zoom الوضع الاقتصادي في المغرب أزمة طارئة أم اختلالات بنيوية الدكتور علي العلوي* طغى خطاب الأزمة الاقتصادية في المغرب على المنابر الإعلامية، وعلى تصريحات السياسيين، وغير السياسيين؛ منهم والي بنك المغرب الذي نُقِلَ عنه خلال ندوة نظمت مؤخرا بالرباط، تحذيره من قرب حدوث الكارثة، وأيضا الأمين العام لـحزب “الحركة الشعبية” الذي دعا المغاربة إلى شد الحزام أكثر فيما سيأتي من الأيام. والملاحظ أن هذا الخطاب طفا على السطح مباشرة بعد تنصيب الحكومة الحالية، التي يرأسها الأمين العام لحزب “العدالة والتنمية” ذي التوجه الإسلامي، مما يطرح أكثر من سؤال حول حقيقة الوضع، بخاصة وأن الحكومة السابقة كانت تصرح على لسان وزيرها في المالية أن المغرب في منأى عن الأزمة الاقتصادية؛ أزمة لم تسلم من انعكاساتها السلبية حتى الدول القوية مثل ألمانيا وفرنسا وأمريكا وغيرها. وفي هذا السياق؛ أي سياق خطاب الأزمة، سأسعى في هذا المقال إلى استقراء بعض المؤشرات والمعطيات الاقتصادية الدالة، التي تعكس جزئيا بعض المحطات والمراحل التي مر بها الاقتصاد المغربي، وذلك من أجل فسح المجال للقارئ للإطلاع بشكل من الأشكال على جانب من التدابير والظروف التي أوصلتنا إلى الوضع الحالي. وهنا أسارع إلى طرح السؤال: هل فعلا نعيش أزمة مستفحلة بعد استقرار ونمو اقتصاديين نسبيين أم أن الوضع في آخر المطاف ليس سوى تجليات لواقع مختل أصلا. وجوابا عن هذا السؤال سأعرج بداية، وبشكل مقتضب، على الوضع الاقتصادي بالمغرب في فترة الاستعمار. بعد ذلك سأسهب قليلا في الحديث عن هذا الوضع منذ الاستقلال إلى غاية الألفية الثالثة . 1- الوضع الاقتصادي في فترة الاستعمار: في أوائل الاستعمار؛ أي سنة 1920، كانت الزراعة تحتل نسبة 52% من الناتج الداخلي الإجمالي، مما يؤشر على أن الاقتصاد المغربي كان في تلك الفترة ذا طابع زراعي، لكن مع مرور الوقت سُجِّلَ انخفاض مستمر لنسبة الزراعة من 52% إلى 35%، أي بانتقاص 17%، بينما ارتفعت نسبة الصناعة خلال هذه الفترة من 13% سنة 1920 إلى 29% سنة 1955. هذه المعطيات والإحصائيات تدل على التدهور المستمر للقطاع الزراعي الذي أخذت منه الصناعة 17%، كما تدل أيضا على ارتفاع مطرد لنسبة الصناعة في زمن الاستعمار ويمكن اعتبار التدهور الذي لحق بالزراعة تدهورا حقيقيا وتدهورا شكليا؛ فهو حقيقي من منطلق أن التطور الذي حدث في الصناعة، وفي الخدمات، قد صحبه انتقال لليد العاملة ورؤوس الأموال من الزراعة إلى هذين القطاعين؛ أي أن هذا التطور كان على حساب الزراعة. هذا فضلا عن أن إمكانيات الاقتصاد التقليدي تهدمت لصالح الاقتصاد الرأسمالي العصري الناشئ، كما تهدمت بنيات المجتمع التقليدي القروي بأسره لصالح المجتمع الحضري الجديد. وفي هذا التهدم تم تحويل جزء هام من الفلاحين إلى مجرد عمال الصناعة والخدمات، وإلى فائض من العاطلين، وسكان أحياء القصدير المحيطة بالحواضر. أما من جهة أخرى، فهو تدهور شكلي بمعنى أن إنشاء صناعة موازية وخدمات متنامية لا بد أن يؤدي إلى انخفاض نسبة الإنتاج الزراعي دون أن يصحب ذلك انخفاض في الأرقام المطلقة لهذا الإنتاج، بل إن هذه الأرقام قد ارتفعت أيضا وعرفت تغييرات نوعية كبيرة تمثلت في إنشاء الجزء العصري الرأسمالي منها، وفي ظهور أنواع جديدة من الإنتاج الزراعي، وأنماط جديدة للاستغلال، وطرق جديدة وتقنيات وأساليب حديثة ومعنى ذلك أن الدولة في فترة الاستعمار كانت دولة الصناعة، بينما دولة الاستقلال كانت دولة خدمات. وهنا لا بأس من التذكير بأن الصناعة لها الأولوية على الخدمات، ذلك بأنها تمثل الركيزة الأساسية للاقتصاد، كما أنها تخلق الفروع المختلفة للإنتاج، وتخلق وسائل العمل ووسائل الإنتاج، وكذا وسائل الاستهلاك، كما توفر ظروفا مواتية للشغل. وعندما تتطور هذه الصناعة يتطور معها الاقتصاد كله، لأنه تابع لها، كما يتطور المجتمع برمته نظرا للمهن المتعددة المتداخلة التي تقتضيها، والكفاءات العلمية والتقنية التي تستلزمها من جانب آخر، ينبغي التأكيد أن الاستعمار الفرنسي لم يكن غرضه تحويل المجتمع المغربي من مجتمع متخلف ما قبل رأسمالي إلى مجتمع رأسمالي حديث، بقدر ما كان يسعى إلى تثبيت البنيات المتخلفة نفسها للمجتمع التقليدي، لأن هذه البنيات قد تمكنه بشكل أحسن من ضمان انصياع المغرب له، كما أن إعادة إنتاج التخلف أصبح شرطا ضروريا لاستمرار هذه السيطرة. وفي السياق ذاته، جعل الاستعمار من الاقتصاد المغربي اقتصادا تابعا ومندمجا تماما في الاقتصاد الفرنسي والأوروبي، يزوده بالمواد الخام وبالمنتجات الزراعية، ويستورد منه المنتوجات الصناعية. وغداة الاستقلال كانت كل الفروع الأساسية من الاقتصاد المغربي تحت مراقبة الجماعات الاحتكارية الأجنبية مثل الطاقة الكهربائية، وقطاع الأبناك، والقروض، ومعهد إصدار النقود، والجزء الأكبر من النقل والصناعة والتجارة الخارجية، ونصف الإنتاج المعدني. أما النصف الآخر الذي يتكون من الفوسفاط فكان في ملك الدولة منذ بداية الاستعمار، كما أن التطور الاقتصادي السريع المستقل كان يتطلب تحويلا جذريا في الهياكل الزراعية، ذلك بأن بقايا الإقطاعية في البوادي قد أبقاها ووطدها النظام الاستعماري لتخدم مصالحه. وبفعل الاضطهاد السياسي والاقتصادي الذي سلطه المعمرون الأجانب والإقطاعيون على الفلاحين المغاربة، استطاعوا أن يستحوذوا على الملايين من الهكتارات، مما جعل هؤلاء الفلاحين يعيشون أزمة حقيقية أخلت بتوازنهم الاجتماعي والاقتصادي 2- الوضع الاقتصادي بعد الاستقلال: كانت الصفة الملازمة للاقتصاد المغربي خلال فترتي 1951-1953 و1961-1963 هي الانخفاض المستمر في الإنتاج، حيث إن نسبة الإنتاج لكل فرد تقلصت من 100 نقطة سنة 1951 إلى 90 نقطة سنة 1961، التي تمثل السنة الثانية للتصميم الخماسي (1960-1964). وفي القطاع الفلاحي يلاحظ استمرار التضاد بين ركود منتوجات الحبوب التي تعيش منها أغلبية الفلاحين المغاربة، وبين التوسع المستمر
لزراعة الخضر والحوامض لفائدة المعمرين الأجانب الذين يريدون من وراء ذلك إنتاج الخمور. إن لوحة الوضع الاقتصادي في المغرب آنذاك تبين أن هناك ركودا في القوى المنتجة عوض تقدمها؛ وإذا تحقق شيء من التقدم في الإنتاج فذلك لا يعني سوى الفرع الاستعماري من الاقتصاد؛ أي الزراعة التصديرية، والمناجم، وبحظ قليل صناعات التحويل إذاً، لم تزعزع السياسة الاقتصادية التي سلكتها حكومات المغرب المتوالية، مع بداية الاستقلال، جذور سيطرة الرأسمال الأجنبي على الفروع الأساسية من الاقتصاد، ولا بقايا الإقطاعية في المجال الزراعي، بل أكثر من ذلك قد وقعت تنازلات كبرى لصالح الرأسمال الأجنبي مع بداية سنة 1960، كما تم التخلي عمليا عن تطبيق التصميم الخماسي (1960-1964) رغم مصادقة الحكومة عليه آنئذ. ولقد كانت هناك مرحلتان من تطور السياسة الاقتصادية لدولة المغرب غداة الاستقلال؛ المرحلة الأولى تمتد من سنة 1956 إلى سنة 1960، وتميزت باتخاذ بعض التدابير الجزئية الرامية إلى مساعدة التصنيع أو تطوير الإنتاج الزراعي، ومد البلاد بعملة وطنية، وتوقيف تصدير الرساميل. وأما المرحلة الثانية التي عرفت بدايتها سنة 1960 فقد طبعها التخلي عن كل محاولة تستهدف إحداث شروط تطور وطني، وبخضوع تام على الصعيد الاقتصادي إلى مطالب الرأسمال الأجنبي، وإلى الجماعات التي تسانده في الداخل، وبتفاقم مستمر للأزمة الاقتصادية والاجتماعية والمالية ولقد نشأت البرجوازية الزراعية المغربية برعاية الرأسمال الأجنبي سواء من حيث التمويل أو التبعية التكنولوجية أو الارتباط بالسوق الرأسمالية العالمية. وتشكل هذه الطبقة إحدى دعائم النظام السياسي الذي عمل على توطيد ركائزها الاقتصادية من خلال توفير رصيد عقاري مهم، حيث جرى تمليك أكثر من 700 ألف هكتار من الأراضي المسترجعة لكبار الملاكين العقاريين إلى حدود التسعينات، وتدعيم دور شركتي صوديا وسوجيطا باعتبارهما أهم الركائز بالنسبة إلى الرأسمالية الزراعية؛ فإذا أخذنا بعين الاعتبار عمليات التصفية التي تقوم بها الدولة حاليا للشركات الفلاحية التابعة لها، التي تبلغ مساحتها الإجمالية 143350 هكتارا، سنجد أن حوالي 90% من الأراضي الزراعية التي كانت بيد الاستعمار، والتي تقدر بمساحة 890470 هكتار، أصبحت تستحوذ عليها هذه الشريحة المذكورة من البرجوازية. هذا فضلا عن مجهود استثماري كبير في مجال البنيات التحتية الأساسية، إذ تركزت “سياسة السدود” على تشييد منشآت التجهيزات المائية الكبرى التي كانت تمتص، إلى حدود الثمانينات، 43% من مجموع الاستثمارات العمومية المخصصة للفلاحة. كل هذا مع إقرار قانون الاستثمارات الفلاحية، الذي يرمي إلى تشجيع تحديث الضيعات في أفق تصدير المنتوجات الفلاحية إلى الخارج، وتقديم منح لاقتناء الأدوات والعتاد، وتقليص كلفة مياه الري، وتوفير التمويل والإعانات لصالح كبار الفلاحين، وكذا إحداث ضريبة فلاحية منخفضة لم تكن حصتها تمثل في سنة 1981 سوى حوالي 3% من مجموع الموارد الجبائية المباشرة، وقد ألغيت نهائيا في سنة 1984، ثم تأطير الإنتاج ودعم تسويق المنتجات المخصصة للتصدير من خلال إنشاء مكتب التسويق والتصدير هكذا تطابقت السياسة الفلاحية المتبعة منذ الاستقلال الشكلي مع مصالح برجوازية زراعية شديدة الارتباط بالنظام الرأسمالي العالمي. ولعل هذا ما يفسر انخراطها في العولمة الرأسمالية وخضوعها لها، وكذا قبولها لكافة إجراءات الانفتاح المعمم التي ستقوم بها الطبقة الحاكمة انطلاقا من التقويم الهيكلي، فالانضمام إلى الاتفاق العام حول التعريفات الجمركية والتجارة، ثم اتفاقيات الشراكة مع أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها ولمواجهة الأزمة المالية لجأ المسؤولون إلى الاستدانة من الخارج. لذلك، ومنذ بداية الستينات، أثقلت الأبناك الأجنبية كاهل المغرب بديونها المتعددة، ولما أغرقته في أزمة خانقة بدءا من سنة 1964 جاء خبراء البنك الدولي ليصدروا توصياتهم للمغرب وإملاءاتهم عليه بشد الحزام؛ فاختلط عليه الحابل بالنابل وهو في بداية السبعينات. وابتداء من سنة 1976 عرفت مؤشرات العجز الداخلي للمغرب ارتفاعا كبيرا ومهولا إلى درجة جعلت الملك الراحل الحسن الثاني يلتجئ من جديد إلى البنك الدولي الذي أصدر تقريراً جديداً سنة 1978 تضمن تعليمات صارمة لتجاوز الأزمة الجديدة، وتتمثل في مراجعة الضرائب وسن سياسة تقشفية. هذه الإجراءات أدت إلى توترات اجتماعية سنتي 1980 و1981، حيث إنها سببت غلاء المعيشة وازدياد حدة الفقر والبطالة. ومن ثم، ارتبكت من جديد خطوات البلاد بين الوفاء للإملاءات الخارجية والاستجابة للالتزامات الداخلية وفي هذه الفترة، لم تكن المفاوضات مع البنك الدولي قد وصلت إلى نتيجة تذكر، كما أن السلطات المغربية لم تكن مستعدة لتنفيذ التوصيات التي قد تمليها عليها هذه المؤسسة. ولا شك في أن الدولة كانت تنتظر أن تعطي الاستثمارات التي سبق أن قامت بها ثمارها، لكن دون جدوى. وفي ظل الأجواء المرتبطة بتدويل مسألة مديونية العالم الثالث، ارتأى أصحاب القرار السياسي في المغرب ضرورة تأجيل تنفيذ سياسة التقويم، أو حصرها على المستوى القطاعي دون أن تشمل المستوى العام. وإلى حدود سنة 1980، كان صندوق النقد الدولي المؤسسة المالية الرئيسة التي تتدخل في المغرب. وقد بلغ هذا التدخل مستوى أكبر بعد سنة 1980. أما ابتداء من سنة 1983 فقد أظهر البنك الدولي دوره في مشهد الاقتصاد المغربي، إذ إنه وجه أصابع النقد ضد سياسة السلطات العمومية والحق أنه قبل سنة 1983، كانت الدولة قد بدأت ممارسة برنامج التقويم الهيكلي، وذلك باللجوء إلى التقليص في الميزانية والتضييق على الواردات عبر إقامة الجدران التعريفية. وقد أصبح المغرب سنة 1983 عاجزا عن الاستيراد، رغم المساعدات الضخمة غير المحددة التي كان يتلقاها من العربية السعودية، وبعض دول الخليج الأخرى. إذاً، انطلاقا من تلك السنة لجأ إلى طريقة المعالجة بالصدمة، حتى إن حالة التوقف عن الأداء في منتصف السنة نفسها زادت من حدة سياسة التقشف وسياسة التقويم. ومنذ ذلك الحين ستتخذ الحكومة عدة إجراءات تتمثل في التخفيض من الحقوق الجمركية، وفرض رسوم على الاستيراد، ومراجعة اللوائح، وفرض الضرائب، بما فيها الضريبة على القيمة المضافة ومع ذلك تواصل انخفاض المداخيل، ولم يكن من المحتمل أن يصير الإصلاح الضريبي ناجعا دون الإفادة من فوائد إعادة الجدولة، أو من هبات ما. وانطلاقا من سنة 1985 تم اتخاذ إجراءات مصاحبة للتمكن من إصلاح مسيرة الاقتصاد المغربي؛ فتمت مراجعة صندوق الدعم مع التقليص في الميزانية، والتوقف شبه التام عن إحداث مناصب الشغل في القطاع العام، وتحرير التجارة الخارجيـة، وغيرها. وفي سنة 1986، بدأ تطبيق الإصلاح الضريبي مع الإبقاء على إعفاء قطاع الفلاحة؛ ومع ذلك تواصل انـهيار المداخيل، حيث إنه في السنـة نفسها بدأت الدولة تتخلص من الديون، دون أن تنجح في وضع حد لتوجس الفاعلين الدوليين والوطنيين، الأمر الذي جعل من عودة الخزينة المغربية إلى الاعتماد على السوق الدولية مطمحا بعيد المنال. هكذا وصل الحال فيما بين 1986 و1987، إلى حد الإعلان بأن المغرب يعيش مشكلا غير قابل للحل، وذلك من قبل الأبناك الدولية الخاصة التي لجأت إلي بيع سندات قروضها في السوق الدولية الثانوية بأثمان تتراوح بين 50 و60 في المائة من قيمها الاسمية وكانت سنة 1986 حرجة بالنسبة إلى المغرب، مع أنها شكلت على المستوى النوعي بداية مرحلة جديدة، رغم أن العجز لم يصل إلى الحدود المرجوة، وأن ميزانية الدولة كانت تعيش عجزا على مستوى حسابها الجاري. وفي سنة 1987 تم اعتبار أن التوازن قد تحقق، مع أنه في الواقع قد بلغ حدودا مقبولة. لذلك فإن التأكيد على ضرورة إقامة توازن مالي أدى إلى التقليل من شأن الخراب الجاري على المستوى الاجتماعي وبخاصة تصاعد البطالة، وتدهور القدرة الشرائية، وعجز الطبقة الوسطى، وتفقير فئة كبيرة من السكان، وخلق حالـة تشرد في كل قطاعات الحماية الاجتماعية المتعلقة بالتعليم والصحة والسكن. ومن المؤكد أن مجموع الإجراءات الرامية إلى إصلاح الاقتصـاد المغربي الذي مازال غير مؤهل لتطبيق الليبرالية، لم تنتج في حد ذاتـها الإقصاء، لكنهـا زادت الفوارق الاجتماعية التي كانت توجد من قبل، كما أن الاختلالات والبنى العتيقة السائدة زادتها قوة مادية وتجذرا تاريخيا. إن سياسة التقشف المنتهجة باسم التقويم الهيكلي ضربت في العمق الفئات الاجتماعية المحرومة؛ فعلى مستوى الإدارة التي تشكل فضاء للطبقات المتوسطة لم تستطع الدولة، تحت ضغط البطالة، ضمان قوانين أساسية ومعالجات مماثلة للكفاءات الحاملة للشهادات نفسها. ومع انخفاض الاستثمارات واختفاء المقاولة اتخذ برنامج التقويم الهيكلي شكل سياسة ذات انعكاسات اقتصادية أدت إلى تقليص التشغيل، وعدم احترام الحد الأدنى للأجور، وتدهور وضعية الشباب والنساء. وأمام هذا الوضع بدا أن الدولة تعمل على توسيع قدراتـها الإدماجية، إذ ظهر ذلك في طبيعتها التصالحية في اتجاه القطاع غير المهيكل، وفي التسامـح أكثر في التعامل مع مشاكل المخدرات والدعارة والانحراف والتسول، إذ يتم الاكتفاء بمحاولة التهديد عندما تكون مرغمة على القيام بفعل ما يدل على تطبيق القانون بشكل صارم، والشيء نفسه يصدق على تحسين النصوص التشريعية الموروثة من عهد الاستعمار، وإصلاح القوانين المتعلقة بالمرأة، وفتح الحوار الاجتماعي. وفي سنة 1995 أعلن الملك الراحل الحسن الثاني من قبة البرلمان المغربي أن الاقتصاد المغربي قد يُصاب بسكتة قلبية ما لم يتم اتخاذ إصلاحات حقيقية تهم الإدارة والقضاء والاقتصاد بشكل مستعجل، وأشار إلى أن البنك الدولي أصدر تقريرا مفصلا بطلب منه يضم أهم التوجيهات لإصلاح هذه الاختلالات. وبعد ذلك عمت الصحافة تقارير وتحاليل حول هذا التقرير، وعقدت ندوات كثيرة ونقاشات برلمانية وفكرية واقتصادية حوله أيضا. هكذا بدا الأمر في اللحظات الموالية للخطاب الملكي، لكن مع مرور الوقت خبا نجم هذا التقرير الجديد، فطويت صفحته نهائيا، حتى إن المرء يكاد ينسى أن يوما ما اهتز المغرب لتقرير يحذر المغرب من السكتة القلبية. هذا، وقد أصدر البنك الدولي يوم 14 أبريل 2006 تقريرا مفصلا عن الوضع الاقتصادي بالمغرب والمشاكل التنموية التي يتخبط فيها. وقد ورد في هذه المذكرة أن المغرب لم يحقق، إلى الآن، التنمية المرجوة رغم الجهود المبذولة، وأن مشاكل التشغيل والفقر والارتفاع المهول للضرائب وضعف التكوين التأهيلي للمواطنين، تشكل عراقيل حقيقية لتحقيق القفزة المرجوة في النمو. ويرى التقرير أن نسبة النمو بالمغرب لم تتجاوز حتى الآن 4%، وأن البطالة فاقت نسبة 12%، لذلك لا يمكن الحديث عن تنمية حقيقية ما لم تتجاوز نسبة النمو 6%؛ وورد في التقرير أيضا أن الاختلالات التي تعانيها البلاد كثيرة، نذكر منها: أزمة سوق التشغيل، وضعف التكوين التأهيلي وعدم ملاءمته للتحديات الاقتصادية، إلى جانب غياب سياسة واضحة للتنافسية واحتشام الانفتاح المغربي على الخارج، وكذا تعدد التعقيدات الجمركية، وشيوع عمليات القرصنة والتقليد في المجالين الصناعي والفكري، فضلا عن غياب التنسيق بين القطاعين الخاص والعام . خاتمة: كانت تلك بعض الأرقام والمعطيات التي تبرز بجلاء أن الاقتصاد عانى، ولا زال يعاني الأمرين جراء الاختلالات التي صاحبته منذ فجر الاستقلال، لاسيما سيطرة الرأسمال الأجنبي على الفروع الأساسية من الاقتصاد، وبروز البرجوازية الإقطاعية في المجال الزراعي، والتنازلات الكبرى لصالح الرأسمال الأجنبي مع بداية سنة 1960. لذلك لا يمكن اعتبار الأزمة الاقتصادية الحالية أمرا طارئا، ولا يمكن عزلها عن السياق التاريخي، وعن مجمل القرارات والاختيارات السابقة التي ساهمت في إفراز الاختلالات التي نشهدها الآن، ونعيشها صباح مساء. ومن هذا المنطلق، المطلوب من جميع الفاعلين والمسؤولين الانخراط الجدي في إيجاد الحلول الكفيلة بإخراج الاقتصاد المغربي من عنق الزجاجة، بدل تضخيم خطاب الأزمة، وترويجه من أجل مكاسب سياسية ضيقة لا تخدم المسار التنموي للبلد.
Source :
http://www.oujdacity.net/debat-article-76652-ar/