** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 مأساة المستعمِر والمستعمَر عند ألبير ميمي عبد المجيد أيت القائد

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
حمادي
فريق العمـــــل *****
حمادي


عدد الرسائل : 1631

تاريخ التسجيل : 07/12/2010
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 8

مأساة المستعمِر والمستعمَر عند ألبير ميمي عبد المجيد أيت القائد Empty
10072015
مُساهمةمأساة المستعمِر والمستعمَر عند ألبير ميمي عبد المجيد أيت القائد

مأساة المستعمِر والمستعمَر عند ألبير ميمي
مأساة المستعمِر والمستعمَر عند ألبير ميمي عبد المجيد أيت القائد Balkis
ألبير ميمي، صورة المستعمِر والمستعمَر، تعريب جيروم شاهين، تقديم جون بول سارتر، دار الحقيقة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1980.
نقرأ في تقديم الناشر لهذا الكتاب، أن قصته فريدة من نوعها، حيث كتب مباشرة قبل حرب الجزائر، مقدما وصفا دقيقا لشخصية وسلوك المستعمِر والمستعمَر، و"محللا المأساة التي تربط هذا بذاك"، مستندا إلى التحليل السيكولوجي، ليرسم صورة ثنائية لطرفي معادلة الاستعمار. كما وضح العلاقة التي تربط كل طرف بالآخر مستنتجا أن الاستعمار مصنع يولد المستعمَرين كما يولد مستعمِريهم.
"البورجوازي يتألم أكثر من جراء ازدواجية اللغة، والمثقف يعيش أكثر التمزق الثقافي، أما الأمي فهو بكل بساطة مسمر في لغته يجتر بعض كلمات اللغة المحكية" (ص 114)
"كما أن العديد من الناس يتحاشون أن يظهروا أقرباءهم الفقراء، كذلك المستَعمَر المتعثر بانصهاره يخبئ ماضيه، وتراثه، وكل جذوره التي أصبحت بنظره شائنة" (ص 146)
"الإنسان المستند إلى ثقافتين لن يرتاح أبدا" (ص 148)
لم يكن إدراج العبارات السابقة من قبيل الرغبة في تمطيط الموضوع، أو إعادة استنساخ ما سبق وقاله المؤلف في كتابه، بل الغرض هو شد الانتباه إلى أن متن هذا الكتاب هو نص مكثف الأفكار، يصعب تصنيفها إلى أفكار مهمة وأخرى ثانوية. وتقدم هذه القراءة رصدا تفاعليا مع الأفكار والقضايا التي عالجها الكتاب، تحت تيمة المأســـــــاة، بالانطلاق من المداخل التالية:
I. سياق الكتاب
يندرج هذا العمل في سياق نضال المؤلف ضد كل أشكال العنصرية والميز، لكن فولتير تونس هذه المرة يرتدي عباءة المحلل النفساني، في تحليله لقضايا الوضع الاستعماري.
II. فكرة الكتاب
يدور هذا الكتاب حول فكرة مركزية، مفادها؛ أن العنصرية هي أفضل تعبير عن الواقع الاستعماري، وأكثر ملامح المستعمِر دلالة، فهي تقيم التمايز بين طرفي معادلة الاستعمار، باعتباره شرطا أساسيا للحياة الاستعمارية. فالمستعمر قد شيد نسقا أخلاقيا جديدا اعتبر نفسه فيه سيدا وبريئا، فهو أبوي يرغب في أن يكون نبيلا من وراء العنصرية واللامساواة، وهنا مربط الفرس، إذ في الوقت الذي يُظهر فيه هذا النسق المستعمِر كمن لا واجب له، يُطهر المستعمَر كمن لا حق له، فالعنصرية –على حد تعبير جون بول سارتر- تحملها الممارسة الاستعمارية، ويولدها الجهاز الاستعماري في كل دقيقة.
III. أسلوب التحليل
يأخذك هذا الكتاب في ثناياه، ويجعلك تغوص في قراءته دون أدنى رغبة في التخلي عنه، فهو كتاب مكثف الأفكار ، يحكي ويحلل بطريقة سحرية تسمو عن الأحداث لتناقش القضايا، وهو فعلا كتاب فريد، تقرؤه وتعيد قراءته دون كلل أو ملل، يأخذك منك من حيث لا تدري، والحقيقة أنه سهل المراس، يسير المدخل، لا يصعب على أي كان أن يخترقه قراءة، كما يعسر بالمقابل على كل من تناوله أن يتخلى عنه، ففي كل مرة تستأنف قراءته، تشعر بالرغبة في إعادة ما كنت قد تجاوزته. لقد أبان المؤلف عن قدرة ساحرة على أخذ القارئ في خضم تفاعلات النص، مع متعة السرد وصلابة الأفكار وجرأة التحليل.
ورغم أن تيمة السوداوية والمأساة هما الإطار العام المحدد للعلاقة بين أبطال هذه القصة الدرامية التي يضمها الكتاب بين دفتيه، إلا أن كثافة النص وتسلسل الأفكار وقوة السؤال وغنى الجواب، كلها أمور تجعل القارئ يدخل في حوار صامت مع المؤلف في إطار من الألفة والتوافق. ذلك أن هذا الكتاب يمكن اعتباره نموذجا للكتابات التي يتمازج فيها الزمن الفردي بالزمن الجماعي بانسيابية فريدة.
1. المؤلف والكتاب...
ينطلق ألبير ميمِّي من وضعه كتونسي واقع تحت نير الاستعمار، وعانى من ويلات التمييز الاستعماري، في محاولة منه لاستجلاء معالم الواقع الاستعماري، وتحديد صورة كل من المستعمِر والمستعمَر، مستنتجا أن "جميع الواقعين تحت قبضة الاستعمار يتشابهون".
عاش المؤلف ومنذ طفولته في ظل أحداث متناقضة تؤطرها الشكيلات التالية:
? كيف يستطيع المستعمِر أن يُعنى بالعمال المرضى؟ وفي الوقت نفسه يفتح نار بندقيته، وبوتيرة دورية، على جمهرة من الناس؟
? كيف يرتضي الإنسان الواقع تحت الاستعمار أن يرفض ذاته ويقدِم، في الوقت ذاته، على المطالبة باسترجاع هويته الذاتية بشكل عنيف؟
? كيف يستطيع المستعمَر أن يبغض المستعمِر ويُعجَب به في الوقت عينه بمثل الإعجاب الذي كان المؤلف نفسه يشعر به؟
يعترف المؤلف أن الكتاب أفلت من يديه، وأن تلك الضجة التي أثارها وامتزج فيها إعجاب الواقعين تحت الظلم بشتى أنواعه واستنكار آخرين، لم تكن مفيدة بالنسبة إليه، لأنها حجبت عن الأعين بعض الأفكار التي تكتسي في نظره أهمية كبرى مثل ما سماه بـ"عقدة نيرون" و"وصف الواقع الاستعماري كشرط موضوعي" يفرض ذاته على فريقي الاستعمار. وكذلك قضية فشل اليسار الأوروبي، خصوصا الأحزاب الشيوعية في إعطاء الناحية القومية من التحرر من الاستعمار حقها.
ويقر المؤلف كذلك، بأنه حاول أن يتماثل بالإنسان الفرنسي، واندفع بقوة نحو الغرب، الذي كان يبدو له النموذج المثالي لكل الحضارات، ولكل الثقافات الأصيلة، فأدار ظهره للشرق، واختار اللغة الفرنسية وجعل لباسه إيطالي النسق، فحاول بذلك تحقيق طموحات كل مستعمَر.
لقد حاول ألبير ميمّي أو فولتير تونس كما يحلو للبعض أن يسمّيه، أن يفهم العلاقة الاستعمارية التي كان مرتبطا بها بشكل وثيق، منطلقا من هاجسه الكبير المتمثل في إظهار الإواليات المشتركة لمعظم أنواع الاستبداد والظلم، فهو يرى في هذا الأخير "آفة الوضع البشري الكبرى"، التي تفسد أسمى قوى الإنسان، سواء كان ظالما أو مظلوما، "فإذا كان الاستعمار يحطم المستعمَر، فإنه يُفسد المستعمِر أيضا" (ص 19).
في المنهج وطبيعة المقاربة...
في رده على الانتقادات الموجهة للكتاب، والتي من ضمنها غياب الجانب الاقتصادي في تحليل الوضع الاستعماري، أكد المؤلف أن مفهوم الامتياز الذي كرره في كتابه يشكل قلب العلاقة الاستعمارية، وبالتأكيد هو يقصد الامتياز الاقتصادي، فالوجه الاقتصادي للاستعمار هو أساسي بالنسبة له، وهو ما جعله يبدأ كتابه "بفضح" الرسالة الثقافية، وإظهار المنفعة كهدف أساسي للاستعمار، فالاستعمار، عنده، أولا وقبل كل شيء هو استغلال سياسي- اقتصادي ، فأكد أن الفاقة لدى الشعب الواقع تحت الاستعمار هي النتيجة المباشرة تقريبا للمنفعة التي يتمتع بها المستعمِر، واستدل على ذلك بكون بعض الاستقلالات تتحقق بصعوبة بالغة لأن المستعمِرين القدماء لم يتخلوا عن امتيازاتهم، بل يحاولون خلسة، أن يحصلوا عليها من جديد.
لكن في المقابل أكد أن الامتياز الاستعماري ليس اقتصاديا فحسب، لأن المستعمَر في علاقته بمستعمِره يعاني من إهانة يومية وسحق موضوعي ليس فقط على المستوى الاقتصادي، لذلك فأهمية الوجه الاقتصادي في علاقة الاستغلال والظلم الذي اكتشفته الماركسية، لا يمكن التقليل من شأنه، غير أن العلاقة الاستعمارية، في نظره لها سمات أخرى.
يقرر المؤلف هنا أن التحليل النفسي أو حتى الماركسية لا يحق لهما، بحجة أنهما اكتشفا المحرك، أو أحد المحركات الأساسية للسلوك البشري، أن يتدخلا في صميم الواقع الذي يعيشه المستعمِر والمستعمَر، ضاربا المثل بنفسه باعتباره تونسي الجنسية، كان يعامل كسائر التونسيين كمواطن من الدرجة الثانية، محروم من الحقوق السياسية، يتكلم لغتين، ويحمل ثقافة غير واضحة المعالم، ويسحب صورته هاته على كل المستعمَرين. كما سمح لنفسه أن يرسم صورة المستعمِر أو الخصم كما يُسمّيه، متذرعا بكونه يعرفه من الداخل، معرفة لا تقل دقة عن معرفته بالمستعمَر.
يتلخص الهدف من هذا الكتاب كما يحدده المؤلف، في وصف الواقع الاستعماري بشكل دقيق ووصف طريقة تصرف كل من المستعمِر والمستعمَر، والتحطيم الذي حل بالمستعمَر، ويطمح بالتالي إلى تصوير "وجه لا يطاق من وجوه الواقع الإنساني".
مأساة المستعمَر أولا...
يقف المؤلف مذهولا ومندهشا أمام ما وسمه بـ "وقاحة المستعمِر" التي تجعله يرسم لوحة للمستعمَر ملؤها السلبية، ويقف على ما سماه بتناقض سمات تلك الصورة.
ويستحضر كذلك المؤلف مجموعة من الأمثلة ويحاول أن يثبت من خلالها أن المستعمِر لا ينفك يعتبر المستعمَر إنسانا سلبيا، فيستحضر مثلا، الضيافة العربية ويُخضعها لمنطق المستعمِر، معتبرا أن هذه الضيافة التي لا يمكن استيعاب صفتها السلبية إلا بصعوبة بالغة، تتحول، في عملية تدرج، في نظر المستعمِر الذي لم يعد يستفيد منها إلى نتيجة لعدم مسؤولية، وحب في التبذير وغياب التبصر المستقبلي والروح الاقتصادي لدى المستعمَرين.
وعلى هذا المنوال تتفتت كل المزايا التي تجعل من الإنسان الرازح تحت نير الاستعمار، إنسانا، الواحدة تلو الأخرى، فكأن كل سمة من سماته يجب أن تكون مؤشرا على السلبية(ص.111).
يخلق الاستعمار للمستعمَر أوضاعا تنحو إلى مسخ طبيعته، ليس لها إلا نتيجة واحدة، هي أن المستعمِر يعيش بمقتضى حاجات المستعمَر. ويكمن وجه الخطورة في انعكاسات وآثار تلك الصورة على وضع المستعمَر، إذ لا تلبت أن تتحول إلى سلوك فعلي وإلى تصرفات.
إن تحويل تلك الصورة من تصور إلى ممارسة يتنج عنه انعكاسات على أوضاع المستعمَر تضعه وجها لوجه أمام التاريخ والدولة والطفولة والقيم والثقافة والتعليم.
فعلى المستوى الأول، أي المستعمَر والتاريخ، لا يعاني المستعمَر أكثر من وضعه خارج التاريخ وخارج الأمة، إذ عكس مواطني الدول الحرة، الذين يكون بإمكانهم الاحتجاج والتعبير عن رفضهم لكل وضع يسلب حقوقهم وحرياتهم، فالمستعمَرون يعتبرون خارج اللعبة تماما، وغير فاعلين في التاريخ ولو أنهم أكثر من يعانون من وطأته.
وفي مواجهة الدولة، لا يتمتع المستعمَرون ـ في نظر المستعمِرين ـ بأي كفاءة في حكم أنفسهم، ولا بأي صفة من صفات القومية.
أما الطفل المستعمَر، فيعاني من قصور تربوي مهول، فيما يتعلق بقيم المواطنة، وأبواه اللذانن لا يعتبران نفسيهما مواطنان، يفقدان الأمل في أن يريا ولدهما كذلك، كما أن تربيته المدرسية تبعده عن وطنيته؛ إذ كل الإشارات إلى الدولة والأمة، تدل على الامة المستعمِرة.
يضع المؤلف أمام المستعمَر خيارين، ما دام قادرا على تحمل الاستعمار، فإما أن يندمج مع مستعمِره، وهو أمر مرفوض من قبل مستعمِريه/ظالميه، وإما أن يتحجر، ويعيش خارج الزمن مكتفيا بالحاضر المبتور، لأنه محكوم بنسيان ماضيه وذاكرته تدريجيا، حين يرى كل الأمور التي تدل على ذاكرته وماضيه تُمحى من الوجود لصالح الحضور المكثف لذاكرة المستعمِر.
وكونها الناقل لميراث كل الشعوب، فالمدرسة كما صورها المؤلف، هي السلاح الذي ضُرب به المستعمَر من الداخل، إذ كل شيء داخل مدرسة المستعمَر لا يدل إلا على المستعمِر، كما أنها "أدت دورا معاكسا في سياق الاستعمار، فأحدثت في داخله (المستعمَر) ازدواجية نهائية" (ص 123).
وتعتبر مسألة ازدواجية اللغة، في نظر المؤلف، إحدى التجليات البارزة للتمزق الذي يقبع المستعمَر تحت وطأته، فبمجرد ما يتخلص هذا الأخير من معضلة الأمية، إن كتب له الخلاص منها، حتى يقع فيما هو أفظع وأشنع من ذلك، ألا وهو ازدواجية اللغة التي تفضي إلى التمزق الثقافي.
يبدو المستعمَر في هذا السياق وكأنه ـ وهو مسير لا مخيرـ أمام خيارين أحلاهما مر، إما أن يكون من أولئك العثري الحظ، الذين لا ينالهم نور القراءة، فيبقون على سجيتهم الأولى، متجرعين للغة غير مكتوبة، وغير مقروءة، لا تؤهلهم إلا للثقافة الشفهية الفقيرة وغير الواضحة. وعلى هؤلاء ألا يندبوا حظهم، كون أميتهم قد خلصتهم من ازدواجية لغوية تفضي إلى كارثة ثقافية قد لا يتغلبون عليها أبدا، وذاك هو حال من تمكن من تخطي عائق الأمية فسقط في مفارقة لغوية بين لغة الأم ولغة الثقافة. لأن امتلاكه للغتين "لا يعني فقط امتلاكه أداتين، بل إنه اشتراك في مملكتين عقليتين وثقافيتين. والحال أننا نجد هنا عالمين رمزيين في صراع، تحملهما لغتين مختلفتان هذان العالمان هما عالم المستعمَر وعالم المستعمِر" (ص133).
تبرز، إذن، تيمة المأساة التي يفرضها الواقع الاستعماري بشكل جلي على المستوى اللغوي، ولكن المستعمَر هذه المرة، هو ضحيتها الوحيد، لأن ازدوجية اللغة الاستعمارية ليست ثنائية لغوية عادية "حيث توجد لغة محكية شعبية وأخرى كتابية نخبوية، ولو أن اللغتين دخلتا في عالم لغوي واحد، كما أنها ليست غنى لغويا فقط، بل إن هذه الازدواجية هي مأساة لغوية" (134).
إن النتيجة الحتمية الأولى للوضع الذي يفرضه الواقع الاستعماري على المستعمَر، أن يحاول التماهي والتساوي مع جلاَّده الذي يمتلك جميع المقومات التي تنتفي فيه هو، غير أن الانصهار في إطار العلاقة الاستعمارية التي من مقوماتها، التمايز بين طرفيها، أمر يكاد يكون مستحيلا. فالمستعمَر يواجه برفض المستعمِر له، عدا أن المأساة الجماعية لا يمكن أن تجد حلها بفعل حلول فردية متتالية، وببساطة ففي "ظروف الاستعمار المعاصر لا شك أن الانصهار والاستعمار هما أمران متناقضان" (ص150).
وبعد أن أثبت استحالة الموقف الأول يفترض المؤلف موقفا ثانيا لوضع المستعمَر، قوامه التمرد، بما أنه لا يستطيع أن يغير وضعه بالاتفاق مع المستعمِر فليغيره بالعنف لأنه هو المخرج الوحيد للوضع الاستعماري.
ولأن رفض المستعمِر مستعمَره استمر لمدة طويلة، حان الوقت في نظر ميمي بأن يحصل العكس، وبما أن المستعمِر في السابق كان يصنف كل المستعمَرين في خانة واحدة، فكذلك المستعمَر أصبح ينظر إلى كل أوروبي في المستعمَرة على أنه استعماري.
وأخيرا يؤكد المؤلف على استعادة الذات وتأكيدها، رغم الصعوبات التي تكتنف ذلك، وينتهي إلى القول؛ إن المستعمَر الذي أضناه الاستعمار ومنعه من أن يحقق وجوده الذاتي الحر، لا يُنتظر منه أن ينفتح على العالم وعلى الأمم، وإنما ينتظر منه أن يكون قوميا.
مأساة المستعمِر ثانيا...
انطلق ألبير ميمي، لتحديد طبيعة المستعمِر، من الصورة المتداولة في مخيلة الناس والمستمدة من مبررات الاستعمار، والتي مفادها تلك الرسالة الحضارية والثقافية التي يسعى المستعمِر إلى نشرها، متسائلا إن كانت تلك الصورة مطابقة للواقع أم أنها ناتجة عن "رسوم تحملها أوراق النقد الاستعمارية".
يُسائل المؤلف أهداف ودواعي هجرة الأوروبيين نحو المستعمرات والاستيطان بها، "ولماذا المستعمَرات بالذات إن كانوا يبحثون عن المغامرة والإثارة كما يدعون؟". مؤكدا في النهاية أن أصدق تعريف ممكن للمستعمَرة يقدمه الأوروبي الرحالة إذ يقول: "في المستعمرة الربح أكبر، والكلفة أقل، تذهب إليها لأن الأمور مستتبة فيها، والمردود مرتفع، كما تتوفر فيها سبل النجاح المهني السريع والربح السريع، هناك يجد المتخرج الشاب وظيفة، والموظف مرتبة إضافية، والتاجر بضائع رخيصة، والصناعي المواد الأولية واليد العاملة بأسعار لا تصدق" (ص 34).
يستمر المؤلف في مساءلة وضع الرحالة الاستعماري، هل يردعه المناخ والضيق الذي يشعر به وسط حشود غريبة الأزياء، وهل يندم على تركه لبلده الأصلي؟ وبالتالي هل يقبل هذه الصعوبات وهذا الضيق مقابل امتيازات المستعمرة؟
إن صعوبة العيش في المستعمرة تنمحي شيئا فشيئا أمام إغراءات الامتيازات التي يؤمنها العيش فيها، ذات الصبغة الاقتصادية بالأساس، لأن "غربتهم، في الحقيقة، هي غربة اقتصادية، غربة الأثرياء الجدد الذين يخشون الفقر" ( ص36). كما أن هجرتهم لبلدهم الأصلي بزمن بعيد يجعل علاقتهم به ضعيفة. وبما أن مرور الزمن يطيل عمر الامتيازات، فإنهم يستمرون في البقاء أطول فترة ممكنة، لكن ما إن يختل العامل الاقتصادي وتتعرض امتيازاتهم للخطر، حتى يُصبح التفكير في العودة إلى البلد الأم أمرا جديا.
في عملية تسلسل، يكشف المؤلف مرة أخرى عن المفارقة التي تطبع وضع المستعمِر، إذ يتساءل قائلا: "كيف يستطيع المستعمِر أن يتجاهل، ولفترة طويلة، بؤس المستعمَر وعلاقة ذلك البؤس برخائه هو؟ فيكتشف أن هذا الربح السهل، لا يمكن أن يكون سهلا إلا لكونه منتزعا من الآخرين، باختصار يحقق المستعمِر لحظتي وعي في واحدة: إنه يكتشف وجود المستعمَر وامتيازه عنه في آن واحد" (ص37).
لا يستطيع المستعمِر أن يتجنب المستعمَر، بل يتوجب عليه أن يعيش بجانبه في علاقة دائمة، لأن تلك العلاقة هي التي توفر شروط الحياة التي يسعى إليها في المستعمَرات، وهي التي تخلق الامتياز، "إنه يجد نفسه (أي المستعمر) على كفة ميزان يُمثل المستعمَر كفته الثانية" (ص38)، هذه الوضعية التي تنتظم وفق الخطاطة التالية:
? إذا كان مستوى معيشة المستعمِر مرتفعا فبسبب انخفاض مستوى معيشة المستعمَر.
? وإذا كان بمقدوره أن يفيد من يد عاملة متوافرة ورخيصة، فلأن المستعمَر قابل للاستغلال.
? وإذا كان يحصل على المناصب الإدارية بسهولة، فلأنها محصورة به ويستبعَد عنها المستعمَر.
...وكلما ازداد رخاء عيشه، كلما ازداد المستعمَر اختناقا.
"يعلم المستعمِر، إزاء نفسه وإزاء ضحيته، أنه مغتصِب؛ فينبغي له أن يتلاءم مع نظرته لنفسه ومع موقعه" (ص39).
يرسم المؤلف ثلاثة مراحل تماثل تطور وعي المستعمِر ولخصها في:
ربح، امتياز، فاغتصاب، متسائلا كيف تساهم في خلق صورته وبأية آليات تحول المرشح للاستيطان إلى مستعمِر أو إلى استعماري. وعلى هذا المستوى، يميز المؤلف بين ثلاثة أصناف من المستعمِرين:
? المستعمري Colonial: وهو الأوروبي الذي يحيى في المستعمرة من دون امتيازات، ولا يتمتع بظروف حياتية تفوق ظروف المستعمَر الذي ينتمي إلى نفس الفئة الاقتصادية ـ الاجتماعية المقابلة، هو الذي يُظهر نوعا من حسن الجوار، ولا يتعامل مع المستعمَر كمستعمِر، وهذا الصنف غير موجود في نظر الكاتب "لأن أوروبيي المستعمرات كلهم من أصحاب الامتيازات" (ص 40).
? المستعمَر Colonisateur.
? الاستعماري Colonialiste.
تطرح مشكلة المستعمِر الأخلاقية، والتي هي بالأساس جزء من مأساته، بعد اكتشافه معنى الاستعمار، ووعيه لوضعه الخاص ووضع المستعمَر، حينها يجد نفسه أمام تساؤل عميق، هل سيقبل نفسه كصاحب امتياز، ويكرس بؤس المستعمَر وهو النتيجة الحتمية لامتيازاته، أم أنه سيرفض ذلك؟
وأمام هذا الموقف، ينقسم المستعمِرون، حسب أطروحة المؤلف، إلى ثلاثة اتجاهات؛ مستعمِر طيب النية، وآخر وسمه بـ"الفار إلى معسكر العدو"، وثالث ذو توجه يساري:
ويقصد ميّمي بالصنف الأول؛ ذلك الوافد الجديد الذي تصدمه للوهلة الأولى مظاهر الاستعمار الصغيرة، من كثرة المتسولين...، والذي يشعر بالضيق أمام التنظيم "الوقح" للظلم، وهو الذي يسميه المؤلف أيضا بـ"المستعمَري"، الذي لا يستطيع أن يعتاد على ما يمارسه الاستعمار، كما لا يستطيع أن يقبل بما صار إليه مواطنوه.
يبدي هذا الصنف من المستعمِرين رفضا لا يكون بالضرورة عنيفا وإنما هو موقف مبدئي يُعرِّضه للعيش في تناقض يحرمه من التماسك والراحة، لأنه في الحقيقة، لا يرفض سوى جزء من ذاته، والحالة التي سيصيرها فيما بعد بشكل تدريجي، بدأ بقبوله العيش في المستعمَرة، ومشاركته في الامتيازات التي يندد بها بحياء.
إن إصرار الوافد الجديد على موقفه يعرضه لنزاع مع أقرانه، نزاع سينتهي لا محالة بهزيمته، أو العودة إلى حظيرة الاستعمار. فالنتيجة المنطقية للمستعمِر الذي يرفض الاستعمار، هي أن يتمنى زوال هذا الأخير، وبالتالي زوال المستعمِرين.
يُخضع ميمّي "المستعمِر الطيب النية" لتمرين ذهني، ويلتمس له بعض الأعذار، كونه لا يستطيع أن ينتقل إلى معسكر المستعمَرين، لأنه يكتشف مع الوقت أن المستعمَرة ليست امتدادا لوطنه الأم، وهو ما لا يتناقض مع مواقفه المبدئية ـ في نظره ـ لأنه في الوقت الذي يتجسد فيه المستعمَر كإنسان يزخر بالمعاناة، يرفض أن يساهم في سحقه، وفي المقابل يفهم أن هذا المستعمَر ينتمي إلى حضارة مختلفة عنه بأناسها وتقاليدهم، الذين لا يشده تجاههم أي رابط عاطفي.
لقد رصد المؤلف تطور العلاقة بين المستعمِر "الطيب النية" والمستعمَر من خلال مثال معبر مفاده؛ أن المستعمِر يأكل الكسكس في البداية مدفوعا بشغف التعرف على كل شيء جديد وغريب، وبعد مضي مدة يُصبح الكسكس بالنسبة إليه وجبة متخمة وغير مغذية، ونفس الشيء بالنسبة لجميع عادات المستعمَر الأخرى.
وبذلك، يضع ميمّي أمام المستعمِر الرافض للاستعمار، أو الطيب النية كما يحلو له أن يسميه، ثلاثة خيارات لا رابع لها؛ فإما "الخضوع لطلب الجماعة المُستعمِرية"، أو "الرحيل عن المستعمرة"، أو "قرع أبواب المستعمَر الذي يدافع عنه"، وما دام أنه يعتبر معسكر الاستعمار، معسكر ظلم فليلتحق بمعسكر الحق، "وليكن الجندي الفار إلى صف العدو" (ص52).
ويبدو أن معاناة المستعمِر لا تنتهي هنا، إذ يواجه الفار إلى معسكر العدو أيضا، نفس الصعوبات التي يواجهها اليساري الممزق، فالانتقال إلى معسكر المستعمَر، لا يتم بمجرد القبول التام بمن يرغب في تبنيهم، بل ينبغي أن يحظى بتبنيهم له، لأن ذلك لا يخلو من تناقضات.
وفي تحليله لوضع المستعمِر ذو التوجه اليساري، يضع أمامه أيضا خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يحاسب المستعمِر والمستعمَر وفق قيمه التقليدية، وإما أن يعتبر الظرف الاستعماري ظرفا أصيلا ويتخلى عن عاداته التي يحكمها فكره السياسي، "فإما أن لا يعترف بالمستعمَر وإما أن لا يعترف بنفسه.
يختصر المؤلف الوصف، قائلا: "إن المشكلة التي تواجه المستعمِر الذي يرفض نفسه هي نفسها مشكلة المستعمِر الذي يقبل نفسه"، لأن كلاهما لا ينعم براحة الضمير، ووحدها الحلول هي التي تختلف "فالحلول التي يضعها المستعمِر الذي يقبل نفسه هي التي تحوله حتما إلى استعماري" (ص80).
ينتج عن التفاعل بين ذات المستعمِر ووضعه الموضوعي أو واقعه، عدد من الملامح يُطلق عليها المؤلف، "عقدة نيرون" أو "دور المغتصب"، فالمستعمِر إذ يعترف بنفسه، يقبل نفسه كصاحب امتياز غير شرعي أي مغتصب، ويجد نفسه في النهاية، مجبرا لفعل أي شيء كي ينجح في تحويل الاغتصاب إلى عمل شرعي (ص80)، الشيء الذي لن يتأتى له إلا برفع نفسه عاليا والنزول بالمستعمَر/ المغتصَب إلى أسفل درك، وكما هو الشأن بالنسبة لنيرون مع ضحيته بريتانيكوس، فمنطق الاغتصاب الداخلي يدفع المستعمِر/المغتصِب إلى محاولة إلغاء المغتصَب ماديا ومعنويا (ص81).
غير أن الأمر فيه مخاطرة كبيرة بالنسبة للمستعمِر، الذي يرتبط وجوده ارتباطا وثيقا بوجود المستعمَر فهو شر لا بد منه ـ على حد تعبير المؤلف ـ لأنه لا يستطيع إلغاء المستعمَر من خارطة الأحياء، دون أن يطال نفسه، وهنا مكمن مأساته...
فاللجوء إلى القوة والجور من أجل الاستمرار، شيء لا يمكن أن يمر من دون عقاب، ذلك "أن مجرد القبول بحياة يلازمها الشعور بالذنب، يعني القبول بالأضرار التي يخلفها ذلك الشعور" (ص84).
وإطراء الاستعماري بنفسه وتأكيده على تفوق تقاليده وثقافته، لا يعفيه من الإدانة الجوهرية التي يتحملها في قرارة نفسه.
ورغم أن الاستعماري بنى في ذهنه، على مر السنين، حاضرة هي من الكمال بحيث تبدو المستعمرة إلى جانبها مجرد واقع سوقي يبعث على السخرية، "فالوطن الأم يظل مركبا جوهريا في الأنا الأعلى للمستعمِرين" (ص87)، وهو "ليس جميلا إلا لكونه بعيدا" (ص88).
وبعد هذا وذلك، يرى المؤلف أنه من السذاجة أن نطلب من المستعمِر مغادرة المستعمرة والعودة إلى بلده الأصلي/ عالمه المدهش، لأن من خصائص الأنا الأعلى أنه غير مُعاش، وأن ما يحقق له في المقابل صورته العظيمة وتفوقه الجوهري، هو وجوده في المستعمرة.
وفي مقابل هذا الحب للوطن الأم، لدى المستعمِرين، يكشف ميمِّي عن التباس يكتنف علاقات المستعمِر بذلك الوطن، فهو يغذي ضده عداوة عميقة، إذ يُجبره على إنشاء جيش. كما أن المستعمرة وفي مقابل الامتيازات العديدة التي توفرها له، فهي تكلف المقيم في الوطن الأم أكثر مما تدر عليه، فـ"ثمة تناقض بين الاستعماري والمواطن المقيم في الوطن الأم" (92).
إن من الخصائص الملازمة للمستعمِر كذلك، رفضه للمستعمَر، فهناك قول شائع يؤكده المؤلف مؤداه؛ "أن كل شيء ليكون على خير ما يُرام...لولا وجود سكان البلد الأصليين" (ص93). غير أن مجرد التفكير في عدم وجود المستعمَر يُفرغ المستعمرة من كل معنى، وهذا التناقض القاسي هو ما يشحن المستعمِر غضبا وحقدا في وجه المستعمَر.
يرسم المؤلف آخر ملامح المستعمِر، أي العنصرية، ويعتبرها مُلخِّصة للعلاقة "الأساسية التي تربط ما بين الاستعماري والمستعمَر وترمز إليها" (ص 96). فهي أكثر البنى صلابة في شخصية الاستعماري، ويعتبرها نتاجا لمجموعة من تراكمات السلوك اليومي لدى المستعمِر، التي يُلخصها في ثلاثة عناصر:
? اكتشاف الفروقات بين المستعمِر والمستعمَر وإبرازها.
? تقويم تلك الفروقات، لصالح المستعمِر وعلى حساب المستعمَر.
? دفع هذه الفروقات إلى حدود المطلق، مع التأكيد بأنها نهائية، والعمل بحيث تصبح كذلك.
وكلبنة نهائية ولمسة أخيرة، لهذا البناء الشامخ الذي شيده "فولتير تونس"، وكتمهيد لما وسمه بـ"مغفرة الذات"، يعتبر أن المستعمِر بعد أن أصبحت ممارساته، ذات الطابع العبودي، فاضحة في عيون المستعمَر، صار مجبرا على تبرير موقفه، فكان مبرر الرسالة الحضارية وإضاءة ظلمات المستعمَر، مما جعله مستحقا للامتياز والاحترام، تحقيقا للعدل.
حقائق ومفارقات
من بين المفارقات التي كشف عنها هذا الكتاب، أن المستعمِر لا يستطيع أن يغفر لذاته إلا عندما يستمر بانتظام "بنزع الإنسانية" عن المستعمَر، والمستعمِر مهما كان بغضه للمستعمَر كبيرا، لا يستطيع الاستمرار من دونه، لأن إبادته هي إبادة للاستعمار، بما في ذلك المستعمِر نفسه.
الاستعمار هو الذي ينشئ وطنية المستعمَرين، لأنهم يعيشون في ظل نظام تعسفي يوصلهم إلى مستوى "الحيوانات"، محرومون من كل الحقوق، حتى حق الحياة، وحين يصلون إلى درجة من اليأس، لم يعد لديهم شيء ليخسرونه، فـ"مصيبتهم تصبح هي شجاعتهم".
ليس هناك من مستعمِرين أشرار وآخرين صالحين، بل هناك استعماريين لا أكثر ولا أقل، البعض منهم يرفضون واقعهم الموضوعي، فقد جرهم الجهاز الاستعماري وراءه، وهم واقعيا يفعلون كل يوم ما يشجبونه في أحلامهم.
المرافعة الأخيرة
يخلُص ميمّي، بعد أن صال وجال في سيكولوجية طرفي معادلة الاستعمار، منتصرا طبعا للطرف الضعيف، المضطهد والمقهور، إلى أن كل شيء يحدث ليؤكد أن الاستعمار في شكله المعاصر، هو أفشل ما عرفه التاريخ، "بحتميته وأنانيته"، كما أن كل شيء يحيط بالاستعمار لا بد وأن يصيبه شيء من ذلك الفشل، فهو "يُفسد المستعمِر ويدمر المستعمَر" (ص 137).
جاءت مرافعة المؤلف منتصرة للمستعمَر ومُدينة للمستعمِر، فرغم تأكيده على أن المستعمَرين ليسوا وحدهم ضحايا التاريخ، وأن تأخر الشعوب المستضعفة لا يمكن ربطه دائما بالاستعمار، إلا أنه يعتبر هذا الأخير التجلي الأبرز للمأساة التاريخية التي ترزح تحتها الشعوب المستعمَرة.
ولكن ألم يستفد المستعمَر من الاستعمار، رغم كل شيء؟... اعتبر المؤلف/المرافِع هذا السؤال مغلوطا، وأكد أن المستعمِر فقط من في مصلحته الافتراض بأن المستعمَر جامد لا يتطور بعد أن عمل على إخراجه من التاريخ، وحجته في ذلك المشاكل التي لا زالت تعاني منها المستعمرات بعد عشرات السنين من الاستعمار، يريد بذلك محاكمة المستعمِرين عن نواياهم ممهدا للقول إنه كان ليُستغنى عن الاستعمار لأجل ذلك القليل من التطور، مشيرا من جهة ثانية أن بلدان صغيرة تطورت دون أدنى حاجة إلى الاستعمار، وهي بلدان أوروبا الوسطى، واصفا هذه المرة محاوره المفترض، الذي يشكك في قوله، بحجة أن المثال الذي ساقه لا يمكن تطبيقه على الوضع المعني، بالعنصري كونه يفترض أن أوروبا الوسطى يقطنها أوروبيون متفوقين في حين أن المجال المقابل يقطنه أناس آخرون من طبيعتهم التأخر...
ملاحظات وقضايا...
في معرض تحليله لوضع من وسمه بـ "المستعمِر الطيب النية"، وشعوره تجاه المستعمَرين، وكونه لا يستطيع أن ينكر التخلف الفاضح في وسائل المستعمَرين التقنية، ينسُب ميمّي ذلك التخلف إلى ما سماه بعشرات السنين من الاستعمار الذي حنط تاريخهم، كما أنه لا يشكك في قدرتهم في التغلب على ذلك التخلف إذا ما أعطيت لهم حريتهم، وهذا أمر فيه مبالغة كبيرة لأن الواقع التاريخي أثبت أن ما كانت عليه الدول المستعمَرة قبل التدخل الاستعماري، من وضع مرير يحتاج، لتجاوزه وقتا طويلا، وربما لن يحصل، نظرا لأن ما وصلت إليه الدول الأوروبية من تطور وقتئذ أفرز نوعا من عدم التكافؤ في موازين القوى في شتى المجالات، سواء الفكرية أو العسكرية أو الاقتصادية...
يرسم المؤلف، في هذا الكتاب، صورة شديدة القتامة للمستعمِر إلى حد اليأس من كل مبادئ وقيم إنسانية أمام وجود امتيازات اقتصادية وطبقية، فحتى ذلك الوافد الجديد، الذي وسمه بـ "المستعمِر الطيب النية"، سرعان ما يتحول إلى وحش كاسر.
ركز ميمّي على التفاصيل والجزئيات الدقيقة التي من شأنها أن تثبت الوجه السوداوي لصورة المستعمِر، فتحدث ـ مثلا لا حصرا ـ عن طبيب يقول بأن المستعمَرين "لا يعرفون كيف يتنفسون"، وعن أستاذ يتهكم بالمستعمَرين قائلا: "إنهم لا يعرفون كيف يمشون، إنهم يمشون بخطى صغيرة، السير لا يتقدم بهم".
يرى الكاتب أن إساءة تقدير المستعمَر تنسحب على كل ما يرتبط باسمه، فإذا كانت أحكام المستعمِرين تلك فيها نوع من المبالغة، في مقارنة أوضاع غير قابلة للمقارنة، فمن اللازم كذلك إضفاء نوع من النسبية على قدرات المستعمَرين، الذين أثبت الواقع التاريخي تخلفهم وتأخرهم عن الركب، فهم وإن كانوا ذووا قدرات محترمة ـ كما يريد لها المؤلف ـ فلم يكن باستطاعتهم تحقيق المعجزات، والدليل على ذلك؛ هو التبعية الحاصلة لحد الآن في علاقتهم بالدول المستعمِرة.
من الواضح أن تعاطف المؤلف مع الفئات المستضعفة، والمضطهدة قد وجهه وقاده ربما، إلى أن ينهال على المستعمِر بسيل من الانتقادات، التي وإن كانت نوعا ما مبررة، تبقى ذات هدف واضح كان الغرض منه إدانة الوضع الاستعماري.
يتنقد المؤلف في المستعمِر شكواه من سوء سير الخدمات ولا يفعل شيئا في المقابل مع أنه من كان يمسك بزمام السلطة، ويرى أن السبب في ذلك هو عدم رغبة المستعمِر في تصوير المستعمَرة على صورة وطنه الأم، لأنه وببساطة "لا يستطيع القبول بمثل هذه المطابقة التي من شأنها تحطيم مبدأ امتيازاته" (ص 96)، والحال أن الاستعمار خلَّف وراءه العديد من المنشآت والطرق...بصرف النظر عن نواياه من وراء ذلك.
أخيرا، قضية الحداثة ودور المستعمِر في الزج بالمستعمَرين داخل سيروراتها، في الحقيقة هذا الاحتمال لا يصمُد كثيرا أمام التحليل السيكولوجي للواقع الاستعماري، كما قدمه المؤلف، إذ يكشف في خضم تشريحه لوضع المستعمَر/الطفل، الذي عوض أن يجد حلا لمشاكله في الحركة والتقدم الاجتماعي، تُرغمُه شروط الواقع الاستعماري على الانخراط في قيم انطوائية وتقليدية، إذ يؤدي به التمرد والصراع في ظل الاستعمار إلى الانتصار للأهل والتراث، وهو انتصار حزين في نظر المؤلف، لأن المجتمع المستعمَر لن يكون بذلك قد تقدم خطوة واحدة.
وختاما...
ينتهي المؤلف بعد هذه الرحلة الطويلة في ثنايا نفسية طرفي معادلة الاستعمار، والتي ملؤها الشد والجدب، الاتهام والإدانة، الدفاع والمرافعة، إلى التسليم بحتمية ذلك الرباط بين طرفي الاستعمار، ذلك الرباط الهدام الخلاَّق، فهو يهدم ويعيد خلق المستعمِر والمستعمَر، يشوه الأول جاعلا منه ظالما وكائنا مجزأ، عديم الروح الوطنية، غشَّاشاً، مهتمًّا بالحفاظ على امتيازاته فقط، وبأي ثمن، ويُشوه المستعمَر جاعلا منه مظلوما، متعثرا بنموه، مرتضيا سحقه، "فمثلما أن المستعمِر مجبر بأن يقبل وضعه كمستعمِر، كذلك المستعمَر فهو محكوم عليه، لكي يعيش، بأن يقبل وضعه كمستعمَر"، فمأساة الإثنين، وضعهما الذي يشد عليهما الخناق.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

مأساة المستعمِر والمستعمَر عند ألبير ميمي عبد المجيد أيت القائد :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

مأساة المستعمِر والمستعمَر عند ألبير ميمي عبد المجيد أيت القائد

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» عندما يكون التأخر تاريخيا عبد المجيد أيت القائد
» عندما يكون التأخر تاريخيا عبد المجيد أيت القائد
» القائد والراعي من وجهة نظر إجتماعية
» ألبير كامو (1913-1960)
» ألبير كامو (1913-1960)

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: