة عن المدن وفي قلب الصحاري،
لأنه إذا حدث لهم شيء فـ»ذنوبهم على رقبتهم»، والمهم هم أن يمارسوا حمقهم
بعيدا عن الناس.
شغف المغاربة بفوضى الطرقات يلازمهم إلى الأبد. وحتى بعض المغاربة الذين
قضوا سنوات طويلة في بلدان أوربا يعاودهم الحنين إلى الفوضى بمجرد العودة
إلى المغرب، فترى سيارات تحمل لوحات أوربية وهي ترتكب مخالفات مفزعة، فلا
تفهم سر هذا الحنين إلى الفوضى الذي يسكن القلوب.
في المغرب، لا يحدث شيء أبدا عندما ترتفع الأسعار ويتم إرهاق الناس
بالفواتير الغليظة لاستهلاك الماء والكهرباء أو عندما يختلس مسؤولون أموالا
خرافية أو عندما يتم اغتصاب الشواطئ والمناطق الخضراء لإقامة عمارات أو
بسبب رداءة التعليم والصحة والخدمات.. الناس يحتفظون بهدوء غريب تجاه كل
هذا، لكن بمجرد أن يسوقوا سياراتهم فإنهم يتحولون إلى فوضويين ويعلنون
تمردهم على كل شيء...