17 فبراير 2015 بقلم
عبد السلام بنعبد العالي قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:المدّ الفلسفي الذي طوّرهذا المفهوم هو المدّ التجريبي، وخصوصا عند الفيلسوف دافيد هيوم، كما أوضح ذلك جيل دولوز في كتابه الأساس "التجريبية والذاتية". وفق المنظور التجريبي الكائنات علائق و"بيْنِيات" لا تحيل إلى أطرافها المكوّنة. العلاقة هنا هي الأصل في الذات، وليس العكس. العلائق هي ما يُوَلد العناصر، وليست هي ما يتولد بيْن العناصر. فلا شيء يتحقق بذاته، كل عنصر يتولد عما يتجاوزه. ولا وجود لكل موحِّد. كل ما يوجد هو الانفتاح اللانهائي وحركة التداخل والتعدد التي لا تنقطع.
هنا يغدو الكائن ترابطا ظرفيا حركيا لا يخضع لأيّ مبدإ قار، وتصبح الهوية مفهوما ثانويا، أعني يأتي ثانية، ما دامت علاقة بين أطراف.
القول بالتعددية إذاً، لا بد وأن يجر إلى إعادة النظر في مفهوم الهوية. ولن يعود الاختيار مطروحا بين الهوية ونفيها، وإنما بين هوية مفتوحة على إمكانات متعددة، وأخرى محددة تحديدا أزليا. ستغدو الهوية هنا جمعا يقال على المفرد. إنها، على حد قول دولوز، تركيب جغرافي، وليست نشأة تاريخية.
ليست المسألة الأساسية إذاً تحرير المتعدد، وإنما توجيه الفكر نحو مفهوم متجدّد للواحد. وليس التعدّد هو ما يقابل الوحدة، وإنما ما يقابل الكثرة.
الكثرة هي تعددية "الكم المنفصل"، وهي تعددية حسابية لكونها تقوم أساسا على آلية توليد مجموعة الأعداد الطبيعية نفسها، وأعني عن طريق إضافة وحَدة إلى الوحَدات، إضافة صوت إلى الأصوات، لغة إلى اللغات، رأي إلى الآراء، حزب إلى الأحزاب.
فإذا كانت الكثرة تقوم على مفهوم الوحَدة وتنحل إلى "تعداد"، إذا كانت الكثرة كثرة من الوحَدات، فإن التعددية تروم خلخلة مفهوم الوحْدة ذاته، وتفكيك الثنائي وحدة/تعدد. الكثرة كثرة "خارجية". أما التعددية، فتقيم "داخل" الوحْدة، فتجعل الاتصال ينطوي على انفصال، والوحدة تشمل حركة وتضم أطرافا. فليست علاقة الوحْدة بالتعدد كعلاقة الكل بالأجزاء، أو المجموع بمكوناته، وإنما كعلاقة الهوية بالاختلاف.
التوحيد في الكثرة توحيد اختزالي، يُرجع العناصر جميعَها إلى عنصر أساس، و يردها إليه و"يختزلها" فيه (كما تختزل الكسور في الحساب)، حيث لا تغدو العناصر الأخرى تفردات تقوم جنبا إلى جنب، وإنما مشتقات تنبع من مصدر، وفروعا تصدر عن أصل (هو الكسر المختزل في الحساب). هذا التوحيد اختزال، لأنه يميّز في الكثير بين أصل وفروع، بين مرتبة أساس ومراتب ثانوية، فيرد هذه إلى تلك.
أما التعددية، فبما أنها ليست حسابية ولا تنتمي لعلم النظام، فإنها لا تجعل عناصرها "تنتظم" في مراتب، وإنما "تمتد" في فضاء يترك لكل عنصر نصيبه من التميّز، ويسمح للتفرّدات بنصيبها في الوجود. ها هنا تكون الوحدة من الحيوية، حيث تستطيع أن تستوعب التعدّد، ويصبح التعدّد مفهوما باطنيا "يصدّع الوحدة ويضم أطرافها"، فيغدو إنسان التعددية ليس ذاك الذي يحمل عدة جوازات، ويتكلم عدة لغات، وإنما ذلك الكائن السندبادي الذي "يوجد" بين لغات، وبين ثقافات.
لا يعني التعدد إذاً التوالد اللامنقطع؛ ففي المجال السياسي على سبيل المثال، ليس المهم تكاثر الأحزاب وتوالدها، المهم أن يكون الحزب من الحيوية، حيث يستطيع أن يستوعب تعدد الأصوات والآراء. التعددية مفهوم باطني، وليس مفهوما خارجيا. وقوة الحزب وتعدديته هو أن يمكنك من أن تقيم "فيه" مخالفا، وليس خارجه منافسا.