01 مايو 2014 بقلم
يوسف هريمة قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:حين يسترجع الإنسان تاريخ الفلسفة الفرنسية، لا بدّ أنْ تستوقِفه أسماءٌ كثيرةٌ خلّدها التّاريخ القديم أو المعاصر، ورسمَت معالم مدرسة فرنسية لها طابعُها الخاصّ، وإنتاجاتها الإبداعية شاهدة على ذلك. فحينما نستقرئ هذا التّاريخ الطَّويل، لا بدّ أنْ تطالعنا كتابات غوستاف لوبون، وهو واحدٌ من بين أبرز الفلاسفة المعاصرين الذين كتبوا في حقول معرفية مختلفة كعلم النّفس الاجتماعي، والفلسفة والتّاريخ والأنثروبولوجيا. فكانت كتاباته بحقٍّ تطبعُ مرحلة النّصف الثاني من القرن التاسع عشر والنّصف الأوّل من القرن العشرين. (1931/1841)
كتاب "روحُ الثّورات والثّورة الفرنسية"، محور تقديمنا، يُعدّ إتماماً وتكميلاً لما كتبه لوبون في سيكولوجية الجماهير. نقل الكتاب إلى اللّغة العربية عادل زعيتر، وهو من المترجمين لكتب غوستاف لوبون، ترجم له مجموعة من الأعمال من بينها الكتاب قيْد الّتقديم. تمَّ نشر الكتاب من طرف كلمات عربية للتّرجمة والنشر في 200 صفحة. وتمَّ تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء رئيسة، تحوي بدورها مجموعة من الأبواب تضمّ مجموعة من الفصول، إضافة إلى مقدّمتي المترجم والمؤلّف.
يبدأ غوستاف لوبون كتابه بالجزء الأوّل، وقد عنونه بـ"روح الثّورات"، ويستهلُّ الحديث فيه عن أقسام الثّورات سواءٌ العلمية أو السّياسية، ويستفيض بالتّحليل كعادته، فيحدثنا عن أنّه بالرّغم من أنّ أصل الثّورة هو العقل، فإنّ الأسباب التي تهيئها الثّورة لا تؤثّر إلاَّ بعد أنْ تتحَّول إلى عواطف. وهذا كلام مبنيٌّ على سيكولوجية الجماهير التي تُدار ويؤثّر فيها الوجدان والعواطف، أكثر مما يؤثِّر فيها الجانب العقلي. فالجماعة حسب لوبون: "تُتِمُّ الثّورة ولا تكُون مصدرها، وهي لا تقدر على شيء ولا تريد شيئاً إنْ لم يكن عليها رئيس يقودها". (ص27)
إنّ الثّورة العلمية أكبر من باقي الثورات، لكنّها لا تثير اهتمام النّاس، بالقدْر الذي تثيره باقي الثورات، خاّصة الثورات السّياسية التي تنشأ عن معتقدات تأصّلت في النّفوس، شأنها شأن الثّورات الدينية. لكن قد تنشأ عن عوامل أخرى عبّر عنها لوبون بكلمة الاستياء. فمتى عمَّ هذا الاستياء تألَّف حزبٌ قادر على مكافحة الحكومة. فعمق الثّورات السّياسية هو ما تفرزه من نتائج. والمنتصر في الثّورة السياسية ينظِّم المجتمع وفْقَ مصالحه، ويسُنُّ القوانين التي تخدم جماعته، وهذا هو منشأ الصّراع ومنطلقه، حين يبدأ النّظام المنتصر بتقويض القديم، واضطهاد عناصره. وإنّ واقع الثّورة الفرنسية وغيرها من الثوّرات يؤكد ما أشار إليه لوبون في تحليلاته للثّورات السّياسية.
ينتقل بنا الكاتب إلى تحليل عناصر الثّورة الدِّينية خاصّة في شقِّها الإصلاحي، كالثّورة التي قادها مارتن لوثر، فيقول إنّ أحوال ثورة الإصلاح تشبِه إلى حد بعيد الثّورة الفرنسية، خاصّة في الجزء النفسي: "فقد رُئي في هاتين الثّورتين أنّ شأنالعقل ضئيل في انتشار المعتقد، وأنّ الاضطهادات فاقدة التأّثير، وأنّ تسامح المعتقدات المتباينة مستحيل، وأنّ أشدّ المظالم والملاحم يصدُر عن تصادم العقائد المختلفة، وأنّه يستحيل تبديل عقيدة النّاس قبل تبديل كيانهم" (ص32). لمْ يتوقَّف لوبون عند هذا الجزء من التّحليل النّفسي، بل أكّد على أنّ انتشار الإصلاح الدِّيني لمْ يكنْ وليد البراهين والعقل، بل تحكّمت فيه عوامل أخرى كالتّوكيد والتّكرار والعدوى النفسية والنّفوذ، وهو الشيء نفسه الذي حدث إبّان الثّورة الفرنسية. فالحقيقة صادمة حسب تحليل غوستاف، فالثّورات الدّينية أو الثّورات القوية كما يسمّيها، تفرز لنا صراع المعتقدات، واستحالة التّسامح. تحت هذا العنوان ينحت لنا الكاتب واقعاً مريراً يتجلّى في عدم تسامح المعتقدات القوية، "فإذا نظرنا إلى المعتقدات التي شطّرت فرنسا زمنًا طويلًا رأيناها لا تختلف إلّا في الأمورالثّانوية، فالكاثوليكي والپروتستانتي إلههما واحد، ولا يختلفان إلاّ في كيفية عبادته، ولوكان للعقل شأن في صوغ معتقدهما لأراهما أنّ الله لا يبالي بالصّورة التي يُعبد عليها" (ص35). لمْ تكن كلّ نتائج الثّورات الدينية سلبية، بل كان فيها ما يعزّز قيم الخير، وتقويم النّاس، وتهذيب الأخلاق، وخير مثال على ذلك حسب لوبون، هو ثورة "مُحمّد" فقد حوّل قبائل العرب الضّعيفة إلى أُمَّة عزيزة. (ص38)
يستقصي لوبون التّاريخ، فيحكي لنا من خلاله لحظات طويلة تميِّز شأْن الحكومات في الثّورات وأهمّ ملامحها، فيبدأ بضعف مقاومة الحكومات في الثّورات، هذا الضّعف سببُه فجئيّة الثورات ومباغتتها، كما حدَث في فرنسا وإسبانيا وبلجيكا. وقد يحدُث أنْ تنتصر بعض الحكومات في بعض الثّورات كحال الصّين وتركيا: "فالحكومة تنجح عندما تكون الأمّة التي ترغب أنْ تكرهها على أنظمة جديدة مؤلّفةمن قبائل وحشية خالية من القوانين الثابتة والتّقاليد الرّاسخة، أيْ من روح قومية قوية،ومن أمثلة ذلك روسيا أيّام بطرس الأكبر الذي حاول أنْ يفرنج الرّوس، واليابان مثالآخر للثّورات التي قامت بها الحكومات، ولكن طرق اليابان الفنيّة هي التي تغيّرت، لاروحُها القومية." (ص41)
إنّ شأن الأمّة في الثّورات يضفي عليها مجموعة من الخصائص لخصَّها غوستاف لوبون في خاصيّتين: 1- ثبات روح الأمة ومرونتها 2- الشّعوب لا تدرك معنى الثّورة ومغزاها إلا عبْر الزّعماء الذين يحرِّكونها.
في الباب الثّاني، يحلّل لوبوننفسيات النّاس أيّام الثّورات، وهي خصائص نفسية مشتركة لكلِّ الثّورات بكل أنواعها: 1- تحوّل الشخصية 2- الحقد 3- الخوف 4- الحرص والحسد والزهو 5- الحماسة. أمّا النفسيات التي تسود الثًّورة، فهي كثيرة بدءاً من النّفسية الدينية، إلى النّفسية اليعقوبية، وهو مصطلح نحته لوبون للدّلالة على تيّار كان يزعم استخدام العقل أيّام الثورة الفرنسية. إضافة إلى النّفسية الثّورية، والنّفسية المجرمة. فكما أنّ هناك نفسيات متعدِّدة، فإنّ هناك بالمقابل خصائص متعدِّدة تطبع روح الجماعات في الثّورات، ولعلّ أهمّ هذه الخصائص تغلُّب اللاّشعور الخاضع لأحكام منطق خاص يُسمَّى منطق الجماعات، وسرعة الانفعال والتأثّر. فالإنسان، وهو جزءٌ من الجماعة، يهبط كثيرًا من سلَّم الحضارة، فتصدُر عنه عيوبالشَّراسة ومزاياها؛ أيْ أنواع الظُّلم والاستبداد وأنواع الحماسة والبطولة، فالجماعة وإنْكانت من الجهة العقلية أدنى من الرّجل المنفرد قد تكون أسمى منه شعورًا وخلقًا،ويسهل عليها أنْ تقترف إثمًا كما يسهل عليها أنْ تضحِّي بنفسها (ص72). كما أنّ من أهم النتائج التي تنشأ عن تأثير الجماعة في أفرادها هي توحيد مشاعرهم وعزائمهم.
في الجزء الثاني يخصِّص لوبون كتابه للثَّورة الفرنسية، ويبتدئ حديثه عن المآخذ على الثَّورة الفرنسية من خلال ما كتبه المؤرِّخون حولها. فالتّفسيرات حول هذه الثّورة متضاربة، فهناك من أعداء الثّورة ومناصريها من نحا نحوَ تفسير أحداثها بأنَّها لا تعدو أنْ تكون قضاءً وقدراً، كما هي حال كل الثَّورات. وهناك من يرجعها إلى مبادئ النّظام السّابق خاصّة في شقِّ الملَكية المطْلَقة، والمفاسد التي تميَّز بها الوضع في حكمها على جميع المستويات.
يركّز الكاتب على معطى مهمّ، وهو يتناول بالتحليل الجانب النّفسي للثّورة الفرنسية، فيقول: إنَّ "ما تأتي به الثّورات من الحوادث الظاهرة هو نتيجة نشوء خفيٍّ وقع في النفوس شيئًا فشيئًا، وإلى أنّ البحث الدّقيق في إحدى الثّورات يتطلَّب فحص البقعة النفسية التي نبتت فيها مبادئ هذه الثّورات". فتأثير الفلاسفة في حدوث الثّورة الفرنسية جليٌّ في كونهم ينمُّون روح الانتقاد التي لا تصمدُ معها المعتقدات، فنمُوُّ هذه الرُّوح تجعل النّاس يزدرون ما كان محترماً، ومتى اضمحلّت المعتقدات سقط البنيان الاجتماعي بغتة.
تتشعَّب المؤثّرات النّفسية للثّورة الفرنسية من عناصر نفسية واجتماعية ودينية، وكلّ واحد منها تابع لمنطق خاص. فعندما تغلغلت الثّورة الفرنسية اضمحلَّ عمل العقل، وحلّ مكانه الوجدان والعاطفة، وربّما كان العامل الدِّيني من أهم تلك المؤثِّرات، فلا يمكن إدرك الثّورة الفرنسية، إلاّ إذا اعتبرنا تكوِينها مثل تكوين الثّورات الدينية كثوْرة الإصلاح الديني مثلًا. لم تكن الثّورة الفرنسية بمعزِل عن الظّلم بالرّغم من رفعها لمبادئ وقيم إنسانية، فشأنها شأن كلّ الثّورات خاصّة الدينية. فكلّ انتصار لثورة يعني عدم التسامح مع المخالف، كما تشهد على ذلك فصول التاريخ من نوع محاكم التفتيش والحروب الدينية ومذبحة سان بارتلمي وإلغاء مرسوم نانت واضطهاد الپروتستانت في جنوب فرنسا واضطهاد أنصار جانسينيوس،فهذه أمور صدَرت كلُّها عن منبع نفسيٍّ واحد. (ص136).
في الجزء الثاّلث يعمِّق لوبون تحليلاته النفسية والاجتماعية للثّورة الفرنسية، فيتحدّث عن نشوء المبادئ الثّورية في الوقت الحاضر، ويقول: إنّ "الثورة الفرنسية استمرّت وقتًا طويلًا، ولا تزال مستمرّة، وذلك مع ملاحظة بضع فترات وقعت، ولم يقتصر تأثير ناپليون على قلب العالم وتغيير خريطة أوربا وتجديدأعمال الإسكندر؛ بل كان لحقوق الشّعب الجديدة، التي أعلنتها ثورتنا الكبرى وثبَّتها ناپليون في أنظمة وقوانين، تأثير عظيم في كلّ مكان، وقد عاشت هذه الحقوق الثّورية التي أعان ناپليون على انتشارها، بعد زوال ملكه" (ص178). فميراث الثّورة الفرنسية يمكن اختزاله في ثلاثة أشياء: الحرية والمساواة والإخاء، وهي مبادئ ما زال الكثير من السّاسة يستعملونها في خطبهم ومحاضراتهم.
إن ما بيّنه لوبون في فصول الجزء الثالث كان ينحو إلى فكرة عبَّر عنها بصراحة حين قال: إنَّ السُّنن الطَّبيعية لا تلائم المبادئ الدّيمقراطية. فلم يقتصر ميراث الأجيال الحديثة على المبادئ الثّورية، بل اشتمل على النَّفسية التي أوجبت انتصار هذه المبادئ أيضًا. إنّها الرّوح اليعقوبية كما يسمِّيها لوبون، فهي التي تميل إلى إكراه النّاس على قبول أوهامها التي عدّتْها حقائق، وعمّت فرنسا وباقي البلدان اللاتينية الأخرى.
إنّ ما طرحه غوستاف لوبون في كتابه روح الثّورات أو سيكولوجية الثّورات، يصلُح لأنْ يكون مفتاحاً نلج به إلى تحديث نظرتنا إلى واقعنا. فالتّحليل النفسي للثّورة الفرنسية هو نموذج يمكنُ تعميمه على سائر البلدان التي تعرف ثورات وأشكالًا من الاحتجاجات خاصّة في واقعنا العربي؛ فالذي لا ينفذ إلى عُمق أو روح الثّورة ونفسيتها لن يستطيع أنْ يبني إلاّ وهماً للثورة. فلهذه الأخيرة روح ونفسية وخصائص يذوب فيها الفرد في الجماعة، ويصبح التّفكير جماعياً أو جماهيرياً. ويضمحلُّ فيها العقل، ليحلّ مكانه كلّ ما هو وجداني عاطفي.