دريدا: تفكيك فلسفة الحضور
رشيد بوطيب
لاغرو أن دريدا، أحد أعلام فلسفة الاختلاف بالثقافة الفرنسية، إلى جانب كل من فوكو ودولوز، هو أول من حاول تحرير هايدغر من التأويل الوجودي الذي قدمه سارتر للفلسفة الهايدغرية. إن التفكيكية وكما بين ذلك بننغتون في كتابه عن دريدا(1) هي ترجمة للمصطلح الهايدغري: التدمير. فهذا هايدغر يعلن في بحثه الصغير: "الهوية والاختلاف"(2) يعلن بوضوح أن الفلسفة الأوروبية منذ أفلاطون تأسست على مبدأ الواحد وأنه رغم وجود فلسفات ثنائية وأخرى تعددية وأخرى ثائرة على كل نظام، إلا أن التيار الغالب كان هو التيار المتمركز على مبدأ الواحد. وتمثل فلسفة أفلاطون وعالم مثله خير مثال على ذلك، وفي الفلسفة الحديثة لا تخرج الهيغلية عن هذا النهج وهي تفهم الدولة كمجيء الله إلى العالم، وكل المثالية الألمانية. بل إن دريدا في كتابه الرائع "الصوت و الظاهرة"(3) قد بين بأن هوسرل، المؤسس للفينومينولوجيا ليس سوى امتدادا للفلسفة الأفلاطونية، وبلغة أخرى للمثالية الألمانية.
في هذه النظرة الأحادية البعد، الامبريالية المعنى، الوعي هو الحضور في ذاته، هو الوجود الذي نطلق عليه عامة اسم الذات. هذا الحضور الذي سماه هايدغر بالتحديد الأنطوـ لاهوتي للوجود. ثار هايدغر على منطق الوعي وفلسفة الحضور، وقبله أيضا نيتشه وفرويد. لم يحاول نيتشه تأسيس حقيقة جديدة، ولم تشغله أبدا أسئلة كانط الترنسندنتالية. لم يعد الوعي أرضا آمنة للمدلولات، أصل ومآل المعنى، لم يعد ذلك الخالق، المكتفي بذاته. لقد كان نيتشه وكان بطله المفاهيمي زرادشت تفكيكا على حد تعبير دريدا "للجراماتيكا الميتافيزيقية بامتياز". دون أن يغفل المرء فرويد الذي رفض هو الآخر نظام الوعي اللاهوتي. وقد بينت ساره كوفمان في كتابها "قراءة دريدا"(4) ذلك بوضوح، حين أعلنت أنه رغم أن فرويد فهم اللاوعي كنظام، فإنه يمكن القول أن اللاوعي لا مكان له وأنه لا يتسم بصفة الحضور، وأنه يبذر اللانظام في عالم الأنا وهو بذلك مثل مفهوم الكتابة أو الاختلاف عند دريدا، يهز بنيان الميتافيزيقا بعنف. نيتشه، فرويد، هايدغر ولكن خصوصا البنيوية كان لها كبير أثر على فلسفة الاختلاف. البنيوية كفلسفة موت الإنسان، تدافع عن فكرة أن الكاتب كشخص وأحاسيس ونظرة إلى العالم قد مات، وأنه لم تعد له سلطة على نصوصه. في كتابها:"اللغة، هذا المجهول"(5) رسمت جوليا كريستيفا معالم الاتجاه البنيوي. إن اللغة حسب هذا الاتجاه، أصبحت موضوعا للعلم. لم تعد تلك الممارسة التي تجهل نفسها، بل ستتكلم منذ الآن قوانينها الخاصة، هذه القوانين التي يمكن تلخيصها بفكرة فصل اللغة عن المتكلم، وهذا من شأنه أن يهز مركزية الإنسان ووحدته، فإذا كانت النهضة قد حملت شعار الإنسان ضدا على الإله القروسطي، فإن البنيوية تحمل شعار اللغة ضدا على الإنسان.. الإنسان كمعنى وأيديولوجيا.
1- البناء الميتافيزيقي للسانيات سوسير
يبدأ دريدا الفصل الثاني من كتابه "هوامش الفلسفة"(6) الذي يحمل عنوان:"اختلاف" بكتابة كلمة "اختلاف" بطريقة إملائية جديدة. لا يمثل هذا فقط هدما للإملاء الأورثدوكسي ولكن أيضا لنظام الوعي وتوتاليتاريته. ولا ريب أن سوسير هو أول من فهم أهمية الاختلاف واعتبر ذلك شرط إمكانية عمل الدوال. فاللغة بنظره هي نظام من الاختلافات، ولا وجود لبنية لا يكون الاختلاف وحداتها. وحسب دريدا ليس الاختلاف كلمة ولا مفهوما. و لن يعمل دريدا على تبرير طريقة كتابته لكلمة"اخت(لا)ف"، لأنه ليس حبيس منطق جدلي. إن بإمكان المرء أن يقرأ ويكتب هذا الاختلاف الإملائي و لكن ليس بإمكانه سماعه. "إنه غير مسموع" يقول دريدا. اختلاف لا علاقة له بنظام الوعي ولا بنظام التجربة. إن المركزية الصوتية تخفي دائما مركزية عقلية، ودريدا لا يريد قول شيء. إن فلسفته ليست إرادة - قول. إن الاختلاف يتجاوز كل أشكال الثنائية و الحرف الأول من الأبجدية اللاتينية دائم الغياب، إنه لا يقول شيئا، ليس بطبيعة ولا بوعي، لا يتضمن حقيقة. إن دريدا لا يمارس فلسفة كلاسيكية ومنطق الاختلاف ليس فقط منطقا لا-أنطولوجيا ولكن أيضا لامنطقيا. إنه بلغة دريدا: استراتيجيا ومغامرة. الاستراتيجيا تعني أنه لا وجود لحقيقة ترنسندنتالية تحكم الكتابة، فالكتابة ضد كل أشكال الأنطولوجيا واللاهوت. والمغامرة، لأن الكتابة لا تسجن نفسها بهدف معين أو باستراتيجية تسعى للبرهنة على صحة مقدماتها وامتلاكها من جديد. إنها استراتيجيا غير غائية، استراتيجيا التيه والضياع. لا يهدف دريدا إلى بناء نظام فلسفي جديد، والاختلاف ليس مسكنا جديدا للحقائق والمدلولات، بل مشروعا تفكيكيا، تبرز ملامحه بوضوح في قراءة دريدا لسوسير. إن الدال حسب سوسير يظهر للوجود لحظة غياب الموجود، لذلك فهو ثانوي والاختلاف نتيجة ذلك ليس له إلا وجود مؤقت. وسيحاول دريدا تجاوز هذا الاختلاف المؤقت الذي يظل حبيس الحضور، فلسانيات سوسير، رغم احتفاءها باللغة وبالدليل، تظل حسب دريدا سجينة الميتافيزيقا. وقد بين ذلك بننغتون بوضوح في كتابه السابق الذكر. ويمكن أن نلخص رأيه في نقطتين: أولا: إن مفهوم الدليل الميتافيزيقي ـ ويعني به الدليل عند سوسير ـ الذي يميز بين الدال والمدلول يجد أصوله في الفلسفة الثنائية التي كانت تميز بين المحسوس والعقلاني. وسوسير لم يعمل أكثر من محاولة امتلاك هذه الثنائية من جديد. ثانيا: إن التفكيكية تدافع عن أولوية الدليل ضدا على المرجعية. لا وجود لمرجعية خارج الدليل. إن فلسفة الاختلاف تحتفي بالثانوي، بالدليل. وهكذا سيهز دريدا بعنف سلطة الحضور، هذه السلطة التي ترغمنا على التفكير في الوجود دائما من خلال ثنائية الحضور والغياب. ليس الاختلاف ذاتا ولا أصلا ولا مرجعية، وحتى لو تساءل دريدا عن مفهوم الاختلاف فإنه لا يفعل ذلك إلا ليفكك السؤال في حد ذاته. إن السؤال عن الماهية هو سؤال ميتافيزيقي، وبلغة هايدغر: حجب للوجود. وهكذا سيحتفل دريدا بالكتابة ضدا للوعي. الكتابة أنثى والوعي يخشى كل ما هو أنثوي، يخشى تحويله إلى كتابة، لأن ذلك يفقده قدسيته وتعاليه، فالكتابة إيذان بموت الخالق وتجاوز لمنطق الهوية، إنها تتحقق على حد تعبير ساره كوفمان كإضافة، ككائن هجين، كشجرة بلا جذور، كنص بلا قوانين محددة، مفتوح على النصوص الأخرى، على الآخر.
2- دريدا و هوسرل: تفكيك المركزية الصوتية
يؤكد بعض النقاد الألمان بحق، بأن إدموند هوسرل هو أهم فيلسوف عرفته البشرية بعد أفلاطون. ولعل أهميته تبرز أكثر حين مطالعتنا لكتابات ما بعد الحداثة التي يمكن وصف فلسفتها بأنها مشروع نقدي وتفكيكي لنظام الوعي وفلسفة الحضور الهوسرليانية. وكمثال على ذلك، الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، الذي يمكن أن نلخص نقده لفلسفة هوسرل في جملة واحدة، نقتبسها من كتابه "الصوت والظاهرة":
"المعنى محفوظ للذي يتكلم". المعنى مثال، وعقلانية، ولهذا ليس تناقضا أن يربطه هوسرل بالذات، بذات حاضرة ومتكلمة. بطريقة ساخرة، يمكن القول بأن قدر الذات هو المعنى. إنه محكوم عليها أن تقول، أن تجترح معنى. والمعنى سابق للكلام، ذاتوي، ثابت مرة وللأبد بمكان ما قد نسميه الوعي، وبإمكان المرء أن يستحضره كلما أراد ذلك، كما يستحضر العبد ربه لحظة الصلاة. وتحويل المعنى إلى كلام أو لغة، يظل بنظر هوسرل عملا ثانويا، نوعا من التدنيس، إذا استعملنا لغة دينية. "الإيبوخي" هو نقيض ذلك، الايبوخي أو الاختزال الفينومينولوجي الذي يمثل خروجا من العالم، الذي يضع المعرفة كما الوجود بين قوسين. المنهجية الأخرى للفينومينولوجيا الترنسندنتالية هي الاختزال الصوري، وعن طريقها يتم "شطب وجود الأشياء، حقيقة كل ما هو زمني ومحسوس لصالح نظرة إلى الكل الجوهري. يتم إلغاء وجود العالم لكي يتم الإمساك بجوهره."(7) تبدو الفينومينولوجيا إذن كعلم قبلي. "فقبل الوجود، قبل كل قوانين الواقع، يمثل الجوهر وقوانينه"(8 ) إن الفينومينولوجية الترنسندنتالية هي نوع من الاكتفاء الذاتي الداخلي، وعي مطلق، حذف للعالم الخارجي، في كلمة: أفلاطونية. إن الوعي في هذه الفلسفة ليس نتاجا للطبيعة، بل هو حر من كل طبيعة، في حين لا يمكن للطبيعة أن توجد حال غيابه. إن هوسرل قد عبر عن ذلك بوضوح قائلا:"إذا محونا كل العقول من العالم، لا يبقى هناك وجود للطبيعة، ولكن إذا محونا الطبيعة، فإن شيئا ما يظل على قيد الحياة: العقل، كعقل فردي"(9) وهذه النظرة إلى الطبيعة كشيء ثانوي وتابع للعقل، توضح أيضا اختلاف الفينومينولوجيا عن علم الدلالة التقليدي، الذي يقبل فقط بالكلمات التي تحيل على موضوع واقعي. إن المفهوم المركزي لفلسفة اللغة الهوسرليانية هو: العبارة. والعبارة تنقسم إلى علامة سواء كانت مادية أم صوتية أم كتابية وإلى معنى. ويميز هوسرل بين نوعين من العلامات: العبارة والعلامة أو الإشارة. فالعلامة الأولى لها معنى، في حين أن الثانية هي علامة إشارية. ودريدا سيفهم هذا التمييز كنظام ميتافيزيقي لا يقبل التواصل. إنه يقول:"فقط حين يتم حذف الوظيفة التواصلية تظهر للوجود الوظيفة التعبيرية الخالصة(...) حتى يتم اختزال الإشارة وإقامة العبارة الخالصة داخل اللغة، يجب إذن حذف كل علاقة بالآخر."(10)
"الأبحاث المنطقية" هي بالنسبة لدريدا النص النواة لكل الفينومينولوجيا. إن دريدا يعالج في كتابه:"الصوت و الظاهرة" مشكلة العبارة كما فهمها هوسرل بالبحث المنطقي الأول. وسيكشف دريدا كما سنرى عن البنية الميتافيزيقية لنظرية المعنى الهوسرليانية. إن هوسرل نفسه يميز في كتابه:"التأملات الديكارتية" بين ميتافيزيقا أصيلة أو فلسفة أولى والميتافيزيقا التقليدية، التي خانت العقل. إن الفينومينولوجيا هي، اعتبارا لمنهجها الحدسي، الحسي ولكن أيضا العقلاني، ضد كل شكل من أشكال الشطط الميتافيزيقي. ولكن رغم هذا الزعم، فإن دريدا يرى بأن الفينومينولوجيا لم تضع موضع سؤال، لا العقل الترنسندنتالي ولا اللغة التقليدية لهذا العقل. إنه يقول:"بين اللغة التقليدية (أو لغة الميتافيزيقا التقليدية) و لغة الفينومينولوجيا، لم يتحقق أي شكل من أشكال القطيعة..."(11)
إن هوسرل يفهم اللغة ككائن عقلاني. إنه لم يفهم الاختلاف بين اللغة والمنطق. وإذا استعملنا أسلوب فوكو، نقول، إنه يمارس فقط لغة جدلية. فهم غائي للغة، أو بلغة دريدا، فهم لا يميز بين الجراماتيكية (النحوية) والمنطق. إنها جراماتيكا منطقية، تتأسس على الوعي وتجد أصلها ومآلها بالوعي. جراماتيكا ميتافيزيقية، وعي، لا يعبر إلا عن شيء واحد وهو الحضور، وبلغة أخرى: الصوت. الصوت الفينومينولوجي الذي لا يجب خلطه بالصوت الفيزيقي، لأنه صوت ترنسندنتالي وشعوري، صوت يمتلك روحا لا تنتمي إلى العالم. في الفصل الأول:"الدليل و الأدلة" من كتاب دريدا الآنف الذكر، يبدأ الفيلسوف الفرنسي بالحديث عن مفهوم العلامة أو الدليل عند هوسرل. إن هوسرل يعتقد بأن بعض العلامات لا تمتلك معنى. وهي تلك العلامات التي يسميها المرء بالعلامات الإشارية أو باختصار: الإشارة، في مقابل العبارة. الإشارة تنتمي إلى العالم، إلى عالم بلا وعي وبلا أنا وبلا ذات متكلمة. في المقابل فإن العبارة معنى، حدث شعوري، "إرادة قول". ويمكن توضيح هذه الأنطولوجيا اللغوية بالجدول التالي:
العالم
الوعي
الإشارة
(لا تريد قول شيء)
العبارة
(معنى،إرادة قول، ذات، عقل، موضوعية مثالية)
الامبيريقية
الحقيقة
وسوف يوضح هوسرل بأن العبارة ليست إشارة إلى شيء ما. إنها ليست علامة وجود، وحتى لو كانت دائما مرتبطة بخطاب تواصلي. فهذا التواصل يظل دائما بالنسبة لهوسرل سطحيا. إن العبارة تجد أصلها خارج فعل التواصل وبنية الإشارات، خارج العالم، في عالم المثال والمونولوج. إن الفينومينولوجيا الترنسندنتالية لا تسمح بتبادل الكلام، لأنها تفهم التواصل كفعل سطحي، إن أصالتها تتحقق دائما في غياب الآخرين، في غياب الاختلاف، في الحياة المنعزلة للـروح. إن الجدول التالي يوضـح ذلك:
الذات المستمعة
وساطة فيزيقية
الذات المتكلمة
فهم نية المتكلم
العبارة الإشارية
له علاقة مع علامات امبيريقية و ليس مع ذاتية، ليس مع حضور أو إرادة قول.
العبارة في نظر هوسرل "تجسيد". إنها تعبر عن معنى موجود قبلا بالوعي. وقد نفهم العبارة كمظهر أو تجسيد لمعنى داخلي. التجسيد أو المظهر أو الخارج ليس طبيعة ولكنه معنى، إنه صوت الذات المتكلمة. إن بنية الخطاب لدى هوسرل هي مثالية. دال مثالي، لا يقبل التغير ومدلول مثالي. مثالية لا تعني أكثر من إمكانية دائمة لإنتاج الذات كحضور. الوجود حسب هوسرل وكما بين ذلك دريدا هو تكرار أو عملية استحضار. وهذا التصور يفسر في رأيي هرمية ونهائية النظام الهوسرلياني. إذ أنه نظام لا يكتفي فقط برفض التواصل، ولكنه يدفن الوجود في أصل معين ويختزله بمكان محدد. يقول دريدا:"للتطور التاريخي حسب هوسرل دائما شكلا أساسيا، وهو تكوين المثالية، بحيث أن تكرارها وإذن التقليد يتم الحفاظ عليه للأبد:التكرار والتقليد، يعني النقل وتجديد الأصل. و هذا التحديد للوجود كمثالية هو تقدير أو فعل أخلاقي ـ نظري يؤبد الحكم الأصلي لفلسفة في شكلها الأفلاطوني."(12) الصوت هو تعبير عن هذا الحضور، عن هذا الشكل الأفلاطوني. ويتساءل دريدا لماذا يعتبر الصوت الأكثر مثالية من بين العلامات؟ من أين يأتي هذا التواطؤ بين الصوت والمثالية؟. إن هذا هو السؤال النواة لهذا الكتاب. وعبر طرح هذا السؤال يحاول دريدا تفكيك العلاقة بين المركزية الصوتية والمركزية العقلية. إن دريدا يحاول توضيح أن العلاقة بين الصوت والوعي هي علاقة داخلية. إن الصوت يظل سجين الأنا. لا مكان للآخر، لا مكان للعالم. فنفس الدال ومعنى المدلول هما نفس الشيء، الواحد، المثيل، الأنا، الآن هنا. في الوقت الذي أتكلم فيه، أسمع ما أقول، أحقق نفسي كحضور، كنفس وروح، أحصن حياتي. وقد أشار دريدا في كتابه: De la grammatologie إلى أن تاريخ الميتافيزيقا، ليس فقط من أفلاطون حتى هيغل، ولكن أيضا من ما قبل السقراطيين وحتى هايدغر، اعتبر دائما العقل كأصل للحقيقة. وهذه النظرة نظرت إلى الكتابة دائما كشيء ثانوي وتقني، يقع خارج الحقيقة. الصوت بعكس الكتابة هو مكون من مكونات هذا الاقتصاد الميتافيزيقي، إنه دال لا ينتمي إلى عالم التجربة، إنه الوعي ذاته. إن الكتابة لا تملك معنى ولا تأثيرا، إنه بالإمكان الاستغناء عنها. إن الميتافيزيقا لا تحتاج إلى جسد، إنها نرجسية، نوع من الإصغاء للذات. الصوت والوجود يدخلان في علاقة تقارب. إن الصوت وكما قال هيغل، ينحدر من الروح. إن الكتابة في هذه النظرة الميتافيزيقية اللاهوتية، ليست أكثر من وسيط. إنها لا تتضمن حقيقة، إرادة قول، إنها تجسيد. إن دريدا يوضح بأن مفهوم القصدية سجين ميتافيزيقا إرادية.. إن إرادة القول هي تعبير عن الحضور، وكل ما هو خارج الإرادة أو الذات هو بلا معنى، مثل اللغة والجسد والطبيعة. فالثنائية جسد/عقل تلعب دورا أساسيا في نظرية المعنى الهوسرليانية. العقل إرادة ومعنى، ولكن الجسد مجرد من كل معنى، موت. إن دريدا يفهم الفينومينولوجيا كاختزال إلى المونولوج. إنه يقول:"في الحياة الروحية الوحيدة لا نحتاج إلى كلمات واقعية ولكن فقط إلى كلمات متخيلة"(13) إن العلامة في الفلسفة الكلاسية كما في علم اللغة نوع من الملحق أو المساعد، لا علاقة لها بالحقيقة، إذ أنه يمكن الاستغناء عنها حين الحديث عن الحقيقة. إن العلامة أو اللغة هي مجرد انعكاس للحقيقة المثالية، التي تتأسس خارج العالم. إن العلامة أو اللغة ليس لها معنى، لأن وجودها في العالم يتحقق كجسد. وهذا الفهم للعلامة يقود هوسرل إلى تحقير التواصل، إن الآخر يمثل خطرا بالنسبة له،إنه تنسيب للمعنى الأصلي.الآخر كعلامة أوكتابة أو إنسان أو طبيعة يظل دائما في فلسفة هوسرل ثانويا، إنه نوع من الحشو. ويمكن تلخيص تفكيك فلسفة الحضور كما قام به دريدا في أربع نقط أساسية هي: 1ـ إن دريدا يعتبر بأن العلامة ليست فقط انعكاس لمعنى أصلي ولكنها شرط إمكانية هذا المعنى. وإنها ليست فعل استحضار لمعنى مصنوع من قبل.2ـ في البدء كانت العلامة وليس الذات، فليست الذات هي التي تكون العلامة ولكن نظام العلامة يكون الذات. 3ـ يتجاوز دريدا اختزال الزمن في الآن. الآن أو الحاضر كتحديد أنطوـ لاهوتي للوجود، كأصل للحقيقة وخالق للمعنى هو بالنسبة لدريدا شكل من أشكال الأفلاطونية. 4ـ تجاوز دريدا الهرمينوطيقا التقليدية التي زعمت دائما إعادة امتلاك المعنى الأصلي، هذه الهرمينوطيقا المبنية على الفهم وليس على الاختلاف. إن الغياب يلعب في نظره دورا أساسيا في تكوين المعنى.
المـراجــع:
1- „ Jacques Derrida“ Geoffrey Bennington, Seuil, P:252
2- « Derrida zu Einführung » Heinz Kimmerl, Junius 1922, Seite:16
3- „La voix et le phènomène : introduction au problème du signe dans la phènoménologie de Husserl » Quadrige/Puf 1967
4- « Derrida lesen » Sarah Kofman, aus dem Französischen von Monika Buchgeister und Hans-Walter Schmidt, Edition Passagen, Seite :53
5- „Le langage cet inconnu“ Julia Cristeva, Points 1981,Page: 10
6- « Marges de la philosophie » Jacques Derrida, Les éditions de minuit, 1972
7- « Edmund Husserl » Franz Josef Wetz, Campus, Seite :56
8- Ibid, Seite :57
9- Dem Zeichen auf der Spur“ Jörg Lagemann und Klaus Gloy, F-V 1998, Seite71
10- „ la voix et le phénomène » page :6
11- Ibid, page :59
12- Ibid, page :23
13- Ibid, page :47