05 مايو 2014 بقلم
مصطفى أيت خرواش قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:ما زال الإنسان مقهوراً بين صراع كلّ من العقل والدين، فلقد حدث أن انتصر الدين أحياناً فصارع من أجل تنشئةالإنسان الأخلاقي، وحدّد مصيره، ورسم حدوده، وأجاب عن أسئلته الوجودية. كما حدث أن انتصر العقل على الدين وتضخّم القانون الوضعي، وصار الإنسان سيّد نفسه، وذلك بالاستجابة لمعايير العقل الصارمة والموضوعية. لقد شكلت هذه العقدة صلب المحادثات الفلسفية قديماً وحديثاً، وتنوعّت المقاربات الفلسفية لموضوع الحرية الإنسانية؛ بين الحرية التي يمليها العقل الطبيعي، وبين الحرية التي يفرضها العقل الوضعي. وبالتالي، كانت الإجابات التي حازت على تأييد البرهان والمنطق والمحاججة هي المالكة لحقوق التنشئة الإنسانية والفارضة لنمط عيش الإنسان في ظل تدبير منطق العقل ومنطق الدين. إنّ تطور الحضارة الإنسانية الحديثة الذي بدأ منذ الثورة الصناعية وعصور النهضة والتنوير وصولاً إلى عصور الحداثة وما بعد الحداثة، جعل من العقل البرهاني المنطقي الأداة التي تفرز سياقات تطور الإنسان، وجعل من الدين تابعاً لإملاءات العقل وشروطه ومحدداته. ماذا حدث الآن؟ هل ما يسميه بعض المفكرين والفلاسفة "فشل العقل الذريع" أمر حقيقي أم مجرد أوهام فلسفية لا غير؟ هل استطاع الإنسان فعلاً ـ عبر عملية العلمنة ـ أن يتجاوز العقل الأخلاقي، أم حدد فقط مسافاته المعقولة في علاقته بالعقل العملي؟ هل فشلت الفلسفة فعلاً، وهي تتصارع مع الدين، في إنشاء حضارة تتمثل قيم العدل والتسامح والحق والسلم والحرية؟ هل آن الأوان لتصالح الديني مع العقلي وإنشاء حضارة أكثر تعايشاً وتسامحاً من التي نعيشها الآن؟
ذلك هو صلب المحادثة الفلسفية التي جمعت بين الفيلسوف الألماني "يورغن هابرماس" ممثلاً للعقل في الغرب، وبين أحد أعمدة الكاثوليكية الأوروبية الكاردينال الألماني "جوزف راتسنغر"، وقد تمّت هذه المقابلة الفلسفية بالأكاديمية الكاثوليكية بميونيخ سنة 2004. وجمعت هذه المحادثة في الكتاب الذي بين أيدينا، وعنوانه: جدلية العلمنة، العقل والدين، والذي ترجمه إلى اللغة العربية الباحث حميد لشهب عن دار جداول للنشر والترجمة والتوزيع بلبنان سنة 2013. وقد دار اللقاء ـ كما أكد المترجم - حول الأسس الفكرية لمجتمع يحصن الكرامة الإنسانية. فحين وجد هابرماس هذه الأسس في العقل العملي للفكر ما بعد الميتافيزيقي العلماني، فإنّ رايتسينغر وجدها في الإنسان، كونه مخلوقاً من طرف الله. إنّ ما يجمع هذين المفكّرين هو السؤال نفسه: كيف السبيل لتجاوز فشل المنظومات التفسيرية لجدل الإنسان في علاقته بكلّ من العقل والدين؟ وأيّة صيغة يمكن التوافق عليها من أجل تدبير العلمنة بشكل أكثر تسامحاً وعدلاً يجعل الإنسان غير مستلب لطغيان العقل على الدين أو العكس؟
عنون الفيلسوف "هابرماس" مداخلته بالشكل التالي: الأسس قبلالسياسية للدولة الديمقراطية القانونية، حيث استهلها بالتأكيد على استعداد الفلسفة للتعلم من الدين، وبأنها واعية بما فيه الكفاية بتعرضها للخطأ وبوضعها غير القار في المجتمع الحديث.
ترجع الإشكالية التي يطرحها هذا الموضوع إلى ستينيات القرن الماضي، إذ تطرح المعادلة التالية: ألا تتغذى الدولة العلمانية الحرة من فرضيات معيارية لا يمكن أن تضمنها هي نفسها؟ وتتضمن هذه المعادلة ـ كما يؤكد هابرماس- شيئين اثنين: الأول هو الشك في إمكانية تجديد الدولة الديمقراطية الدستورية شروط وجودها المعيارية عن طريق إمكانياتها الخاصة، والثاني هو الاعتقاد بأنّ هذه الدولة في حاجة إلى تصورات قديمة للعالم أو تصورات دينية، وهي في كل الأحوال تصورات أخلاقية جماعية موروثة.
يُقدّم هابرماس تصور الليبيرالية السياسية - التي يدافع عنها في الشكل الخاص للجمهورية الكانطية- للأسس المعيارية للدولة الدستورية الديمقراطية التي هي أسس غير دينية وغير ما بعد ميتافيزقية، حيث يكون الأساس فيها الدستور الذي يوضع بمشاركة المواطنين، والتي تحكمها القوانين العقلية المستقلة عن أي وحي ديني وميتافيزيقي. لذلك، فإنّ هابرماس يعتقد أنّ الطبيعة العلمانية للدولة الدستورية الديمقراطية لا تتضمن أيّ ضعف داخلي في نظامها السياسي، يمكنه أن يهدد من وجهة نظر عقلية أو عاطفية استقرارها الخاص. لكن نظريات ما بعد الحداثة تحمل آليات هدمها في ذاتها ومن داخلها كنتيجة منطقية لبرنامج العقلنة المجتمعية والروحية. لذلك، يظهر اليوم من جديد صدى نظرية تؤكد أنّ الدين وحده هو الذي يمكنه أن يساعد الحداثة المتكسرة بتأسيسها على أساس متعالٍ من أجل إخراجها من المأزق الذي توجد فيه.
إنّ الخطاب الفلسفي حول جدل العقل والدين ـ كما يؤكد هابرماس-، ينطلق من مسلمة أنّ العقل يكتشف في عمقه العميق أصله في جذور مغايرة له، ويجب عليه لكي لا يسقط في تمجيد قوة الذات لتوجهه العقلاني أن يعترف بجذوره الأصلية. ويمكن لهذه الجذور أن تتوحّد في العقل الأخلاقي المتسامح مع قيم العلمانية نفسها والمتحيز للعقل الديني كأصل جوهري تتفرّع عنه مختلف أنواع العقول الفرعية. هذا لا يعني أنّ الدين استطاع في مجتمع ما بعد العلمانية أن يفرض نفسه بقوة، بل هو استطاع النجاح في صيرورة اندماجه في المجتمع الحديث. لكن على الدين ـ كما دعا إلى ذلك هابرماس- التخلي عن احتكار السلطة والتأويل وتنظيم الحياة الشاملة نظراً لشروط علمانية العلم وحياد سلطة الدولة والحرية الدينية الشاملة.
أمّا الكاردينال راتسينغر، فقد عنون مداخلته كالتالي: ماذا يوحّد العالم؟ أسس الحريّة ما قبل السياسيّة لدولة حرّة، حيث أكد أنّ الأساس الجوهري الذي يعبّر عن الشكل الجيد للنظام السياسي الديمقراطي هو ضمان المشاركة الجماعية في وضع القانون وفي التسيير العادل للسلطة. ومن ثم يكون القانون ممثلاً للجميع وضامناً لحقوق الجميع، وليس قانوناً طائفياً يخدم مصالح أقليّة على حساب أغلبيّة أو العكس. لكن راتسينغر عرّج على أكبر تحدٍ لدولة القانون، وهو خطر الإرهاب. وهنا يتساءل: ألا يجب أن نضع الدين تحت رقابة العقل ونحدّ من سلطة الأوّل بدقة؟ وهل يمكن اعتبار إزاحة الدين وتجاوزه كتطور ضروري للإنسانية لتصل إلى طريق الحرية والتسامح الكوني أم لا؟ وفي الوقت نفسه، ألا يجب أن نضع العقل أيضاً تحت الرقابة والوصاية مادام هو من أنتج القنبلة النووية والاختيار الجيني؟ أو: ألا يجب على كلّ من الدين والعقل أن يتكاملا، وأن يلتزم كلّ واحد منهما بحدوده للوصول إلى طريق إيجابية مشتركة؟
أسئلة عميقة ومحيّرة طرحها راتسينغر، لكي يؤكّد أنّ العقلانية الغربية تعبت، كما ذهب إلى ذلك كارل سميث ومارتنهايدغر وليفي شتراوس، وأنّ المعادلة الأخلاقية التي يمكن أن يتّفق عليها ويقبلها العالم غير موجودةحالياً، لذلك فقد دعاإلى ضرورة انقياد العقل من جديد إلى حدوده، وأن يكون مستعداً للإنصات للوحي الديني للإنسانية. ومن ثمّ، يمكن بناء علاقة متبادلة بين العقل والإيمان توفّر إمكانية الاعتراف المتبادل ببعضهما بعضاً.
إنّ هذه المحاورة الشّائقة، ما بين أحد رموز المدرسة العقلية الحديثة وأحد رموز المدرسة الدينية المعاصرة، تُعتبر دليلاً آخر على فشل الشجار الأبدي بين الفلسفة والدين، كما تعتبر دليلاً على نضج العقل والدين، وهما يحاوران بعضهما بعضاً من أجل الخروج من أزمة ما بعد الحداثة، أو كما سمّاها هابرماس ما بعد العلمانية. لقد نفد صبر الإنسان، وهو يرى بتمعّنٍ عجيب ما آلت إليه صيرورة العقلنة للفكر البشري الذي حمل في طياته قيمة الفشل والفوز، الفتك والبناء، الحوار والعداء، التسامح والكراهية. لكن الفلسفة على الأقل ساهمت في بناء تصوّر حدّ أدنى من الموضوعية العقلية، كما ساهم الدين في بناء حدّ أقصى من الموضوعية الأخلاقية، فكان أن انقلبت هذه الأدوار، حتى صار بناء فضاء التكامل والتسامح أمراً مستحيلاً. إنّ العلمانية هنا تتزحزح طولاً وعرضاً عن المحدّدات الجوهرية التي قامت عليها؛ أي تحديد كُلّ من حرية العقل والدين جنباً إلى جنب مع حدود هذه الحريّة تحت رقابة القانون والديمقراطيّة. إنّ تفادي جميع أنواع التضخّمات التي يمكن أن يسقط فيها العقل والدين تباعاً، مرهون بتحديد مسافاتهما انطلاقاً من إملاءات الحق الطبيعي والواجب الأخلاقي والقانون الوضعي وسيادة القانون الديمقراطية.