عبد عون الروضان
في مقابلة تلفزيونية تابعتها مؤخرا على شاشة إحدى الفضائيات العراقية لأديب عراقي مغترب أكن له كل الاحترام والود بدا ممتعضا بعض الشيء من كلمة « برمته « وقال إن الرمة هي الحبل وهي مفردة بدوية لايحسن بنا استعمالها في القرن الحادي والعشرين وقد نسي أننا حتى القرن الحادي والستين ! سنظل نستعمل الكثير من المفردات اللغوية البدوية المتعلقة بالبعير خاصة كالصادر والوارد ونضرب أخماسا بأسداس ولاناقة لك فيها ولا جمل وكثير منها ومن شاء فليطلع على كتاب التفتازاني .
هذا مدخل بسيط نحوالموضوع الرئيس وهو « نون النسوة « وهل أن علينا أن نلغي هذه النون المبجلة من قاموسنا اللغوي لأنها تشير إلى « عنصرية مقيتة « كما نسب إلى أحد الأكاديميين العراقيين المرموقين قبل سنوات واحتفظ باسمه لنفسي أن « نون النسوة توحي بالعنصرية اللغوية وتعيق التكافؤ النحوي في المجتمع والثقافة «
بدأعلينا أن نذكر أن « نون النسوة « ضمير مهم من الضمائر العربية وهي من الأسماء التي تستعمل في العادة بدل الأسماءالصريحة من أجل غايات صياغية متعددة , وتقسم هذه الضمائر في معظم لغات العالم التي وصلت إلينا إلى ضمائر للمتكلم هي في العربية : أنا للمفرد والمفردة ونحن للمثنى والجمع بنوعيهما يقابلها في الإنكلـيزيــة Iً و We وفــــي الفرنسيــة Je و Nous ثم تأتي بعد ذلك ضمائر المخاطب وهي بالعربية أنت للمفرد المذكر وأنت للمفردة المؤنثة وأنتما للمثنى بنوعيه المذكر والمؤنث وأنتم للمذكر الجمع وأنتن للمؤنث الجمع وفي الإنكليزية You للمفرد والمثنى والجمع بنوعيهما المذكر والمؤنث وفي الفرنسيةTu للمفردالمذكر والمؤنث وVous للمخاطبين والمخاطبات , أما النوع الثالث من الضمائر فهو ضمائر الغائب وهي بالإنكليزية He للمفرد المذكر وShe للمفردة المؤنثة وIt لغير العاقل وThey للجمع بنوعيه المذكر والمؤنث يقابلها في الفرنسية Il للمفرد المذكر وElle للمفردة المؤنثة وIls لجمع الذكور وElles لجمع الإناث مع ملاحظة أن اللغة العربية وحدها دون اللغات اللاتينية ( الفرنسية والإسبانية والإيطالية والبرتغالية والرومانية) واللغات التيوتونية ( لإنكليزية والألمانية) تحتوي على ضمائر منفصلة وأخرى متصلة.
من هنا نخلص إلى أن نظام الضمائر باللغة العربية هو أكثر دقة وموضوعية من سائر اللغات لتؤدي هذه الضمائر وظائفها الدلالية في الخطاب العربي وفي ذلك يقول الدكتور محمد خضر عريف في كتابه القيم (الخطاب العربي سماته وخصائصه « « إن من أهم الوظائف الدلالية للضمائر في الخطاب العربي هو تمكين الناطق بالعربية من متكلم ومتلق من متابعة ما يعود عليه الضمير بسهولة ودقة متناهية . ومعروف أن المتكلمين باللغة العربية لوجود هذا النظام الدقيق لا يلتبس عليهم عائد الضمير إلا في القليل النادر) .
ضمائر العربيةإن العربية تستخدم للخطاب مثلا خمسة ضمائر هي أنتَ وأنتِ وأنتما وأنتم وأنتنَّ ويا افعلي ونون أقبلن فيما يستخدم الإنكليز للخطاب ضميرا واحدا هو : you ويستخدم الفرنسيون ضميرين اثنين للغرض ذاته هما Tu للمفرد و Vous للمثنى والجمع بنوعيهما, ووفرة ضمائر الخطاب العربية تعطي هذه اللغة على تمييز عائد الضميرقدرة فائقة على تمييز عائد الضمير لئلا يلتبس على المتلقي , فإذا أخذناعلى سبيل المثال الآية الكريمة « يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك «( سورة يوسف ـ الآية 29) فإننا سنجد فيها مستويين من الخطاب الأول إلى يوسف وهو مذكر والآخر لامرأة العزيز وهي مؤنث ولولا وجود ( يا استغفري ) لما استقام الخطاب ولحصل اللبس لا محالة . وقد لجأت اللغة الإنكليزية ومثلها الفرنسية في ترجمتهما لألفاظ معاني القرآن الكريم إلى ذكر امرأة العزيز بالاسم لتلافي اللبس والإشكال وهذا مثال واحد من بين مئات الأمثلة التي تؤكد ثراء نظام الضمائر في اللغة العربية وقدرتها الفائقة على التمييز بين عائد ضمير وآخر .إن التفريق بين المذكر والمؤنث ليست حالة عنصرية بالمرة فالرجل والمرأة موجودان منذ الأزل وسيظلان حتى قيام الساعة. والذكر والأنثى موجودان في كل شيء وليس في ذلك ضير أو انتقاص لأحد الجنسين وليس في الأمر أية شبهة عنصرية والأمر يتعدى حدود نون النسوة أو واو الجماعة كما ذهب إليه الأكاديمي طيب الذكر, وفي اللغات اللاتينية والإنكلوسكسونية (وقد أخذنا الإنكليزية والفرنسية) نموذجا لتطبيق ضمائر تدل على المذكر وأخرى تدل على المؤنث فالضميرHe في الإنجليزية وIl في الفرنسية يدلان على المذكرالمفرد فيما يدل الضميران She وElle على المفرد المؤنث والضميران They وEllesعلى المثنى والجمع المؤنث ولم يصل إلى علمنا أن أحدا دعا إلى إلغاء ضمائر المؤنث في اللغتين أو فيما سواهما .
علاقة تبادلية لقد حفظ القرآن الكريم لغة العرب وكان الكتاب الكريم خير من استعمل الضمائر وصانها, فحين يكون الخطاب عاما شاملا كأن يكون موجها إلى الناس إي إلى عموم المؤمنين فإننا نراه يستخدم صيغة المذكر في الخطاب، أما إذا كان موجها إلى المؤمنات أو النساء فإنه يستخدم ضمائر الخطاب الخاصة بالمؤنثة فإن شهدوا فأمسكوهن بالبيوت حتى يتوفاهن ملك الموت أو يجعل الله لهن سبيلا (النساء الآية 15) أو فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم « سورة يوسف الآية 21) « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن» ( سورة البقرة الآية 122 )
إن محاولة حصر استعمالات نون النسوة في القرآن الكريم وحده ضرب من هدر الوقت فهذه النون هي الوجه الآخر لواو الجماعة والعلاقة بينهما علاقة تبادلية أو تعاونية أو حوارية كالعلاقة بين الروح والجسد فهي ليست علاقة برغسونية تقوم على التوازي والتناقض بل هي ثنائية حوارية متبادلة كالعلاقة بين العقل والعاطفة أو المجتمع والفرد أو العلم والدين أو الرجل والمرأة من منظور الإ سلام .
إنني لا أستطيع تخيل لغة عربية خالية من نون النسوة أو تاء التأنيث الساكنة أوياء المخاطبة أو هي وغيرها من ضمائر الخطاب الخاصة بالمؤنث حتى أن الدكتور الذي لم نذكر اسمه طرح تساؤله على استحياء ثم أراد أن يرمم ما كاد أن يفسده بقوله « هل هذه النون علامة للتفرقة العنصرية ؟ أم هي إشارة زهو أنثوية لولاها لما استمرت حياة أوطابت أو أترفت . بعد ذلك يحيل الدكتور الفاضل هذه المسألة إلى» برلمان القراء « حيث يقول « لنجعل من إلغاء نون النسوة أو إبقائها مسألة تقتضي تصويتا وثقة من برلمان القراء . إن إلغاءها ليس رأيا ولكنه بحث في مستقبل نون النسوة في القرن الواحد والعشرين ونونهن ومكانتهن ودورهن البارز في بناء الحياة الاجتماعية « كلام غريب لا أدري كيف صدر عن أستاذ عرف برصانته الأكاديمية « إن كان صدر عنه حقا ! «
محاولات خائبة اللغة أية لغة ليست تأريخا حسب,إنها وجود وحضارة وكل شيء بالنسبة للإنسان, وقد تعرضت اللغة العربية وخاصة في النصف الثاني من القرن العشرين إلى محاولات متعددة تستهدف النيل منها وتهديد العرب في أسمى وأقدس ما يمتلكون تارة تحت شعار التيسير وأخرى تحت شعار التطور, لكنها كانت كلها محاولات خائبة حملت موتها معها فسرعان ما ماتت وقبرت غير مأسوف عليها. إن إلغاء نون النسوة أو إبقاءها ليست بالمسألة السهلة ليبت فيها فلان من الناس أو « برلمان القراء « بل هي مسألة في غاية الخطورة .
مرة رأى بعض اللغويين الألمان ضرورة التخلص من كتابة الإسم مهما كان بالحرف الكبير « Capital Letter « سواء أكان علما أو غير ذلك أو إذا وقع في أول الجملة أو في منتصفها وأن يجروا تعديلا طفيفا يلغي هذه القاعدة ليبدأ الاسم كما يبدأ الفعل أو الحرف بحرف صغير « ٍSmall Letter « إلا في الحالات المعروفة, وعرض على المسؤولين في الدولة وكان ذلك إبان حكومة المستشار هلموت كول فجاء الرد سريعا وقاطعا بأن تلك مسألة تحتاج إلى قرار سياسي تشارك فيه جميع الدول الناطقة بالألمانية! فكيف يحيل الدكتور طيب الذكر مسألة في غاية الخطورة إلى من يطلق عليهم (برلمان القراء « لكي يقرروا حذف نون النسوة « فهل آن الأوان للتخلص من كسرة النصب ومن نون النسوة! وهل تلك الكسرة أو النون امتياز أومحض عنصرية مقيتة).