بين هامشه وهامشيته
عبد الغني فوزي
يغلب ظني، أن وضعية المثقف العربي الآن كوجود غير فاعل في سير الحياة العامة، يطرح أكثر من سؤال عن صفاته بين الأزمة البنيوية وتأزيم مفهوم الثقافة، من خلال تعميمات في النقاش حول دوره ووظيفته بالمعنى العميق لهذه الكلمة. كأن الكل يطارده بكيفية مقنعة من خلال الترسانات التي تترصد أنفاسه الآن. أمام هذا الصد، يبقى الإصرار عاليا في الجحر وليس في البرج. فالحديث عن امتداد الثقافي في المجتمع والحياة، لا يقتضي التسييج وتصنيف هذا الثقافي كخانة أو ميدان، على غرار المجالات الأخرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية... وفي المقابل، فالتغيير المنشود في التاريخ والفكر، يتطلب التشبع بقيم التنوير والمعرفة، لإدراك مسار الخطى الفردية والجماعية، بهدف تعبيدها ـ من دون أدلجة تفرغ المثقف من رسالته ـ في اتجاه المستقبل.
في هذا المتحمل، نتساءل: هل يمكن الحديث عن وجود ثقافي من دون مثقفين؟. وكيف يهندس هذا المثقف علائقه، وبالأخص منها علاقته بنفسه والآخرين؟. سؤال مركب، تفرض طرحه التحولات المتسارعة اليوم التي عرت عن الأعطاب في الأفراد والمؤسسات، ومنهم جماعة المثقفين المتعددة والمتنوعة. لكن، لابد هنا من استحضار مفهوم المثقف الذي يستند على الاستنهاض وعدم الركون لحقائق الرأي العام المتصفة
بالعموميات. وهذا يعني، أن المثقف الحقيقي يمارس وجوده المعنوي والرمزي على هامشيته ـ ولو بين الإكراهات ـ الساعي إلى تحليل غير آني، وغير موجه بما هو إيديولوجي، تحليل مولد للأفكار الخلاقة والرؤى المتحررة. فهذا الدور الذي يتحسس الرسالة المديدة الأثر دون مواقع أو تبادلها، يقتضي خلق تلك المسافة بين المثقف والمؤسسة بتلاوينها المختلفة. لأن للمؤسسة الرسمية أو المدنية (الموجهة والمخترقة) تفسيرها الساعي إلى التكيف والمسايرة، أو النقد المهادن والظرفي، وبكامل الإنشاء الثقافي. وبالتالي، لا بد من البحث عن مثقف كلسان للتبرير، وإضفاء الشرعية أو استكمالها. مما أدى بالمثقف أو نماذج منه، إلى دخول مؤسسات الدولة دون شروط، وفي تخل عن سمات المثقف، بل أحيانا يسعى الكثير من الكتاب إلى تلميع صورهم والنفخ فيها للاستيلاء. فهذه التنازلات للمثقف عن «سلطته» المعنوية والرمزية، أدت إلى الانخراط في اختيار السياسي، بالأخص منه الحزبي. مما يؤكد أن البعض يختار المواقع، ولا يمكن أن يحيا كوجود ثقافي خارجها، في سعي ولو مقنع إلى الغنيمة. في حين، الآخر، اختار الامتداد والحرية، لأن استقلالية المثقف التي لا تعني الانعزال والعدمية كما يتوهم الكثير على الرغم من الشروط الموضوعية المختلة في الأوطان العربية كالأمية والفقر، هذا فضلا عن هامشية الفعل الثقافي في المجتمع، كل ذلك في صالح تبريرات المتزحلقين والراقصين على الحبال في الوضوح الملتبس، مما يدل ويؤكد أن هامشية المثقف العربي يساهم فيها أيضا أشباه المثقفين الذين يشتغلون من أجل التضخم الثقافي الذي لا يفضي إلا لنفسه.
في المقابل، فالمثقف الأصيل والحقيقي يرادف ـ في تقديري ـ استقلالية الفكرة التي تتخلق في السياقات نفسها التي تهيكل هذا الكل مللا ونحلا، في انتصار للمبادئ التي تبقى أكبر من الشخوص وشخصنتهم للمشهد والطريق التي تفضي للأفق الإنساني، أو تفضي عند المتربصين والمعضدين للحقائق المحشوة بالمصالح والاستباقات المكرسة لذلك، في استغلال مفضوح للإطارات وقطيع الكتبة. لهذا، يغلب ظني أن المثقف العربي، لم يختر هامشيته وانزواءه بشكل إرادي، بل يضطر لذلك، لأن الوسائط بينه وبين المجتمع، لا تفكر بموجهات ثقافية. لهذا يسود التخشب والتعصب، وقتل مساحات الحوار الخلاق الذي يجدد ويطور. ها هنا تنتعش الأصوليات التي تهندس الرأي العام المحشو بالعموميات والحقائق الجاهزة في تغييب مقصود لصوت الحفريات والتعدد الذي يربك أي بنيان ثابت ونمطي. والأغرب في هذا المضمار، أن بعض المثقفين بهذه الصفة يفردون، كأن الكل متكالب عليهم. وتلك أزمة الفكر والثقافة في المجتمعات العربية.
بناء عليه، فاستقواء الفعل الثقافي أمر هام أمام زحف الاستهلاك والاستهلاك الثقافي الفلكلوري، من خلال تنشيط الفعل القرائي والنشر في الفنون المختلفة، فضلا عن بنيات ووسائط حاضنة... فكل هذا، إذا حصل، لا يعني انخراط المثقف في المؤسسات دون برامج ولا رؤى. للأسف هو المتحصل؛ مما يزكي الخبط والانفتاح المجاني على الكل، في تسطيح للملمح الثقافي الذي قد يتحول إلى فرجة وهرج، دون آليات حفر ورصد للوضعيات، للتخطي والتجاوز، بهدف تطوير الحياة والمجتمع، ليتحول هذا الأخير إلى مجتمع معرفة، عوض سيادة الأنساق المغلقة التي تؤدي للتناطح، وللأسف بشريا، نظرا للشرايين المتصلبة التي تناهض الحوار والقيم العقلانية التي تجعل كل شيء نسبيا، وفي تطور متواصل. طبعا، لا ثقافة دون مثقفين، وإن علا النفير الذي تكرسه السلطة وتباركه في تمجيد لـ»اللغط» الذي يخلط الأوراق، في حفاظ على السائد. والملاحظ، أن السلطة تعددت إلى سلط وأصوليات تمارس الخنق والضيق أو الضرب من خلف بالوعيد والتهديد، في مواجهات يغيب عنها الفكر والعقل، فيسود المثقف الدجال الذي يبرر ويعضد.... لهذا فللسلطة الأشباه من المثقفين، وقد تمارس الاختراق والتدجين باسم هذا النوع «الثقافي» الخالي من الحواس والنقد الجريء، فيبقى الإنسان والمجتمع في ثبات، يتحرك ويتطور فكريا وعقليا ببطء، بعيدا عن الانطلاقات والقطائع الحقيقية.