23 يناير 2015 بقلم
محمد صلاح بوشتلة قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:في علاقة الفيلسوف بالمستبد:
عن عبد الرحمن بدوي والنازية
بالتأكيد كان عبد الرحمان بدوي جزءًا من وعينا العام بأنفسنا لعقود، وسيظلّ كذلك حاضرًا معنا، إما بتحقيقاته المتكثرة لشطر صالح وكبير من أهم ذخائر التراث العربي الإسلامي واليوناني في حضارتنا، وإما بترجماته الماتحة من لغات أوروبية متعددة لأهم الروائع العالمية في الفلسفة كما في الأدب، وإما بتآليفه المبدعة في تأسيساته الفلسفية الأولى من نوعها عن الوجودية والإنسية وتاريخ المذاهب والفرق في العالم العربي والإسلامي، لتتحقق على يديه بلغة غدامير "التلمذة الفسلفية" الحقيقية والفعلية، فمن لم يدرك شخصه ليتتلمذ عليه مباشرة، تتلمذ بالتأكيد على مكتبته الضخمة التي تتساوى فهرستها مع قائمة منشورات دار النشر من الطراز الأول. فعبد الرحمن بدوي أول فيلسوف مصري ـ كما وصفه طه حسين، إنّه صاحب التنوع الموسوعي الغريب جدًّا في اهتماماته المشرئبة دومًا نحو نقل القارئ العربي إلى أبعاد معرفية مختلفة في جغرافيتها وزمنيتها وجِدّتها، أدبية وفلسفية وتراثية وازنة تحقق توازن الأمّة الفلسفي والحضاري، وكل ذلك ضمن مهمة أوكلها لنفسه في غياب تام لمؤسسة تدعمه، وهي مهمة سد الفراغات، وملء (ورتق) الخروم التي تعاني منها ثقافتنا المعاصرة، ويعاني منها بشكل مزمن ومرضي تراثنا وانفتاحنا على الآخر.
الغرابة المثيرة لمشاعر الإعجاب الكبير والعميق التي تفرضها دومًا موسوعية بدوي هي من جعلت مفكرًا عربيًّا كبيرًا وغريبًا جدًّا كعبد السلام بنعبد العالي يتساءل بكثير من الاستغراب عن "غياب" عبد الرحمن بدوي عن الساحة الإيديولوجية والسياسية أمام حضوره الثقيل جدًّا في جميع المناحي الثقافية العربية
[1]، لِيُظْهِرَ لنا هذا السؤال مدى غربة صورة بدوي الأخرى الخفية والمندسة لبدوي السياسي والأيديولوجي، الصورة التي كانت مكتبته الضخمة سببًا ضمن أسباب ساهمت في تغطيتها واندساسها عنا، وعدم إظهارها بالمرة، أو تضبيبها والتشويش على رؤيتها بوضوح، فمن المؤكد أنّ وجه بدوي الإيديولوجي والسياسي البالغ الغرابة، قد عملت بما فيه الكفاية نصوصه المتكثرة التي لا تكاد تنتهي، على جعله غميسًا وخبيئًا عن تدقيقاتنا، إذ أنّه طوال حياته كان يرمي لنا بنصوصه نصًّا تلو الآخر دون أن يترك لنا الفرصة لنهتم بالجانب الآخر منه، وهو جانب حياته السياسية في مقابل جانبه الذي نعرفه جيدًا وخبرناه جيدًا وهو الذي تمثله أعماله.
بدوي لم يكن بذاك الفيلسوف المنغمس أمام مخطوطاته والمنكب على تآليفه، فيصدق عليه قول هايدغر "أرسطو فيلسوف ولد ومات"، في عبارة يراد منها الاكتفاء بنصوص الفيلسوف دون النظر والرجوع إلى دفاتر حساباته الشخصية، ومواقفه التي قد تكون محرجة له أو قد لا تكون، كما هو الأمر بالنسبة إلى هايدغر نفسه صاحب القولة، مع ماضيه النازي جدًّا. إذ القولة تلك لا تصدق بتاتًا مع فيلسوف خبر الحياة السياسية مبكرًا في قريته شرباص، وعاش مكائدها منذ صباه إلى آخر حياته، ليعرف الاعتقال والسجن، فبدوي، ولنتحدث هنا عنه بلغته الوجودية، باعتباره كائنًا ألقي به في عالم ليس من صنعه، ولكنه مع هذا فهو عالمه الوحيد، لا يمكنه أن يأخذ فيه وعنه موقفًا تأمليًّا محايدًا، فيصبح جزءًا من الأشياء التي في وعيه، إنه كائن عارف قلق بشأن مصيره في عالم غريب عنه، متسم بأنّه ليس لديه ردود فعل تجاه الأحداث، فهو يستجيب لها، ومن ثم فهو محتّم عليه الاختيار، ولا شيء غير الاختيار، لهذا لم تكن حياة بدوي رتيبة وعادية جدًّا، لتتخذ من الحياد موقفًا لها، فتصير عبارة هايدغر "ولد، ومات" صالحة وصادقة عليها ومعها، لتكون مسلّمة نظرية لتفكيك فكره وتحصيل معانيه انطلاقًا من نصوصه فقط دون النظر إلى أعماله الفلسفية بشكل يعفينا من النظر إلى سياقه الأيديولوجي الذي أنتجها والذي قد تكون صدرت في جلها عنه.
الأمر بالتأكيد ليس كذلك مع بدوي، فمواقف بدوي السياسية والإيديولوجية كانت راديكالية جدًّا، إلى حدّ جعلته يترك مِصْرَه، ويهاجرها متنقلاً بين بلاد الله الواسعة فمرة في الكويت، ومرة في ليبيا، ومرة في إيران، وأخيرًا ليستقر به ترحاله في فرنسا، فموقفه من جمال عبد الناصر ونظامه كان قاسيًا جدًّا، ومن حزب الوفد قبله ومن الواقع العربي كليًا كان حادًا جدًّا، الشيء الذي جعله يرتبط وإلى حد بعيد وغريب بالأيديولوجيا النازية، ويرتمي في أحضان الحزب النازي الألماني، وتلتحم آماله بآمال الفوهرر ودولته ألمانيا البعيدين عنه جغرافيًا لكن القريبين منه قلبيًّا وعقليًّا، فيعبر عن انتمائه النازي دونما تورية لغوية بل بشكل هو الأكثر وضوحًا من شيخه هايدغر، الذي أثار تعاطفه مع الوطنية الاشتراكية النازية نقاشًا طويلاً نتج عنه ما سمي بـ "حالة هايدغر" بالنسبة إلى الفكر الغربي دون أن ينتج نقاشًا حول "حالة بدوي" بالنسبة إلى فكرنا العربي.
يقول أحد تلامذة بدوي وهو مراد وهبة: "في عام 1945، كنت طالبًا في قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، وكان عبد الرحمن بدوي يحاضرنا في الفلسفة المسيحية والمنطق، وفي 30 إبريل 1945 انتحر هتلر، وفي اليوم التالي دلف عبد الرحمن بدوي إلى مكان المحاضرة، فلمحنا ربطة عنق سوداء، وعندما سألناه عن السبب قال: لأني حزين على وفاة هتلر"، هكذا وبكل حب وإخلاص لا يهتزان يجسد لنا بدوي ويفصح عن نازيته العميقة والوفية، هكذا وعلى عكس التيار يسبح بدوي كعادته بانتمائه الغريب للنازية الألمانية في الوقت الذي عرف فيه تعصب مفكرين من جيله لإنجلترا كما الأمر بالنسبة إلى لعقاد، ولفرنسا كما الأمر بالنسبة إلى طه حسين.
إنّ انخراط بدوي في الإيمان العميق والراسخ بهتلر وبالنازية ليس وليد الصدفة بل إنّ السبب فيه هو تلقيه تكوينًا نازيًّا بامتياز في سلسلة محاضرات أيام إرساله في بعثة علمية إلى إيطاليا وألمانيا، حيث سيزداد تأثير الأيديولوجيا النازية فيه، وسيزيد من ارتباطه بها، بشكل سيجعله مُغاليًا في تمجيدها، وسيضخّم من شعوره المتعصب لدولة الرايخ الثالث بصورة جعلته من أكثر المفكرين العرب الذين نأوا في غالبيتهم عن وضع أقلامهم وأقدامهم في دوامة هذا الصراع؛ ففي سنة 1928 سيمضي في ألمانيا قرابة الأربعة الأشهر وأيامًا قليلة في إيطاليا في بعثة علمية من الجامعة المصرية، بسبب إتقانه للغتين الإيطالية والألمانية، حيث سيسجل في جامعة منشن التي سيتلقى فيها محاضرات مكثفة من أساتذة آتين من مختلف الجامعات الألمانية، لبعضهم مكانة رفيعة في الأدب الألماني من مثل "walter rehm" زميل هايدغر في جامعة فرايبورج، والذي سيتعرف معه وبشكل أكبر على كيركجورد وجوته، وسيتعرف في محاضرات "koellreuter" من خلال محاضراته على نظام الدولة في مذهب النازية، وعلى مكونات الدولة النازية ومؤسساتها، ومعه أحد الأساتذة الألمان في البيولوجيا سيتعرف بدوي على مزايا العرق الآري، وكذلك كيف تفسد الأعراق بفساد الأجناس، كما سيتلقى محاضرات أخرى عن الفلسفة التي يقوم عليها المذهب النازي، وعن تاريخ دولة الرايخ الثالث والعصور المجيدة لألمانيا، ومحاضرات عن العمارة الألمانية، وعلى موسيقى فاجنر، ولا يخفي بدوي أنّ كثيرًا من المحاضرات كان يغلب عليها طابع الدعوة السياسية لدولة الفوهرر
[2].
وستتوطد علاقة بدوي بالنازية مع حضوره أحد خطابات هتلر أمام حشد من سكان منشن، وسيظهر تأثره الكبير والحار بهتلر من خلال تعابيره عن اللقاء الممجدة لذات الزعيم هتلر وطريقته في الكلام والخطابة، في دلالة واضحة على انبهاره بهذا الزعيم، إذ سيعتبر بدوي حضوره في منشن في هذه المناسبة هو من حسن حظه، فعلى بعد مسافة لا تتجاوز خمسين مترًا سيراقب بدوي هتلر وهو يخطب على أهل مدينة منشن بعد افتتاحه "لدار الفن الألماني" «mans der deutschenkeunse»، الخطبة التي ستبهر بدوي إذ سيعتبرها حافلة وطويلة، وسيصف فيها أداء هتلر بالجليل والقوي، على الرغم من كون موضوعها هو التخلص من الفن والفنانين المنحلين ! والدعوة إلى فن ألماني حقيقي يقول ويحاكي الواقع، حيث يقول هتلر: "هل شاهد أحد سوى العقل هذه الصور والأشكال في الطبيعة؟! إن كان هؤلاء «الفنانون» يزعمون أنهم يرون الناس بهذه الأشكال الممسوخة، فإني أحيل أمرهم إلى وزير الداخلية ليعالجوا العلاج المناسب"، فيزيد بدوي شارحًا قصد الزعيم هتلر بأنّ صاحبه يعني مستشفيات المجانين باعتبارها تتبع لوزارة الداخلية
[3]. وفي زحمة موكب هتلر الذي يصفه بدوي في لغة منبهرة تخفي اعتزازًا بعظمة هتلر، بموكب الفن العظيم والرائع الذي يمتد على مسافة عشرين كيلومترًا، سيتعرف بدوي على فتاة ألمانية من منشن عاصمة الحركة النازية بألمانيا
[4]، حيث كان حبه لها كما يقول ضربة صاعقة، حافلة بالأحاسيس الحارقة والحارة، والوجدانات العارمة، والخيالات الزاهية، فيقول عنها منشدًا بعدما علم بمغادرتها مدينة منشن:
يا ابنة "الايرز" يا أحلى فتاة *** أيــن أنـت الآن؟ آه منـك آه؟
شعلة الحــب التــي أوقـدتـها *** نــورت للقلب أسباب الحيـاة
أين وعد منك خطـته القـبـل؟ *** أيـن عهد بالوفا حتى الأجل؟
أيـما كنــت فقلــبــي ذاكــــر *** متعة عشت بها أحلى المثـل
وحين قامت الحرب العالمية الثانية، ودخلت الولايات المتحدة الأمريكية أوربا لمساعدة الحلفاء في حربهم على دولة ألمانيا، سيستغل الفرصة لإظهار موقفه النازي من أطراف الحرب بشكل أكثر راديكالية وتعبيرًا عن مساندته غير المشروطة لدولة الزعيم الملهم، فعند حديثه عن الخوف والرهاب الذي ألم به حين تذكّره لحبيبته الموجودة تحت رحمة القصف الأمريكي، فهو يقول متهمًا الغارات الأمريكية بالوحشية والجبن، متضرعًا في الوقت نفسه ليحفظ الله حبيبته، ومعها بشكل منطقي ألمانيا النازية: "رحماك يا يوحنا جابلر "yohanna gabller"، وكان الله معك في هذه المحنة الرهيبة، إنّ برابرة هذا العصر، هؤلاء الأمريكيين الذين خلوا من كل وازع إنساني وخلق، يصبون على بلدك الجميل نار عذاب دونه نار الجحيم، وليس في إجرامهم أية شجاعة، لأنّ الدفاع الجوي عن منشن لم يعد له وجود وهؤلاء الجبناء قد استغلوا ذلك لتدمير منشن بوصفها عاصمة الحركة النازية، ولا ارتباط لذلك بأي نصر عسكري"
[5].
بدوي يأبى إلا أن يسجل رأيه، ويقر بموقفه الواضح من النازية، ومن ألمانيا من خلال وصفه لها بالبلد الجميل، وموقفه من دول الحلفاء التي يرفض بدوي بوثوقية المحب لدولة الفوهرر العظيم والرافض لواقع انهزامه، يرفض أن يمنح دول الحلفاء أي اعتراف بأي انتصار عسكري، بشكل يجعله يمتاز على فيلسوف النازية هايدغر الذي استغل إلى حد لا يطاق تقنية التورية اللغوية التي تعذب القارئ قبل أن يظفر منها بفكرة، تورية تتنازعها إيحاءات مشكوك فيها، لأجل تمرير خطابه السياسي النازي الذي جعل أنصاره في موقف قوي للدفاع والذب عنه واستلاله من تهمة مناصرة الفوهرر وسياسته، بالشكل الذي جعل جاك دريدا يكتب دون أن يجد حرجًا كبيرًا، عن هايدغر العظيم ودينه الكبير على دريدا، واحدًا من أهم كتب دريدا "يد هايدغر" "la main de heidegger"، وبالصورة التي جعلت آخرين من مريدي هايدغر من أمثال "f.fédier" في تبريرية عميقة تكاد تجعل القارئ يصدق ألاّ علاقة من الأصل تربط هايدغر بالنازية، وأنّ نسبته إلى النازية هي بالأحرى محل سوء تفاهم فقط، لا يجب الجزم بالاعتراف به، ما دامت أدلة محبيه ومعارضيه متساوية جدًّا.
هذا ويبقى موقف بدوي بعيدًا عن الغموض والإيهام، إنّه واضح جدًّا، واعترافاته لا تقبل أي تشكيك وهروب إلى الأمام، فهو لم يخف تحمسه الكبير في بداية سياسة الفوهرر التوسعية في أوربا، لذا لا يجد بدًّا في وصف مشاعره الحماسية والمرحبة بضم هتلر لبعض الدول الأوربية كالنمسا، بصورة دفعت به إلى الشعور المتحمس بضرورة تعريفه قومه العرب بالفكر النازي، عبر سلسلة مقالات بمجلة "مصر الفتاة"، شارحًا مبادئ هتلر وحزبه النازي وفلسفته السياسية التي يقوم عليها، فقام بترجمة برنامج الحزب النازي وشرحه مستعينًا بكتاب "كفاحي" لهتلر ومطبوعات الحزب النازي التي حملها معه من مدينة منشن
[6].
حاول بدوي وبشكل مكثف من خلال مقالاته المعتنية بسياسة ألمانيا النازية التوسعية وبأفكار الحزب النازي أن يكون محاميًا في الصف العربي عن الفوهرر ودولة الرايخ الثالث، في محاولة فعلية منه للتواصل مع الواقع السياسي العربي عبر منطلق استراتيجي هو ألاّ يكتفي فقط بالتعريف بالفكر النازي في الوطن العربي، بل بخلق إجماع عربي، أو على الأقل مصري اتجاه المشروع النازي الذي يفتخر بدوي بجدوى الدخول فيه وبراهنيته وإلحاحيته، متمسكًا بمصداقية هتلر والنظام النازي إلى الحد الذي يؤكد فيه مفتخرًا أنّ كل مقالاته عن هتلر والنازية في ذلك الوقت كانت بتوقيعه وباسمه الكامل
[7]، بل إلى حد أن قاده إيمانه بمشروع هتلر إلى أن يترجم رسالة حزب "مصر الفتاة" في شأن دعوة هتلر للإسلام من العربية إلى الألمانية.
إنّه ارتماء تام، أعمى ومتعصب في أحضان النازية، وفي أحضان مشروع هتلر السياسي والأيديولوجي، وذلك في نزعة فكرية وسياسية تنتزع من بدوي أي إمكانية للحياد، بشكل جعله يتمنى دخول ألمانيا ومدينة منشن لمشاركة ألمانيا وحبيبته الألمانية، التي أمست تتساوى عنده عاطفيًّا مع ألمانيا نفسها، ليشاركهما محنتهما ونكبتهما التي تعرفانهما مع الغارات الوحشية الأمريكية حيث يقول: "وددت لو كنت بجانبك أشاركك بعض هذه المحنة، لكن هيهات هيهات"
[8]، والمشاركة هنا قد تحتمل حتى حمل السلاح أيضًا لا المشاركة في تحمل الألم، فتحمل الألم يستدعي رفعه، ورفعه يستدعي حمل السلاح ضد الحلفاء، على الرغم من أنّه ليس للعرب في هذه الحرب لا خندق ولا دبابة، وكأنّ بدوي هنا يرى في انتصار هتلر وألمانيا معه لحظة أو علامة مبشرة بالخلاص والانبعاث من جديد، لا باعتباره فاجعة بشرية وانحطاطًا إنسانيًّا مشينًا يرمي بتاريخ الكائن البشري وبمستقبله في درك صراع الأيديولوجيات الواهمة التي أنتجت مذابح النازية بما هي مجزرة للإنسان في حق نفسه.
أكيد أنّ سفر بدوي القصير إلى منشن في ألمانيا، جعله يتوقف طويلاً عند رموز الثقافة الألمانية النازية خاصة التي لها مسافة قصيرة وغير مأمونة مع النازية، كما الأمر مع نيتشه وهايدغر الشيء الذي جعله يكتب فور وصوله مصر كتابه "نيتشه" سنة 1939، ونحن نعلم مع بوغلر Otto Pöggeler إلى أي حد يصدق التساؤل عن ارتباطات نيتشه بالنازية وفلاسفتها بقوله: "ألم يكن هناك [...] مسار يؤدي من نيتشه إلى هتلر؟ ألم يحاول هايدغر 1929، الرجوع مع نيتشه وعبر أعمال مبدعين كبار، إلى التجربة المأساوية للعالم وبالتالي إلى عظمة تاريخية [ لكي ] يعيد للألمان بصيغة جديدة، بداية الفكر الإغريقي، وأفقًا مرصعًا بالأساطير؟"
[9]. ليفتتح بذلك بدوي كتيبه الأول في لقائنا العربي الأول بنيتشه لا عبر إشارات فقط بل عبر كتاب متخصص بقوله: "ها نحن أولاء نضع الآن بين يديك أول صورة من صور الفكر الأوربي، صورة حية قوية فيها عنف وفيها قسوة، وفيها تناقض وفيها اضطراب، وفيها خصب، وفيها حياة، ونحن نعلم مقدمًا أنّك لن تطمئن إليها، وأنّ الكثير من القلق سيساور نفسك بإزائها، ولكن نعلم أيضًا أنّ هذه الهزة هي القادرة وحدها على انتشالك من ظلمة الهوة التي أنت فيها إلى حيث نور الفكر الحر والنظر الصحيح إلى الأشياء"
[10]، وكأنّه هنا يتحدث عن الفكر النازي ككل في قسوته واقتحاميته وحيويته التي مثلتها حربه ضد العالم، والذي يكاد يعتبره بدوي حلاًّ روحيًّا من أجل بناء مستقبل عربي جديد، لأجل ثورة روحية للإنسان العربي على ما أَلِفَ من قيم، وبخاصة وكِتَابَة الكتاب هذا كانت تتم على وقع الانتشاء الكبير بانتصارات دولة الفوهرر على دول الحلفاء، مما جعله يشير في أول فقرة من تصديره العام لكتابه عن نيتشه (1939) إلى الآفاق التي تطرحها تلك الانتصارات فيقول: "لئن كانت الحرب الماضية الحرب العالمية الأولى قد هيأت الفرصة لهذا الوطن كي يثور ثورته السياسية فلعل هذه الحرب الحاضرة (الحرب العالمية الثانية) أن تكون فرصة تدفعه إلى القيام بثورته الروحية"
[11].
إنّه وإن كانت الفلسفة الألمانية هي نتاج تطور الشعور القومي الألماني بإزاء أحلام الأمة الألمانية، فبدوي من جهته وكأنّه فرد من الشعب الألماني، لا ينكر أن كِتَابَةَ مؤلفه البكر "نيتشه" كانت ضمن ظروف الانتصارات الكاسحة للجيش الألماني، والملائمة لقبول الفكر الألماني الرامي إلى صنع القوة والانتصار
[12]، لا عند الألمان وحدهم بل عند الشعوب العربية، وبخاصة بين فئة الضباط العرب، الشيء الذي كاد يصوغ لنا نخبة قريبة من نموذج الزعيم هتلر، إلاّ أنّ النزعة الاشتراكية تغلبت عليها في آخر لحظة، فبدل الأمل في إنتاج هتلر عربي تم إنتاج نظام عسكري تابع للمعسكر الشرقي، خاصة وبدوي يشير إلى أنّ من بين هؤلاء الذين تأثروا بدعوة بدوي النازية عبر كتابه "نيتشه" كان هناك جمال عبد الناصر والسادات اللذين اعترفا بفضل الكتاب عليهما مرارًا
[13]، هذا ويشار إلى أنّ ولع بدوي بنيتشه، والفكر النازي، بما أنّ فيلسوف القوة كان هو السلطة والخلفية المرجعية فلسفيًّا بالنسبة إلى الفكر النازي الرسمي، إنّما هو ولع بمصر أولا، ولع نابع من صميم شعوره بها، وبمكانتها ومكانة العالم العرب في الماضي، وأمله في استعادة هذه المكانة في المستقبل، محاولاً استلهام ما تحاول النازية أن تحققه لوطنها ألمانيا، خاصة وألمانيا بحسب بدوي لم تستعمر مصر ولا أي بلد عربي أو إسلامي، فكان الإعجاب بألمانيا أصيلاً في الشعوب العربية والإسلامية، بشكل لا يضعها في حرج عند استلهام نموذج ألمانيا النازية
[14]، ألمانيا النظيفة اليد من جرائم المستعمرين.
ومن جهة أخرى، فإنّ إحساس بدوي العنيف والعميق بماضي مصر والشعوب العربية هو ما ولد عنده الشعور بما يمكن للعرب بصفة عامة ومصر بصفة خاصة أن يقوما ويضطلعا به ضمن السياق التاريخي والمصير الكوني للعالم وداخلهما، لهذا فتوجهه نحو التراث اليوناني في الحضارة العربية من خلال إصدار كتابه الثاني "التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية" نتلمس فيه هوسًا وهمًّا فلسفيًّا هايديغيريا يعود إلى مُؤَسِّسَات الفلسفة النازية التي تعبر عن نفسها بشكل جلي عند هايدغر في "مدخل إلى الميتافيزيقا" الذي يعتبر فيه الشعب الألماني بمثابة الشعب الميتافيزيقي الوحيد الذي سيخلف الإغريق، والذي ينتظر منه تغيير المصير الكوني، فيصبح الحل في التراث الأوربي القديم والسحيق الذي يجب إعادة تملكه من جديد، ليصير حنين بدوي للتراث اليوناني في الحضارة العربية الإسلامية هو جزء كبير منه من حنين نيتشه ولجوء هايدغر لتلك المغامرة اليونانية السحيقة المعبرة عن الفكر النقي والخالص، لكن مع تغير طفيف بالنسبة إلى بدوي هو تلقي ذاك التراث عن الإغريق بواسطة أسلافه العرب المسلمين، لأجل أن ينبثق عن العرب والمسلمين المعاصرين وعي حاسم بأنفسهم، وبالتاريخ الكوني الأصيل ومن ثمة إمكانية الفعل والحركة فيه، بشكل شجاع وفروسي وفدائي لخلاص الشعوب العربية من نير الاستعمار الأوربي لدولهم، واستعمار التقليد لعقولهم. وبهذا يتأكد لنا أنّ حقيقة النشاط والمذهب الفلسفي لبدوي كان يتم بالضرورة عبر روح الانتماء الأيديولوجي الذي صاغ حقيقته بدوي بشكل واضح، في مثال صريح عن الوحدة بين الأعمال الفكرية وحياة المفكر، بشكل يلغي قولة هايدغر أرسطو ولد ومات، ويؤكد مقولة كارل ياسبرز عن ارتباط بين نمط عيش الفيلسوف ومواقف حياته وعمله الفلسفي.
إنّ الحماس السياسي والفكري الذي عبر عنه بدوي من أجل دعم الـ Führer هو الذي قاده إلى أن يكون واحدًا من أوائل المتهيدغرين العرب، فدراساته الوجودية عن الموت والزمان الوجود والتي أتت مباشرة بعد زيارته لألمانيا هي من صميم إيمانه العميق بالعلاقة التي تربط الهايديغرية بالنازية، فالاختيار الهايدغري كان لصالح النازية وقائدها، بشكل يذهب بفلسفة صاحب "الكينونة والزمان" إلى أبعد من التوافق العرضي مع الايديولوجيا النازية ومع برنامج الحزب النازي، بل إلى كونها تحمل وطنية مكشوفة ومتواطئة مع أهداف تلك الإيديولوجيا وأغراضها الشيء الذي يجعل بدوي مؤمنًا إلى حد بعيد بالجانب الألماني من الوجودية في صيغتها الهايديغرية ومنكفئًا بشكل ملفت عن جانبها الفرنسي منها، فسارتر الذي ترجم له بدوي كتابه "الوجود والعدم"، وجده بعيدًا كل البعد عن وجودية هايدغر، معتبرًا كتابات سارتر عن الوجودية مجرد خليط من التحليلات النفسية، نافيًا عنه أي إسهام يذكر في تطوير المذهب الوجودي
[15]، ليقصم ظهر سارتر ومنزلته بِعَدِّه له مجرد أديب وباحث نفساني لا غير، دون أن يثبت له أبدًا أن يكون فيلسوفًا وجوديًّا أصيلاً
[16]، بل ولا يجد عيبًا في انتقاد فلاسفة لم تكن لهم علاقة مباشرة بالنازية من مثل الفيلسوف الوجودي الألماني كارل ياسبرز (1883-1969) الذي كان بدوي شاهدًا على بعض محاضراته في جامعة بازل، فيصف طريقته في الشرح بأنّها مُمِلَّة، وصوته فيها بأنّه كان خافتًا وخفيفًا، يبعث على النوم، خاصة مع قراءاته الملازمة لكراسته التي دون فيها محاضرته، الشيء الذي جعل محاضرته لا تتجاوز في حضورها عشرة طلبة إلى جانب زوجته التي لا يتركها بدوي بسلام هي الأخرى ليذكر الفروق والفوارق التي تجمعها بزوجها، من كونها يهودية في حين كان هو مسيحيًّا، وكانت تكبره بأربع سنوات في حين كان هو يصغرها
[17].
نازية بدوي بالتأكيد صارت حقيقة لا يطالها الشك، خاصة مع سيرته التي نشرت قبل عامين من وفاته، والتي يؤكد فيها نسبته التامة إليها، وأنّ الهوى الألماني الذي استبد واستحكم به هو الذي جعله يؤكد في ابتهاج وأنفة أنّ اسمه صار مرادفًا ومرتبطًا بكل ما هو منتمٍ للثقافة الألمانية في الوطن العربي
[18]، نظرًا لاتصاله كما قال ـ بالثقافة الألمانية، والطبيعة الألمانية، والروح الألمانية، والسياسة الألمانية اتصالاً حيًّا، وعميقًا وندّيًّا، جعله ينفذ إلى الحضارة الألمانية من الباطن، ويتعاطف معها بإدراك وَاعٍ ويتفاعل مع تياراتها على طول تاريخها، فأصبح مولعًا بالموسيقى الألمانية وبخاصة موسيقى ريتشارد فاجنر (للإشارة فموسيقى فاجنز لها موقعها الخاص عند النازية)، والتي صارت ملاذه حين تَسْوَدُّ الدنيا في عيونه
[19]، والأكثر من هذا يمعن بدوي في تأكيده ذاك، على أنّه لم يكتف بتكوينه النازي سياسيًّا وفلسفيًّا في ألمانيا، بل ويشير إلى كونه قد تربى في وسط أشد ما يكون قربًا إلى ألمانيا وأمجادها، فيذكر أبياتًا لصاحب كُتَّابِ قريته، يمجد فيها بطولات ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وإمبراطورها غليوم مطلعها:
إليك "غليوم" ألمانيا وبهجتها
مِنِّي ثناءٌ بختمِ المِسْكِ أهديه
ومدَّ شَعْبَ فَرَنْسا بالدَّمار فَهُمْ
مُحَلِّلُو الفِسْقِ جَهْراً في نَواديه
بِالهَاونِ الضَّخمِ والبالونُ يتبعه
(...).
إنّ انبهار بدوي بالفوهرر، وبدولته ألمانيا النازية، ليس بالموقف النشاز في تاريخ الفلسفة، إذ أنّه يذكرنا في تاريخها بنماذج لفلاسفة كان يستبدهم الإعجاب مرة برموز القوة والتمكن في الأرض، دون أن يتصفوا حتى ببعض الحياد الأخلاقي، على الرغم من معرفتهم أن لا مكان لهم بجانب المتسلط وفي دولته، فالأخير لا يستهويه العقل وقدراته الحكمية بقدر ما تستهويه النفس الغضبية ويستلذ بقهرها وقوتها، فهيجل مثلا الذي يصفه ميرلوبونتي بأنّه هو أساس كل ما يحصل من أشياء مهمة في الفلسفة كان شديد الإعجاب بنابليون الذي غزا بلده ألمانيا، بالرغم من اقتحام جنوده لبيت هيجل نفسه، الشيء الذي جعله يترجّاهم ويستعطفهم ليعاملوا عالمه الألماني البسيط معاملة رحيمة وطيبة
[20]، ودون أن يحقد على نابليون وإنما تمنى نجاحه في اجتياح أوربا ليقول عنه قولته الشهيرة: "رأيت الامبراطور روح العالم على حصان".
وقبل هيجل كان هناك سقراط الحكيم الذي لم يكن يخفي إعجابه بدولة إسبرطة ونظامها الديكتاتوري الصارم، على الرغم من أنّ إسبرطة لم يكن بها مكان لسقراط أو أمثاله، بل وبلغ به إعجابه بالأنظمة العسكرية حدّ أنّه لم يتخذ أي موقف واضح تجاه الانقلاب الذي قاده كريتاس وخارميدس وهما من أقارب أفلاطون وتلميذاه أيضًا، ولم يحتج مطلقًا على عمليات الإعدام التي كانت تتم دون محاكمة لبعض الأغنياء لأخذ أموالهم لدفع نفقات الفرقة الإسبرطية التي احتلت أثينا
[21]، وفي تكرار غريب وعجيب لما سبق لا يتخذ بدوي هو الآخر باعتباره أول فيسلوف مصري، كما يصفه طه حسين، أي موقف ضد جرائم المنظمات العسكرية فرق الدفاع النازية الـ SS والـ SA، بل ويصفها بأنّها كما كل الشعب الألماني غاية في الأدب وحسن المعاملة، وهذا ما شاهده بعينه حين اختلاطه بأفرادها في الحانات والمراقص في ألمانيا
[22]، لذا ولهذا فإنّه لا يجد بدًّا، ولا حرجًا في نفي أي أعمال عنيفة للنازيين ضد اليهود، وعوض ذلك يصف أخبار التعذيب والاعتقال التي كانت تتم ضدهم بأنّها مجرد أكاذيب عن اضطهاد مزعوم لا دلائل تثبته
[23]، وذلك وفق تقليد فكري متشبع بفكرة التغطية عن طبيعة النظام النازي الذي انقاد نحوه بدوي في بدايات حياته الفكرية والايديولوجية ودون أن يتمكن بتاتًا من التحرر منه حتى في آخر حياته التي مثلتها سيرته المطبوعة قبل عامين من وفاته والتي لم ير فيها مبررًا للإقرار بذنب مناصرته لهتلر والنازية معه.