شرح المقتضيات الدستورية المتعلقة بالمسطرة التشريعية (دستور 2011)
مصطفى قلوش
الأربعاء 08 يوليوز 2015 - 03:49
الجزء الثاني
المبحث الثالث : مسطرة القوانين التنظيمية (الفصل 85)
القوانين التنظيمية وفق المعيار الشكلي، هي تلك القوانين التي اعترف لها الدستور بهذه الصفة أو التسمية، تمييزا لها عن القوانين العادية. ولهذا فإن هذه الفئة من القوانين تخضع لإجراءات خاصة من حيث إعدادها ومناقشتها والتصويت عليها. كما أن إصدارها غير جائز إلا بعد تدخل وجوبي من طرف المحكمة الدستورية (الفقرة الثالثة من الفصل 85). علاوة على ذلك، فإنها تتميز بعدم جواز الطعن فيها بعدم الدستورية؛ ولا يستعمل بشأنها الحق المنصوص عليه في الفصل 95 من الدستور (طلب القراءة الثانية)؛ كما لا يجوز للبرلمان بخصوص هذه الفئة من القوانين، ممارسة حقه في التفويض التشريعي المنصوص عليه في الفقرة الثالثة من الفصل 70 من الدستور.
والدستور الحالي لسنة 2011 جعل مجالات القوانين التنظيمية محصورة في عشرين قانونا تنظيميا، بما في ذلك القانون التنظيمي المنصوص عليه في الفصل 146 الذي يعتبر بجميع مشمولاته، نصا دستوريا واحدا.
أما الإجراءات التشريعية المتعلقة بالقوانين التنظيمية، فمنصوص عليها في الفصل 85 الذي يقرر في فقرات ثلاث على التالي :
«لا يتم التداول في مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية من قبل مجلس النواب، إلا بعد مضي عشرة أيام على وضعها لدى مكتبه، ووفق المسطرة المشار إليها في الفصل 84، وتتم المصادقة عليها نهائيا بالأغلبية المطلقة للأعضاء الحاضرين من المجلس المذكور؛ غير أنه إذا تعلق الأمر بمشروع أو بمقترح قانون تنظيمي يخص مجلس المستشارين أو الجماعات الترابية، فإن التصويت يتم بأغلبية أعضاء مجلس النواب (الفقرة الأولى)».
«يجب أن يتم إقرار القوانين التنظيمية المتعلقة بمجلس المستشارين، باتفاق مجلسي البرلمان، على نص موحد (الفقرة الثانية)».
«لا يمكن إصدار الأمر بتنفيذ القوانين التنظيمية، إلا بعد أن تصرح المحكمة الدستورية بمطابقتها للدستور (الفقرة الثالثة)».
وتحليلنا للمقتضيات الدستورية الخاصة بالفصل 85 سيكون وفق البيان الذي اخترنا أن يكون تسلسله واردا على النحو التالي :
البند الأول : الضوابط الدستورية المنصوص عليها في الفقرة الأولى
الفقرة الأولى من الفصل 85 من الدستور تبين في المقام الأول المجلس الذي له حق الأسبقية في التداول بشأن مشروع أو مقترح قانون تنظيمي؛ كما تحدد الأغلبية الواجب تحققها لإقرار القوانين التنظيمية من طرف البرلمان، مع بيان للمجلس الذي يملك الحق في المصادقة النهائية على النص الذي تم البت فيه.
وبيان ما سلف سيكون وفق التوضيح التالي :
أولا : المجلس صاحب الأسبقية في التداول
إذا كان لرئيس الحكومة ولأعضاء البرلمان على السواء، حق التقدم بمشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية، فإن الإشكالية تبرز بخصوص المجلس التشريعي الذي له حق التداول بالأسبقية، حينما يكون الأمر متعلقا بمقترحات القوانين التنظيمية المقدمة من طرف أعضاء مجلس المستشارين. فهل هذه المقترحات تودع بالأسبقية لدى مكتب مجلس المستشارين، أم توضع لدى مكتب مجلس النواب؟
السبب في هذا التساؤل عائد إلى أن المقطع الأول من الفقرة الأولى من الفصل 85، يحيل إلى المسطرة المشار إليها في الفصل 84 الذي يقرر بأن مجلس المستشارين يحق له التداول بالأسبقية في مشاريع ومقترحات القوانين التي هي من مبادرة أعضائه. كما أن النظام الداخلي لمجلس المستشارين الذي ينص في الفقرة الثانية من المادة 85 على التالي : «يتداول مجلس المستشارين في مشاريع القوانين التنظيمية المودعة لديه بالأسبقية، وفي مقترحات القوانين التنظيمية المقدمة بمبادرة من أعضائه، خاصة تلك المقدمة من طرف المعارضة، طبقا للفصل 82 من الدستور». وتضيف الفقرة الرابعة من ذات المادة : «ولا يتم التداول في مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية المودعة لدى مجلس المستشارين بالأسبقية، إلا بعد مضي عشرة أيام على وضعها لدى مكتبه، واحترام المسطرة المشار إليها في الفصل 84 من الدستور». وهو ما يعني أن مجلس المستشارين بمقتضى النظام الداخلي يملك الحق في التداول بالأسبقية بخصوص مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية.
ورغم الخطل الواضح فيما تم التنصيص عليه في المادة 85 من النظام الداخلي، فإن الأغرب من ذلك، هو أن المجلس الدستوري في قراره رقم 938-14 لم ير غضاضة بشأن ما ورد في الفقرة الثانية والرابعة من المادة 85، وقرر المطابقة مع الدستور من غير تعليل أو تبرير، مخالفا بذلك ما هو منصوص عليه في الفقرة الرابعة من المادة 16 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الدستوري، التي تلزم أعضاء المجلس بتعليل القرارات التي يوقعون عليها.
إن أعضاء لجنة وضع الدستور لم يكونوا موفقين في صياغة مقتضيات الفصل 85 من الدستور بسبب ما يتضمنه النص الدستوري من إحالة إلى المسطرة المنصوص عليها في الفصل 84، التي قلنا بشأنها إن مجلس المستشارين لا يملك الحق في التداول بالأسبقية بشأن مشاريع القوانين الخاضعة لمقتضيات الفقرة الأولى من ذات النص الدستوري. لذلك يتعين فهم المقطع الأول من الفصل 85، على أساس أنه يتعلق بمشاريع ومقترحات أعضاء مجلس النواب ومجلس المستشارين التي تودع بالأسبقية لدى مكتب مجلس النواب بمفرده.
وتأسيسا على ما سبق، فإن الأسبقية في التداول بخصوص جميع مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية، مقررة لمجلس النواب بمفرده. أما مجلس المستشارين، فإنه لا يملك في إطار ما ورد في الفقرة الأولى من الفصل 85 سوى قراءة وحيدة تتم بعد أن تحال عليه مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية التي بت فيه مجلس النواب. وهو ما يعني في نهاية المطاف أن مجلس المستشارين محروم من حق التداول بالأسبقية فيما يخص جميع مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية، بما في ذلك المقترحات التي هي من مبادرة أعضائه؛ بدليل أن المقطع الأول من الفقرة الأولى من الفصل 85، ورد بصيغة «الإطلاق»، الذي ينجر عنه وجوب إيداع جميع مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية أمام مجلس النواب بمفرده. والنص العام كما هو معلوم، يؤخذ على عمومه وإطلاقه، إلا إذا وجد ما يخصصه أو يقيده؛ ولا تخصيص أو تقييد في المجال الذي نحن بصدده. ولهذا لا يجوز القول بإمكانية مجلس المستشارين من التداول بالأسبقية في بعض المجالات، وخاصة تلك التي لها علاقة بالجماعات الترابية، لأن مثل هذا القول واضح الخطل والسرف، ولا يتسق مع منطوق المقتضى الدستوري الذي لا يشوبه إبهام أو غموض؛ وحينما يكون النص واضحا، فلا مجال للاجتهاد.
ثانيا : مسطرة التداول بين المجلسين
إذا كان مجلس النواب هو المجلس الذي تودع لديه بالأسبقية جميع مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية، تبعا لما يستخلص من المقطع الأول من الفقرة الأولى من الفصل 85؛ فإن هذا المجلس لا يحق له الشروع في دراسة النصوص المودعة لديه في نطاق القراءة الأولى، إلا بعد انصرام عشرة أيام على وضعها لدى مكتبه. وعندما ينتقل النص إلى مجلس المستشارين، فإن هذا الأخير لا يتقيد بوجوب انصرام أي أجل.
والسؤال الذي يطرح بشأن التداول الأول لمجلسي البرلمان، هو معرفة ما ورد في المقطع الثاني من الفقرة الأولى من الفصل 85 الذي يقرر بأن التداول يتم : «وفق المسطرة المشار إليها في الفصل 84». فما هي هذه المسطرة؟
إن الإحالة الواردة في الفقرة الأولى من الفصل 85، بالرغم ما يحيط بها من إبهام وغموض؛ فإن الذي يمكن قوله بخصوص المسطرة المحال بشأنها إلى ما ورد في الفصل 84 من الدستور، هو أن النص (مشروع – مقترح) يعرض على مجلس النواب للتداول فيه بالأسبقية (المقطع الثاني من الفقرة الأولى من الفصل 84)؛ ثم يحال بعد ذلك على مجلس المستشارين ليتداول فيه بالصيغة التي أحيل بها إليه (المقطع الأول والرابع من الفقرة الأولى من الفصل 84). أي أن المسطرة تتحدد على وجه الخصوص في وجوب انتقال النص من مجلس إلى آخر، خلال القراءة الأولى فقط؛ لأن مسطرة التداول في نطاق القراءة الثانية، تخص مجلس النواب بمفرده.
ثالثا : مجلس النواب وانفراده بالمصادقة النهائية
على خلاف التصويت النهائي الذي يعود لمجلس النواب في نطاق المجالات الثلاثة المنصوص عليها في الفقرة الثانية من الفصل 84 على الوجه السابق بيانه؛ فإن المصادقة النهائية على جميع مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية في نطاق الفقرة الأولى من الفصل 85، تنعقد لمجلس النواب مباشرة بعد تصويت مجلس المستشارين. وهو ما يعني أنه خلال القراءة الثانية للنص، يقتصر حق التداول على مجلس النواب الذي يقرر بمفرده وبصفة نهائية.
وترتيبا على ما سبق، فإن مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية يصوت عليها مجلس المستشارين مرة واحدة بمناسبة القراءة الأولى للنص، عكس ما هو متاح له في نطاق الفقرة الثانية من الفصل 84، حيث يمكن له أن يصوت على مقترحات القوانين العادية للمرة الثانية.
رابعا : الأغلبية المطلوبة لإقرار النص
الأّغلبية المطلوبة لإقرار القوانين التنظيمية في نطاق الفقرة الأولى من الفصل 85، تختلف باختلاف القراءة الأولى عما هو مقرر في نطاق القراءة الثانية التي ينفرد بها مجلس النواب.
ففي نطاق القراءة الأولى، يحال النص الذي أقره مجلس النواب على مجلس المستشارين للتداول فيه؛ فإذا صوت عليه هذا الأخير من غير تغيير أو تبديل، فإن البرلمان بمجلسيه يكون بذلك قد صادق على النص. وخلال هذه القراءة الأولى يكتفى بتحقق الأغلبية من الأصوات المعبر عنها في كل مجلس على حدة.
أما إذا تم اللجوء إلى القراءة الثانية، بسبب تصويت مجلس المستشارين على النص بشكل مغاير لما أقره مجلس النواب؛ فإن الأغلبية تتحدد في إطار مقتضيات الفقرة الأولى من الفصل 85 تبعا للوضعين التاليين :
1 – الأصل في القوانين التنظيمية المتعلقة بما ورد في الفقرة الأولى، هو أن إقرار النص بمصادقة نهائية من طرف مجلس النواب، يستوجب تحقق الأغلبية المطلقة من أعضائه الحاضرين في الجلسة العامة. فإذا حضر 200 عضوا في جلسة التصويت على النص، فإن الأغلبية تتحقق بتصويت 101 عضوا بالموافقة على مشروع أو مقترح القانون التنظيمي.
2 – لا يستثنى من الأصل السابق، سوى القانون التنظيمي المتعلق بمجلس المستشارين والقانون التنظيمي الخاص بالجماعات الترابية؛ حيث يتم التصويت على كل واحد منهما بأغلبية الأعضاء الذين يتكون منهم مجلس النواب، أي 198 عضوا من أصل 395 عضوا، وهو العدد الذي يتكون منه مجلس النواب.
البند الثاني : مسطرة التداول في نطاق الفقرة الثانية من الفصل 85
خلال القراءة الثانية للنص، ينفرد مجلس النواب بالمصادقة النهائية على جميع مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية الخاضعة لمقتضيات الفقرة الأولى من الفصل 85؛ ولا يستثنى من هذا الأصل سوى ما ورد في الفقرة الثانية من ذات الفصل الدستوري التي تنص على التالي : «يجب أن يتم إقرار القوانين التنظيمية المتعلقة بمجلس المستشارين، باتفاق بين مجلسي البرلمان، على نص موحد». وهو ما يعني أن إجراءات التصويت على هذه القوانين، تختلف عن تلك المتبعة بشأن باقي القوانين التنظيمية الأخرى.
والجدير بالملاحظة بداية، هو أن الصيغة التي وردت بها الفقرة الثانية من الفصل 85 من دستور 2011، هي ذاتها التي كانت مقررة في دستور 1996، حيث تم التنصيص على ذلك في الفقرة السادسة من الفصل 58 الذي كان يشمل الإجراءات المتعلقة بالقوانين العادية، وتلك الخاصة بالقوانين التنظيمية؛ على خلاف الوضع في نطاق الدستور الحالي؛ الذي في إطاره تم تخصيص الفصل 84 للقوانين العادية، وتم إفراد الفصل 85 للقوانين التنظيمية.
ورغم التطابق في الصياغة في المجال الذي نحن بصدده، فإنه في ظل دستور 1996 كان في المقدور تأويل هذه القوانين التنظيمية التي وردت بصيغة الجمع، على أساس أن المقصود بها هو القانون التنظيمي الوحيد المتعلق بمجلس المستشارين الذي كان يحمل رقم 32-97 مع ما أدخل عليه من تعديلات. بيد أن هذا التأويل الواسع لم يعد الأخذ به ممكنا في ظل الدستور الحالي لسنة 2011، جراء تنصيص هذا الأخير في الفقرة الأولى من الفصل 85 على قانون تنظيمي يخص مجلس المستشارين، ويكون محل تصويت في القراءة الثانية بالأغلبية المطلقة من أعضاء مجلس النواب؛ ونص في الفقرة الثانية من ذات الفصل الدستوري على قوانين تنظيمية تخص مجلس المستشارين يتوجب إقرارها من طرف المجلسين بصيغة موحدة؛ وهو ما جعل التمييز بين القانون التنظيمي الوارد في الفقرة الأولى والقوانين التنظيمية المنصوص عليها في الفقرة الثانية على درجة من الصعوبة والتعقيد.
فبداية، ما هو وجه التغاير من حيث الفحوى بين ما ورد في الفقرة الأولى والثانية؟ ثم، كم عدد هذه القوانين التنظيمية في نطاق الفقرة الثانية، هل هي ثلاثة أم سبعة أم ماذا؟ إن المتعارف عليه هو أن مجلس النواب له قانون تنظيمي واحد يحمل رقم 27-11، كما أن لمجلس المستشارين قانون تنظيمي واحد يحمل رقم 28-11، فأين باقي القوانين التنظيمية المتعلقة بمجلس المستشارين؟ ويجب عدم نسيان أن مجموع القوانين التنظيمية المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية، محدد في عشرين قانونا تنظيميا.
إن الجواب على التداخل والتعارض والغموض الذي يكتنف الوثيقة الدستورية، متروك لفقهاء وعلماء وخبراء لجنة صياغة الدستور؛ علما أن عددا من أعضاء اللجنة لا علاقة لهم بالقانون الدستوري، ويعتبرون غرباء على ميدان التحليل القانوني والتأصيل الدستوري، وفاقد الشيء لا يعطيه، ومن لا يملك يستحيل عليه أن يمنح !؟
وبعودتنا إلى مسطرة إقرار القوانين التنظيمية، على الوجه المحدد في الفقرة الثانية من الفصل 85؛ نجد أن جميع مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية توضع بالأسبقية لدى مكتب مجلس النواب، وبعد التداول بشأنها وإقرارها، تحال على مجلس المستشارين لدراستها والتصويت عليها. فإذا أقرها بالصيغة التي أحيل بها إليه، فإن البرلمان بمجلسيه يكون بذلك قد صادق على القانون التنظيمي. وفي إطار هذه القراءة الأولى، يشترط تحقق أغلبية الأصوات المعبر عنها في كل مجلس على حدة.
وفي حالة حدوث الخلاف بين المجلسين، جراء تصويت مجلس المستشارين بشكل مخالف لما تم البت فيه من طرف المجلس الآخر؛ فإن النص الذي تعذر إقراره بصيغة موحدة في القراءة الأولى، يحال من جديد على مجلس النواب. ويظل النص محل انتقال من مجلس إلى آخر، إلى أن يتم التوصل إلى المصادقة على نص واحد. والأغلبية المطلوبة طيلة انتقال النص من مجلس إلى آخر، سواء في القراءة الأولى أو القراءة الثانية أو خلال القراءات الموالية، هي دائما الأغلبية من الأصوات المعبر عنها.
ومرد ذلك أن المجلسين في نطاق القوانين التنظيمية المشار إليها في الفقرة الثانية من الفصل 85، يتماثلان من ناحية وجوب إقرار القوانين التنظيمية من طرف المجلسين بصيغة موحدة؛ من غير هيمنة مجلس على آخر؛ على خلاف ما هو مقرر في الفقرة الأولى من الفصل 85، حيث التفوق في القراءة الثانية، مقرر لصالح مجلس النواب على حساب مجلس المستشارين الذي يعتبر كأنه غير موجود.
وخلاصة القول فيما يخص الضوابط الدستورية المتعلقة بالمسطرة التشريعية، هو أن النصوص الدستورية، فيها الكثير من العوار والدخن، بسبب عدم الدقة في الصياغة من الناحية القانونية؛ علاوة إلى الغموض الذي يكتنف مقتضياتها، والتناقض الحاصل بين أحكامها. وسبق للأمين العام للحكومة أن قال في هذا المضمار : «إن الدستور يتضمن كثيرا من المقتضيات الغامضة وغير الواضحة، وأنه يحتوي على بعض الأخطاء التي تستدعي تعديله».
وللعلة السابقة، ينسب إلى الدستور بأنه صيغ من طرف لجنة، جل أعضائها تكوينهم ضحل في مجال الصياغة القانونية، بدليل أن علمهم الغزير في مجال القانون الدستوري لا يزال إلى يومنا هذا طي الكتمان. وقد انتبه إلى هذه المثلبة الأستاذ الداودي الذي قال وهو على صواب بأن : «اللجنة المكلفة بإعداد الدستور، تتضمن أسماء لا صلة لها بالدستور على غرار بعض الأسماء التي تتضمنها اللجنة التي أعدت مشروع الجهوية الموسعة». وقريب من هذا المعنى ما ذكره الباحث عبد الله الجباري في مقال له بعنوان : «إصلاح لجنة الإصلاح».
وعطفا على ما سلف، هل في مقدور أساتذة القانون الأعضاء في لجنة صياغة الدستور، أن يتفضلوا جراء غياب الأعمال التحضيرية، ببيان وجه التغاير بين القانون التنظيمي المتعلق بمجلس المستشارين المذكور في الفقرة الأولى من الفصل 85 وبين القوانين التنظيمية المتعلقة بمجلس المستشارين المنصوص عليها في الفقرة الثانية من ذات الفصل الدستوري؟
وتأسيسا على كل ما سبق، فإنه إذا كان المعنيون بصياغة المقتضيات الدستورية غير واعين بما تتضمنه النصوص من نقائص ومثالب ودخن وعطن، وذلك من ناحية التأصيل الفقهي والدستوري، فإنه والحالة هذه لا لوم على أعضاء الهيئة التشريعية إن تساءلوا واختلفوا بشأن المجلس التشريعي الذي له حق الأسبقية في التداول، حينما يكون الأمر متعلقا بقانون تنظيمي يخص الجماعات الترابية. كما أنه لا تثريب على جهاز المراقبة إذا حاد عن الصواب، واعتبر أن القوانين التنظيمية عددها يربو على العشرين؟ وعلى سبيل المثال، ألم يقل كبار قضاة المجلس الدستوري في قرارهم 912-13 بأن قانون المالية للسنة المالية 2013 ليس فيه ما يشينه من ناحية المسطرة التشريعية المتبعة في إقراره؟ ومثل هذه القاصمة بمفردها تحول دون اكتساب العضوية في المحكمة الدستورية، جراء عدم استيفاء الشروط المنصوص عليها في الفقرة الخامسة من الفصل 129 من الدستور.
وكخاتمة أقول : إن الكثير مما تضمنته هذه المقالة لم يرد على ذهن أعضاء لجنة صياغة الوثيقة الدستورية ! ولذلك وجب التذكير بالقاعدة التي تقول : « لا ينسب لساكت قول». كما أنه ليس كل من تولى تدريس مادة القانون الدستوري، أو انتسب إلى جمعية القانون الدستوري، فقيه !؟