دور المخابرات
في الترويج لأعمال بعينها
أحمد صلاح الدىن
ولد في نفس العام الذي خرجت فيه "دكتور جيفاجو" إلي النور، أبوه كان دبلوماسيا مثل الاتحاد السوفيتي في معرض بروكسل الذي ظهرت فيه الرواية لأول مرة. عاد الأب إلي لينينجراد بهدية لولده عبارة عن سيارة فولكسفاجن صغيرة، ونسخة مطبوعة من الرواية أخفاها في حقيبته الدبلوماسية. جمع الأب العديد من الأعمال الأدبية المحظورة لكتاب معاصرين، مما أتاح للابن الاطلاع علي نابوكوف، برودسكي، سولجينيستين. صنع الابن من هذه المجموعة من الكتب مكتبته "غير الشرعية"، في إشارة ساخرة لمنع السلطات السوفيتية تداول هذه الأعمال. ورغم أن الابن فقد نسخة الرواية التي كان يملكها، حيث استعارها أحد الأصدقاء ولم يعدها، إلا أن تاريخ الرواية والجدل الذي ثار حولها ظل حيا في ذاكرته. وفي عام 1988، بعد فتح الحدود السوفيتية، سافر الابن إيفان تالستوي إلي فرنسا وحصل علي نسخة من الرواية الغامضة، إلي جانب روايات أخري كتبها أدباء المهجر، ممن حظرت أعمالهم، وبعد أن قرأ الرواية، صار لديه ما يشبه اليقين أن ما أثير حول الرواية صحيح. قرر إيفان فتح الملف، والبحث عن دلائل تؤكد هواجسه التي ظلت تطارده علي مدار سنوات طويلة.
تحكي رواية باسترناك "دكتور جيفاجو" وهي التسمية الصحيحة للرواية وليس دكتور زيفاجو عن يوري جيفاجو، فارقت أمه الحياة وهو مازال صغيرا، رباه خاله كوليا، التحق يوري بكلية الطب بجامعة موسكو حيث قابل تونيا، تزوجها وأنجب منها طفله ساشا، خدم يوري بالجيش كضابط طبيب، في مدينة صغيرة حيث قابل لارا، وقع في غرامها. ونظرا لصعوبة وقسوة الوضع في موسكو، فالأسرة الصغيرة عانت لتوفير احتياجات الحياة الأساسية، لذا قرر يوري الرحيل إلي مدينة أخري ... فارينيكا. تمزق يوري بين عناء الحياة وواقع روسيا السوفيتية العنيف المضطرب، وبين حب امرأتين، كفر بالثورة، التي كرست للقمع والظلم والتعسف، فقد خذلته وخيبت أمله، تبدلت أفكار الثوار بعد الثورة، وفعلت السلطة فعلها في البشر. إنها الرواية التي رسمت صورة لفرد ينتصر لما يؤمن به، رافضا الماركسية، الايديولوجية الرسمية للدولة.
تحولت الرواية إلي فيلم سينمائي لديفيد لين، بطولة النجم المصري عمر الشريف وجولي كريستي. لكن ما هو السر في اختيار هذه الرواية بالتحديد لتحويلها لفيلم عام 1965؟ الإجابة تبدأ عند المخابرات البريطانية التي رأت في رواية باسترناك فرصة لضرب الاتحاد السوفيتي في مقتل، لما لها من قيمة دعائية، فهل تمثل اتجاها معاكسا تماما للايديولوجية السوفيتية وتيار الواقعية الاشتراكية، الذي كان سائدا حينها. أرسلت المخابرات البريطانية رسالة لنظيرتها الاميركية مع نسخ من الرواية وأوصت بنشرها في روسيا ودول الكتلة الشيوعية. لقي الأمر قبولا لدي وكالة الاستخبارات الامريكية علي الفور، فقررت بدء العمل علي الفور في تنفيذ خطة لنشر الرواية، ليس فقط داخل دول الكتلة الشيوعية، لكن ترجمتها بعدة لغات أجنبية تتيح فرصا أكبر لتشويه الاتحاد السوفيتي علي نطاق أوسع. حقق الفيلم نجاحا كبيرا وأحرز عدة جوائز أوسكار، مما تسبب في وضع السلطات السوفيتية في حرج بالغ. وجدير بالذكر أن الفيلم تم عرضه في مصر لمدة قصيرة لم تتجاوز الاسبوع عام 1971، لكنه رفع بناء علي أوامر السلطات المصرية وقتها، بسبب احتجاج رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي كوسيجين الذي علم بعرض الفيلم.
وقد صدر في الولايات المتحدة الأمريكية كتاب بعنوان "قضية جيفاجو: الكريملن والسي أي أيه والمعركة حول الكتاب الممنوع"، أعده كل من بيترا كوفي، الباحثة الروسية، وبيتر فن، الصحفي في جريدة الواشنطن بوست. يشرح الكتاب الطريقة التي روجت بها وكالة الاستخبارات الامريكية للرواية، وكيف رتبت لإصدار نسخة باللغة الروسية في هولندا، تم توزيع هذه النسخة في معرض كتاب بروكسل، في جناح الفاتيكان، ووزعت منها العديد من النسخ علي الزوار الروس. وهذا يتفق تماما مع رواية ايفان تالستوي. ذكر فن وكوفي كيف انتهي باسترناك من كتابة الرواية بعد وفاة ستالين، وكيف كان ستالين داعما له. وقد ركز فريق الاستخبارات الأمريكية المفوض بالترويج للرواية، علي رأسهم جون موري، علي رسالة باسترناك التي تقوم علي حرية الفرد في تقرير مصيره والتمتع بحياته الخاصة، بعيدا عن الدولة، وهي الفكرة التي مثلت تحديا مباشرا لايديولوجية الاتحاد السوفيتي. واللافت حقا هو مساهمة الاتحاد السوفيتي نفسه علي نحو غير مباشر في الترويج للرواية، من خلال الطريقة التي اتبعها في التعامل مع الرواية ومع كاتبها بوريس باسترناك، حيث مارست السلطات السوفيتية ضغوطا هائلة علي باسترناك، ومنعت نشر الرواية من خلال ستار حديدي، قوض لحد كبير انتشار الرواية داخل روسيا، حتي انهيار الاتحاد السوفيتي. وتعرض باسترناك لمحاولات تشويه، وهجوم حاد من زملائه، ومن اتحاد الكتاب السوفيتي ورئيسه الذي وصفه بــ "الخنزير"، وقيل أيضا إن السلطات السوفيتية أجبرت باسترناك علي رفض جائزة نوبل. وعاش باسترناك في روسيا حتي بلغ السبعين، توفي عام 1960 بسبب اصابته بسرطان الرئة، ومعاناته من متاعب في القلب.
تقدم فن وكوفي بطلب للسلطات الأمريكية بالافراج عن المستندات الخاصة بالقضية ولكن طلبه قوبل بالرفض، لكنها وافقت لاحقا، ونجح فن وكوفي في الحصول علي الكثير من المعلومات حول هذه العملية الكبيرة، من خلال شهادات أقارب باسترناك وأصدقائه الأحياء، بالإضافة إلي عدد من المصادر الأخري. وذكر فن أن عميلا للاستخبارات البريطانية هرب صورة فوتوغرافية من نص الرواية، أودعه باسترناك في حوزة مجموعة من الأجانب كانوا في زيارة له، بعد تأكده من رفض السلطات السوفيتية نشر الرواية، ومن ضمن هؤلاء الناشر الإيطالي جيانجياكومــوفليترنيلي. وسلم باسترناك نسخا من الرواية كذلك لمحاضرين في جامعة اوكسفورد، هما الفيلسوف قزحيا برلين وجورج كاكتوف، أثناء زيارتهم له في بيته في بريدلينكو قرب موســكو. ومن المحتمل أن يكون جورج كاكتوف، الذي كان يتقن اللغة الروسية، هو الوسيط الذي سلم النسخة للمخابرات البريطانية، فقد كان له علاقات واسعة مع الكثير من أفراد السلك الدبلوماسي البريطاني.
وفي تقرير لها، ذكرت صحيفة الجارديان أن الحرب الباردة لم تكن أبدا حكرا علي الجيوش المسلحة، إنما وظف السياسيون أسلحة أخري نعرفها الآن باسم "القوة الناعمة". وليس بغافل علي أحد دور محطات الراديو كصوت امريكا والبي بي سي في بث أخبار من خلال موجاتها القصيرة إلي دول الكتلة الشيوعية، فشلت أجهزة التشويش السوفيتية في تعطيلها. لكن مايلفت النظر حقا في حالة دكتور جيفاجو هو أنه منتج خرج من الاتحاد السوفيتي. ورغم اضطراب علاقة باسترناك بالسلطات السوفيتية، لم يضع نفسه في تحد معها أبدا، لكن روايته ازعجت الرقيب السوفيتي جدا، لأنها رسمت ثورة اكتوبر والحرب الأهلية والصراع بين الجيش الأحمر والبيض بشكل محايد. وفي محاولة لرد الهجوم، قام خروشوف وخلفاؤه بهجوم مضاد من خلال نشر أعمال جراهام جرين بأعداد كبيرة. والمضحك حقا أن جرين حقق مكاسب كبيرة من بيع كتبه، لكنها كانت بعملة الاتحاد السوفيتي، التي لم تكن لها قيمة خارجه، لذا فقد عجز عن التمتع بحصاد بيع كتبه خارج الاتحاد، لكنه تمتع بتناول كميات كبيرة من الكافيار أثناء رحلاته المتكررة إلي روسيا الشيوعية. ورغم ذلك، لم تنجح السلطات السوفيتية في هذا الهجوم المضاد، حيث انتصرت في النهاية القوة الناعمة الغربية وانهار الاتحاد السوفيتي، واعترف خروشوف ذات مرة أنه ندم علي عدم نشر "دكتور جيفاجو".