09 أكتوبر 2013 بقلم
يحيى اليحياوي قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:لا نروم القصد، بهذا الكلام، التدليل على وجود علاقة ممانعة من نوع ما، أو إثبات تضاد حقيقي قائم بين الديموقراطية والإعلام، بل ما نقصده إنما القول بأن سعة فضاء الديموقراطية ليست بالضرورة من سعة فضاء الإعلام، وسعة هذا الأخير قد لا تمت، في المجرد، إلى سعة الأولى.
هناك، دونما أدنى شك، حالة تجاذب عميقة قائمة، وإلى حد بعيد قارة بين الإعلام والديموقراطية، لكنها لا تشي بالضرورة بوجود تقاطع إيجابي يحكم ذات المعادلة في شكلها أو في الجوهر.
وعلى هذا الأساس، فمقاربة موضوع، كالذي نعرض له هنا، ليست حتما مطالبة بإثبات جانب المعادلة الإيجابي، بقدر ما المفروض فيها أن تبين أن ثمة من الأسباب والحيثيات ما يجعل أيضا علاقة الإعلام بالديموقراطية علاقة تنافرية، أو لنقل غير سببية المنحى إيجابا.
ومعنى هذا، أنه لو تم للمرء إثبات مقولة أن وجود إعلام حر هو حقا دليل ديموقراطية، (وهو أمر لا يتعذر تبريره، والإتيان بأكثر من برهان لتوكيده)، فإنه غالبا ما لا يستطيع إثبات العكس؛ أي إثبات أن تواجد إعلام حر هو ليس بالضرورة من وجود فضاء ديموقراطي حقيقي.
هناك، فيما نتصور، ثلاثة اعتبارات كبرى تجعلنا نزعم أن وجود إعلام حر ليس دائما دليلا حاسما على وجود مناخ ديموقراطي قائم؛ أعني غير قابل للانتكاس:
- الاعتبار الأول، ويكمن في بديهية القول بأن الحياة السياسية لا تتحدد فقط بمدى قدرة الجماهير على بلوغ الخبر أو تمكينها منه (صحافة مكتوبة أو مسموعة أو مرئية أو غيرها)، بل تتحدد أساسا (وقبل ذلك ربما) بمدى تمثل الجماهير إياها لدور الأحزاب، ولنظم تباريها بغرض تأطيرها أو لبلوغ السلطة، وأيضا بتوفر آليات تجعل التداول على تدبير الشأن العام أمرا واردا، بل وضروريا.
لا ينحصر الأمر عند هذا الحد، في مجتمع اعتمدت الديموقراطية فيه كخيار لا مزايدة بشأنه، بل يتعداه إلى ضرورة وجود آليات تضمن قيام سلط مضادة، نقابات كانت أم مكونات مجتمع مدني خالص.
صحيح أن وجود إعلام حر وفعال هو عنصر مركزي لصون "المكتسب الديموقراطي" وحمايته (وهو هنا سلطة مضادة بامتياز)، لكنه لا يقوم على تحديد طبيعة الديموقراطية، ولا على وضع آليات اشتغالها...إذ الأمر من صلاحية الأحزاب والمنظمات المدنية، وليس مادة اشتغال الإعلام المباشر، أو من تلك التي تحظى بأولويات اهتمامه.
- الاعتبار الثاني، ومفاده أن حصول الفرد على الخبر (في حالة شفافية سريانه) ليس هدفا في حد ذاته في نظام ديموقراطي قائم، بقدر ما هو (ويجب أن يكون) إذا لم يكن وسيلة تغيير، فعلى الأقل عامل تأثير.
ومعنى هذا، أن لا فائدة كبرى ترجى من الخبر في مطلقه، إذ المطلوب هو القدرة (والقابلية) على صهره في منظومة للتفكير، بجهة وضعه في سياقه وتأويله واستنباط الآية منه أو الحكم على مصداقيته.
ومعناه أيضا أن بلوغ الخبر (من لدن الإعلام ومن خلاله الجماهير) لا يجب أن يستقرأ "كمحطة وصول"، بقدر ما يجب أن يكون نقطة بدء بجهة التأثير على صانع القرار، كائنة ما تكن طبيعة ذات الخبر أو المستوى المشار إليه بالأصبع.
والمقصود المباشر بهذا الكلام، إنما القول بأنه لا قيمة لخبر يشير إلى هذه الجهة أو تلك بالفساد أو بالرشوة أو بالزبونية أو باستصدار المال العام، أو بهتك أعراض الناس أو ما سوى ذلك...لا قيمة له تذكر إذا لم يخلق الفزع في نفوس القائمين على ذلك، ويكون خلف متابعتهم ومحاسبتهم والقصاص منهم...إذ لا حاجة للتبجح (كما في المغرب مثلا) بوجود "ظرف" ديموقراطي من نوع ما، إذا تم للإعلام فضح ممارسات وكشف فضائح، ولم يتعرض مرتكبوها للمتابعة والمحاسبة والمتواطئون معهم للاستدعاء والمساءلة.
يبدو من واقع الحال (على الأقل بالنسبة للمغرب) بأن ذات الممارسات والفضائح، إنما تتزايد بطريقة أسية منذ مدة...وكلما تكشفت كلما ازدادت وتيرتها...أعني اشتدت "شهية" القائمين عليها في الخفاء كما في العلن.
- الاعتبار الثالث، ويتمثل في القول بأن الزمن الحاضر، إنما هو زمن انتصار الاتصال على الإعلام لدرجة "طغى" فيها الأول على الثاني، واندغمت منظومتهما في الشكل كما في الجوهر.
وعليه ف"انتصار" الاتصال لا يوحي فقط بتراجع البعد الإعلامي (وتقلص الوظيفة الإخبارية البحتة لوسائل الإعلام)، بل ويوحي أيضا - وبالتحديد- بأن الناس باتوا "سواسية" أمام بلوغ الخبر، ولهم القدرة على تقاسمه مع ما سواهم من أبناء طينتهم،
وهو أمر لا تنحصر تداعياته فقط في نفي بعد التناقض عن العلاقات الاجتماعية السائدة، (وهي مكمن التناقض دونما كبير اجتهاد)، بل وأيضا في تجاهل الوظيفة الإعلامية التي من شأنها أن تبرز ذات التناقض وتجتهد (في حالة بعض المنابر) في التركيز على خلفياته ومرجعيته.
ومعنى هذا الطرح، أن تغليب الاتصال على الإعلام (في حالة الشبكات الألكترونية تحديدا) لا يحصر الإشكال (إشكال تعارض الإعلام بالديموقراطية) في الشبكة (بحكم طبيعتها الإقصائية القائمة)، بل يجعله حكرا على شريحة لها قدرة البلوغ المادية لذات الشبكة وحصر الخبر الممرر من خلالها في ذاتها...فلا تجهد بالتالي نفسها على تعميمه أو إشاعته في محيطها.
ومعناه أيضا أن شيوع خبر ما بشبكة الإنترنيت (في مجتمع تتعذر فيه سبل البلوغ كالمغرب مثلا) لا يعطي ذات الخبر بعده الجماهيري المرغوب فيه، بقدر ما يجعله حصرا وحكرا على الذين لهم إمكانات البلوغ وسبل الاطلاع.
بالتالي، فتقديم الاتصال على الإعلام يبدو هنا ولكأنه غبن للديموقراطية بما هي ضرورة الاطلاع على تموجات قضايا الشأن العام، وإبداء الرأي بشأنه وتفويض الأمر لمن تراهم الجماهير كفيلين بذلك، مؤتمنين عليه.
لقائل يقول: وما الخلفية من وضع الإعلام وجها لوجه مع الديموقراطية، ولكأنهما غريمين يشتد الصراع بينهما، كلما تقدمت وتيرة أحدهما على حساب الآخر، أو لم يتيسر للثاني أن يساير، وهكذا؟ أو ليس من المفروض وضعهما معا صفا بصف، في وجه الاستبداد والحكم الفردي وسيادة الفكر الواحد؟
وهو قول لا يجانبه الصواب، إذ الإعلام كما الديموقراطية أداتان (كل بطريقته) للتصدي للاستبداد وتقويض أدوات الحكم المطلق...تماما كما أنهما مكونا خندق واحد، لاستنبات قيم المواطنة وسيادة دولة الحق والمحاسبة.
إلا أنهما، عكسا لكل ذلك، لا يحتكمان لنفس المنظومة، وليس لهما بالضرورة نفس الوظائف: فتحديد طبيعة الديموقراطية هي، في الأصل، من مهام فقهاء السياسة والاجتماع، في حين أنه ليس من المفروض في الإعلام أن يتطلع لذلك، هو أداة للدفاع عن الديموقراطية، لصيانتها، لمواجهة المناهضين لها...الفارق إذن، لا يكمن في الهدف (ولا في الأداة حتى) بقدر ما هو كامن في ضرورة توزيع الأدوار.
بالتالي، فإذا كان الإعلام شرطا ضروريا لإقامة نظام ديموقراطي، فهو ليس بكل الأحوال شرطا كافيا.
لمتسائل يتساءل: هل من الضروري، عكس ما سبق، توفر إعلام حر إذا كان للديموقراطية أن تتكرس "بفضل" الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وغيرها، قد تقوم (أعني الأحزاب والمنظمات) بما يقوم به الإعلام؟
ما الفائدة من المطالبة بإعلام حر، إذا كانت المؤسسات القائمة كفيلة بتعويض دوره وإدغامه في دورها، إذا لم يكن في الشكل فبالتأكيد في المضمون؟
وهو استفهام حق...لكنه يخفي في بواطنه باطلا: إذ الإعلام جزء من الديموقراطية ...تماما كما هي الديموقراطية جزء من الإعلام. من هنا، فإذا كان لكل منهما فضاؤه المستقل (ومن الضروري أن يكون الأمر كذلك) فكلاهما، بصرف النظر عن هذا الطرح أو ذاك، وسيلتان لهدف فلسفي واحد: حفظ كرامة الفرد والجماعة وصونها ضد سلوك التسلط والاستبداد.