18 أبريل 2015 بقلم
احميدة النيفر قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:-1- اتّسمت علاقة المثقف العربي بالإسلام في الفترة الحديثة والمعاصرة بقدر من التوجّس كبير وصل في بعض الأحوال إلى حدّ العداء المُعلن.
إذا عدنا بالذاكرة إلى السنوات التي سبقت هزيمة جوان/ حزيران 1967، تاريخ بداية تراجع تدريجي للتيارات المناهضة للهوية والخصوصية الثقافية، برزت لنا الروح الحَدِّية التي شكّلت الحياة الفكرية والسياسية العربية طوال سبعة عقود.
تميّزت تلك العقود السبعة السابقة للهزيمة ببروز حركة صراع فكري وإنتاج أدبي متميّز، مثّله ما عُرف بالمعركة بين القديم والجديد التي كان من أبرز فرسانها في الشرق العربي طه حسين وأحمد حسن الزيات ومحمد الصادق الرافعي صاحب مقولة: "إسقاط البدعة الجديدة التي يريد دعاتها تجديد الدين واللغة والشمس والقمر". ثم شهدت أربعينيات القرن الماضي تراجع مقاومة المحافظين، لتبدأ سنوات تدابر مرير ساد فيها المثقف العربي الثوري بتحليلاته الجذرية وخطابه الشمولي.
يمكن أن نستحضر من هذا الطور الثاني أمثلة عربية، لعل أبرزها كانت مقولات "مصطفى حجازي" التي نشرها في "التخلف الاجتماعي ونفسية الإنسان المقهور". كان يعلن دون تردد أنّه لا بد من العمل "على إزالة التراث [الديني]، لأنه السبيل الوحيد لتحرير الجماهير ذاتها". من ثم، أصبح هذا المثقّف ينظّر لعنف ثوري يرى فيه شرعية اجتماعية ومعنى تاريخيا جديدا يسمح باستعماله ضد الجماهير ذاتها، إذ من "الممكن أن يكون أصحاب المصلحة في التغيير أكبر عائق أمامه".
مثال ثان لكاتب ومثقف عربي آخر، كان أنموذجا فريدا في نوعه في مجال القطع مع الماضي والتفرّد بالمعنى، هو عبد الله القصيمي مؤلف كتاب "هذه هي الأغلال" الصادر سنة 1946، والذي ثابر بعده على تأليف سلسلة من الكتب كــ "العالَم ليس عقلا" و"العرب ظاهرة صوتية" كان يرفع بها لواء انتصار الحديث على القديم والتنظير لموت الثقافة الكلاسيكية وضرورة القضاء على البنى التقليدية في المجتمع العربي. فعل ذلك بعد أن ظلّ لسنوات كاتبا منافحا عن السلفية متصديّا لخصومها من فقهاء التقليد وشيوخ الأزهر.
-2- في المغرب العربي، انطلقت هذه الـ "ثورة" مبكّرة منذ أواخر القرن التاسع عشر مقتصرة في مرحلة أولى على مقاومة التقاليد الفاسدة والاعتقادات الضالة، وكان من أشهر من برّز فيها الكاتب والسياسي التونسي النشأة والجزائري الأصل "عبد العزيز الثعالبي" صاحب كتاب "الروح الحرّة للقرآن". تطوّر طرح المثقفين المغاربة بعد ذلك مع الزمن متحاشين في الغالب الأعم إدانة التراث الديني جملة واحدة كما كان الشأن في بلاد المشرق. لقد ظل خطاب التماهي الكامل مع الآخر لدى المثقفين المغاربة مسألة غير محسومة خشيةَ استلابٍ ثقافي يعوق نضالهم السياسي في مواجهة استعمار أوربي يستهدف الوطن والهويّة معا.
مع ذلك، ورغم هذا التمايز النسبي بين موقف المثقف العربي في المشرق ونظيره في المغرب، فإن علاقة الجميع بالإسلام (اعتقادا وسلوكا أو ثقافة، تراثا أو قيما وخلقية) ظلت في حالة مشوبة بالالتباس والحذر الشديدين في الغالب.
لمحاولة إضاءة هذه الظاهرة التي طبعت حياتنا الفكرية والاجتماعية، والتي ساهمت اليوم بعد عقود سبعة ثانية في دفع حياتنا السياسية نحو تدابر طائفي واحتراب أهلي مكتوم أو معلن، لا بد من مزيد من التعرف على المثقف العربي، هذه الشخصية- الرمز التي أخذت بناصية الفكر متربعة على عرش المجتمع.
للإجابة عن سؤال: من هو المثقف؟ لا بد من التأكيد على أن كلمة "مثقف"، مولَّدة جاءت للتعبير عن احتياج اجتماعي فكري حديث لم يقع تداوله بصورة واضحة إلا في فترة معاصرة؛ أي في حدود تناهز ستة عقود.
لذلك، فالتعريف الذي يبدو لنا أكثر دقة وموضوعية هو الذي يعتبر المثقف: الشخص الذي يُكسبه التميّزُ المشهود له به في مجال معرفي أو إبداعي محدد شرعيةَ إعلان مواقف سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية تهم الشأن العام.
-3- من هنا ندرك أنه روعي في اشتقاق الكلمة المولّدة الإبقاء على دلالتي الحذق والمهارة القائمتين في النسيج اللغوي القديم. إلى جانب ذلك وخلافا للنظير الأوربي الفرنسي، وهو الـ: «Intellectuel» والمشتق من كلمة «Intellect» بمعنى العقل أو الفكر، فإن المثقف في السياق العربي استمد مكانته من المهمة التي يتولاها بالأساس في المجتمع، هو دون شك يحمل فكرا خاصا لكنه يتميّز بما يقوم به في الواقع المجتمعي بصفته صاحب قضية وحاملا لمشروع.
على ذلك، فالمثقف هو صاحب تمكّنٍ معرفي أو إبداعي يسمح له بالاعتراض وإثارة القضايا الفكرية والقيمية التي تقطع مع الاتباعية الاجتماعية والتعسف السياسي بما يتيح له مكانة نقدية ومرجعية توجيهية وتجديدية دون أن يؤدي ذلك إلى استلام أية مسؤولية مباشرة في الحكم.
لذلك، فالذي ينبغي ألاّ نذهل عنه هو أن المثقف انبثق عمليا من رحم تحديث المجتمعات العربية معبّرا عن مفهوم المواطنة التي تستدعي ضرورةً صفتي الاعتراض والتشريع.
من ثم ندرك أن ولادة المثقف العربي كانت أولا إيذانا بمنافسة للفقيه، وأنها تحوّلت بعد ذلك تدريجيا إلى مواجهة صدامية مريرة معه، باعتبار أن الفقيه كان هو القائم الأساس في البناء العربي الإسلامي القديم والوسيط على النظام الاجتماعي والقيمي حمايةً وتركيزا.
هكذا ظهر المثقف عندنا، صاحب معارف مكتسبة تُمّكِن من تنمية ملكة النقد والذوق والتقييم، وقد استدعى بروزَه سياقُ تخلّف حضاري للمسلمين، لم يعد هناك مجال للرضا به. لكن ما حوّل المنافسة بين المثقف التحديثي والفقيه المحافظ إلى علاقة تدابر هو إضافة إلى الاختلاف في المرجعية الفكرية تناقضٌ في تشخيص أهم عوامل ضعف العرب والمسلمين في العصر الحديث. كان الفقيه يرى أن مأتى التخلّف الحضاري هو الواقع المباين لما يقتضيه الشرع بينما كان المثقف يرجع ذلك التخلف إلى الأفكار والرؤى والقيم المستمدة من التراث، والتي لم تعد لها أية راهنية أو قدرة على تقديم الإجابات المطلوبة.
-4- ما هي استتباعات هذا الخلاف بين الفقيه والمثقف العربي؟ وماذا ينبغي عمله بعد أن تدهورت العلاقة بينهما حدَّ التناكر والعداء؟ ثُم لماذا غدا عموم المثقفين العرب بعد إزاحة الفقهاء من صدارة الفعل الاجتماعي والتشريعي في تبعية لسلطان الحاكم بعد أن كانوا روّادا حاملين لمشروع فكري عام قابل لتحريك المجتمع؟
إذا أردنا تقديم إجابة أولية عن هذه الأسئلة المتعلقة بإشكالية المثقف العربي في علاقته بالإسلام مُنجَزًا حضاريا معيشا، وبالفقيه الذي ظل لقرون صاحب السلطة المرجعية دينيا وتشريعيا في المجتمعات المسلمة، فإننا نقول بأننا إزاء إشكال هجين التقى فيه العامل الموروث بالعنصر الحديث، هو من جهة ضرب من الاستمرار للصراع القديم والتنافس الدامي بين النخب والقيادات الفاعلة، والتي تجسدت بالخصوص بين أهل الفقه والشريعة وبين أهل التصوّف والطريقة. لكنه من جانب آخر يعبر عن انحراف المثقف الحداثي عن طبيعته النقدية الاقتراحية الإبداعية وإصابته بلوثة متأخري الفقهاء في سعيهم الدائب للاتباع والتقليد.
لقد تميزت فئة عموم المثقفين العرب بما حملوه من معارف جديدة لا صلة لها بالثقافة الدينية التقليدية، وبما أحدثوه من قطيعة عملية مع الماضي من أجل بناء جديد للمستقبل، وهو ما أتاح جملة من الإصلاحات التحديثية في مختلف المجالات.
بذلك، توفّرت الشروط الموضوعية لانبثاق المثقف من رحم تحديث مؤسسات الدولة وقوانين المجتمع. لكن الأهم في هذا هو أن التراجع الواضح لمكانة الفقيه والصعود المؤكد للمثقف واكبهما بناء الدولة الحديثة ذات المرجعية الفكرية والثقافية المغايرة لما عرفته الأنظمة الحاكمة السابقة. من هذه المواكبة، وجد التحديثيون صدّا لمقولاتهم عبّرت عنه فئات مختلفة من عموم المجتمع. هذا ما أدّى إلى انسداد تاريخي جديد جعل المثقف العربي يتجاوز وظيفته النقدية الاقتراحية بصورة كاملة، لينتهي إلى موقع أصبح فيه السند الأساس للدولة في الثورة على التراث والثقافة السائدين وفي السعي لتغيير مرجعية المجتمع بعد تحويل مرجعية الدولة.
أدّى هذا الانسداد إلى الإطاحة بكل السلط التقليدية والمحافظة في المجتمع الذي صار مدعوّا لتغيير نظام حياته، بل ونظام فكره ونسقه القيمي والثقافي. أخطر ما أدّى إليه هذا الوضع انكسار كل السلطات الاجتماعية المقابلة للدولة الحديثة بما حوّل المثقف إلى محتكر لمعنى الإصلاح والتجديد نتيجة إزالة كل البنى القديمة، وما تأسس عليها من تراث وقيم ونظم، ولم يعد للفئات الاجتماعية المحافظة أي دور يذكر.
ذلك هو الجانب الثقافي الأهم في أزمة الفكر العربي، وما عبّر عنه من انسداد تاريخي ما نزال نعيش آثاره إلى اليوم. إنه سقوط المثقف في غواية احتكار المعنى، تلك الغواية التي كان فقهاء التقليد قد انغمسوا فيها، هو ما عبّر عنه محمد عابد الجابري في تشخيصه لتلك الأزمة، باعتبارها تمثّلت في عقل غير واع بذاته وفي أنه "خطط لمشاريعه بعقول أُعدّت للماضي وبمفاهيم أنتجها حاضر غير الحاضر العربي". على هذا، يكون صميم الأزمة في العقل العربي الذي رفض التعدد واحتكر المعنى منجذبا نحو عقل "سلف آخر"، وهو ما أعجزه عن أن يصبح عقلا مستقلا عصريا؛ أي مبدعا.