دفاعا عن الثورة لا عن الثوار… المصطلح والمثال في حرب المثقفين على الثورات
صادق أبو حامد
August 8, 2014
لطالما كان مثيراً للتساؤل تعصب المثقفـــين لدينا في دفاعهم عن دقة المصطــلح وشرعيــته، بينما تعيش مجتمعاتنا وثقافاتنا دوامة مستمرة من الخلط بين المصطلحات والشعارات والوقائع. لا يتردد المثقفون في تقمص دور حراس المعبد دفاعاً عن تعريفاتهم الأنيقة للشـــعر والرواية والديمقراطية، وكأنها مصطلحات هابطة من السماء ونحتار نحن البشر في تأويلها. فلا يشفي غليل أحدهم أن يصف شعراً ما بالرديء، ورواية بالضعف، وديمقراطية بالخلل، بل لا بد أن ينزع عنها شرعية تصنيفها، فلا هذا شعرا ولا هذه رواية ولا تلك ديمقراطية، وكأنهم ينتقمون بلا رحمة ممن تعدى على مملكة الرب.
قد يكون مرجع ذلك أن أكثر النظريات النقدية والفكرية التي نَغرِفُ منها أُنتجت في ثقافات أخرى، ما جعلنا نصاب بأزمة ثقة تجاه المصطلح الوافد، وشروط استخدامه، وما جعل بعضنا يحاول احتكار المصطلحات مستعيداً مجد الكهنة ليكون سيد اللغة السرية، والمتحكم في سياقاتها. وقد تكون الصفة الكهنوتية التي حكمت الشريحة المثقفة بانعزالها وانقطاعها وتعاليها عن واقعها، عززت رغبة امتلاك اللغة كإرث خاص، وجعلها طلاسم لا يفككها إلا الكهّان.
مرض المصطلح ذاك بلغ أوجه مع انطلاق الثورات في العالم العربي، فالمواجهة مع حدث تاريخي عنيف أثارت لدى المثقف قلقاً أكبر من ذاك الذي تثيره جلسة تنظير حول الأشكال المثالية للشعر «الحقيقي» أو لجنة الديمقراطية المفقودة. ومع تعثر مسار الثورات، وتراكم صعوباتها، ازداد إلحاح أهل التنظير على سحب شرعية المصطلح، فما يحدث لا يمت للثورة «الحقيقية» بصلة، وتعبير الربيع العربي ليس سوى كذبة كبرى، وعلى هذا المنوال يطلق الكثير من المثقفين أحكاماً مطلقة بخفة باتت معتادة، وثقة لا تبرح كلماتهم.
أعيدوا مصطلحات الأرض إلى أهل الأرض
بيد أن مصطلح الثورة، ومصطلح الربيع، لم يهبطا من السماء، وليسا صناعة محلية لأهل الكهنوت، لذلك يحق لقارئ التاريخ، والباحث في تجارب وتعريفات الثورات التي أتحفتنا بها البشرية، أن يَعجبَ من هذا «القلق المعرفي» في وصف الانفجار التاريخي الذي أصاب المنطقة، فخلخل بُناها، وأخرج أحشاءها في وضح النهار.
الثورة بتعريف بسيط، وأقل إشكالية، هي تحرك جماهيري مفاجئ يؤدي إلى تغيير جذري في أنماط النظم السياسية والاجتماعية في مجتمع ما، وهي غالباً ما تتخذ العنف سبيلاً للتغيير، بدون أن يكون العنف شرطها، وهي إذ تتسبب في هزة عنيفة تمتد معاركها وتبعاتها لزمن غير محدد، في محاولة لإعادة الاستقرار لمجتمع أصابته الفوضى. هذا ما كانت عليه الثورة الفرنسية وقبلها الأمريكية، وكذا الثورات الروسية والصينية، وهذا ما كانت عليه ثورات التحرر عن الاستعمار. ولا يدخل نجاح الثورة في تعريفها، ولا إحرازها لتقدم أو تخلف، فقد تنتج الثورات نظماً أكثر قمعاً، وأقل انفتاحاً وتحرراً، كحال الثورتين الإيرانية والروسية.
ليس من داع للاستغراب إذن حين نعرف أن هناك ثورات فشلت، وأخرى انحرفت، وأخرى نجحت جزئياً، وأخرى اتخذت شكل حرب أهلية، كحال الثورة الإسبانية (ولعل كل ثورة هي، بمعنى ما، حرب أهلية)، وأن الثورة قد تقلب نظام الحكم ليعود نظاما شبيه بالنظام الراحل، وقد تنجح التيارات المعارضة لها بالانقلاب عليها، أو بركوب ظهرها. وقد ينفع التذكير بأن الثورة الفرنسية، التي ما زالت مداراً للتغني، أعدمت الملك لويس السادس عشر، ثم لم ترحم منظّرها وأحد أهم زعمائها ماكسيميليان روبسبير فأعدمته، وما هي إلا سنوات حتى أعاد نابليون بونابرت الملكية متخذاً صفة إمبراطور، ليعود بعد ذلك التاج إلى العائلة الملكية مرة أخرى، ولم يكن لفرنسا التخلص من الحكم الملكي الذي ثارت عليه، إلا بعد ثمانين سنة من انطلاق الثورة الفرنسية.
هذه هي حال الثورات، أما «الثورة الحقيقية» التي يتحدث عنها طيف من المثقفين فهي مجرد وهم مثالي، وغالباً ما تكون بدعة تنظيرية يلوّح بها كل من يريد نزع الشرعية عن حراك جماهيري لم يخضع لمواصفاته التنظيرية، أو ربما لم يجد فيه الموقع القيادي الذي يستحقه! القول ذاته يصح في دحض التشكيك بمصطلح «الربيع العربي»، فهذا المصطلح المجازي الذي كتبت في هجائه المقالات ليس سوى استلهام من ربيع براغ 1968، الربيع الذي سرعان ما سُحق بالدبابات السوفييتية، ولم يحقق أهدافه. لكن أحداً، باستثناء موالي موسكو حينها، لم يكرّس ملكاته الفكرية ليثبت أنه لم يكن ربيعاً، وأن هذا الاسم «كذبة كبرى» ولا بد من نزعه ليسجل ذاك الحراك ضد القمع باسم «خريف براغ»!
جدارة المصطلحين لا تعني، بأي حال، إطلاق حكم قيمة على نجاح أو فشل هذه الثورة أو تلك، ولا تمنعنا من نقد الممارسات المرتبطة بالعمل الثوري بتنوعاته وتبعاته، ومن محاربة الممارسات المتطرفة التي تنخر وتدمر الأحلام الأولى للثورة، لكن بدون أن نتحول إلى محاربة الثورة ذاتها، ونزع قيمتها التاريخية، ذلك أن الأحكام المتسرعة في سياق مقاييس التاريخ، كثيراً ما تسقط في مطب التقوقع في النتائج الآنية متغافلة عن جدلية التغيير ومهملةً الدور الأساسي والمستمر للأسباب. ناهيك عن عبثية رفض الثورة، أو مصطلح الثورة، بعد وقوع زلزالها، فهي ككائن تاريخي لا يغير من سمتها التغييرية شعار معارض أو مؤيد، كما لا يغير من حقيقة استبداد نظام ما طول القصائد المادحة، وجرائد الشعارات الكاذبة.
الثورة السورية وصراع أمراض الاستبداد
لعلنا نتفق على أن الثورات هي أحداث نادرة في تاريخ المجتمعات، وهي إذ تقع في مجتمع ما فإن في ذلك معنى يشرح الكثير عن حال المجتمع وحال نظامه الحاكم، ومن ثم عن شكل وتعبيرات الثورة ومطباتها وأمراضها. من هنا تبدو المقولات الرافضة للثورة بحجة عدم أهلية الشعب، ونقص الثقافة الديمقراطية، وخطورة تفكك المجتمع، ليست سوى عناوين سطحية تنتجها نظرة جزئية، وانتقائية، في قراءة الواقع. فحين يكون الشعب مؤهلاً ديمقراطياً ومتماسكاً ضمن مشروع مواطنة وسيادة القانون، لا تكون هناك مبررات للثورة، ولا تكون هناك إمكانية حتى لتوفر الضغط الضروري لإنتاج الانفجار الثوري.
حالة النظام السوري تقدم مثالاً جلياً في هذا السياق، فأن يحكم نظام استبدادي
سوريا لعقود، فذلك يعني أن الخراب توغل في جميع مفاصل المجتمع وأنماط عيشه، ومن ثم فإن ثورة هذا المجتمع المُخرّب لن تكون مكعباً منفصلاً عن مكعب الاستبداد، بل هي تنهض من وصول تناقضات الاستبداد إلى حدها الأقصى، حاملة في الآن ذاته بذور جميع أمراضه. من هنا تبدو الدهشة المتواصلة من صعود مظاهر التسلح ثم الطائفية ثم التعصب عائدة إلى القراءة القاصرة، وليس إلى غدرات التاريخ، ولا إلى عطل فني في الشعب السوري، ففي مواجهة استبداد فاسد عسكري أمني طائفي واستثنائي في وحشيته، يصعب تخيل صمود ثورة سلمية وحدوية وطنية، كما لا يمكن تخيل بروز معارضة خبيرة ومتماسكة ومتجذرة في الحراك الشعبي من تحت عباءة نظام قتل المعارضة والنقابات والجمعيات وعموم مظاهر المجتمع المدني. وأمام دعم خارجي عسكري واقتصادي وسياسي للنظام المستبد، وإسناد ميليشياوي طائفي له، لا يمكن أن تغلق أبواب الحدود والخيال على دعم مقابل وتدخل مقابل. وفي أجواء العنف والظلم واليأس لا بد من احتدام التطرف، ولا أعتقد أن أحداً كان يتوقع أن يتخذ التطرف لدينا شكلاً علمانياً أو ماركسياً، أو حتى شكلاً قومياً بعد الابتذال الساحق للشعارات القومية من قبل النظام.
وضوح العبارة في وصف مآلات الثورة السورية لا يعني الركون إلى حتمية تاريخية، ولا يُقصد منه التبرير لأي شخص أساء للثورة من أي موقع شَغَله، فالمحاسبة والنقد والمراقبة تبقى عملية جوهرية لتدارك انهيار الطموح الأول للثورة، ومحاربة التيارات المعادية لأفكارها التحررية، والحد من انحرافها عن مسارها الأساسي، لكن القراءة العلمية تفترض اساساً الربط المستمر بين الأسباب والنتائج، لا ان نصف النظام بالاستبداد بجميع مواصفاته، ثم نغلق القوس لنناقش الثورة في سياق آخر.
ما تفعله الثورات، خاصة تلك التي لا يطلقها ويقودها تشكيل سياسي، أنها تعري المجتمع لتكشف مرة واحدة عن جميع الأمراض الدفينة التي أفرزها الاستبداد، وإذا كان الزخم الثوري المجبول بالأمل يشكل جهاز مناعة في بدايات الثورة، فإن طول مدتها وتبعثر آمالها أمام عنف وقوة النظام يفتك بهذا الجهاز ليترك جسد المجتمع مشرعاً لجميع الأمراض. وحين لا تنجح الثورة في إنجاز أولى مهماتها بإسقاط النظام، فإن هذه الأمراض تزداد تفشياً وخطورة، بسبب دعمها من قبل النظام الذي لم يسقط، بما يملكه من خبرات في شؤون تفكيك المجتمع، وتدمير معنوياته. فنظام عائلة الأسد لم يكن ليستمر لنصف قرن لو لم يكن قد خلق قواعد توازن داخلية وخارجية قوية بما يكفي لتكبيل المجتمع. وهو إذ يدخل في حرب بقاء مفتوحة يخرج من جعبته جميع الخبرات والعلاقات والوسائل التي يملكها ليسحق الطرف الآخر. في الوقت الذي يزداد تفكك وضعف الطرف الآخر بازدياد عمر الثورة، وتراكم أوجاعها، واضطرارها أكثر فأكثر للدعم، ومن ثم للقرار، الخارجي.
ما حصل في سوريا من تضافر للعوامل الداخلية والخارجية ضد الثورة يصنف بالاستثناء التاريخي، لا كحكم قيمة، إنما كوصف لحدث يصعب أن نجد نظيراً تاريخياً له، حيث يدمر نظامٌ بلده وشعبه بالشكل الذي نراه، وحيث يترك لآلة إجرام جبارة أن تذبح شعباً على امتداد سنوات وعلى مرأى ومسمع العالم. غير أن تلك الصورة على بشاعتها واستثنائيتها تعطي المزيد من الشرعية للثورة على هذا النظام.
لا شك ان قلة هم الذين توقعوا مأساة بهذا الحجم لسوريا وثورتها، ولم يكن كاتب هذه الكلمات منهم، غير أن الثورة لم تكن لتقم، ولم تكن لتُظهر أجمل تعبيراتها في البداية، ولم تكن لتصمد في ما بعد، بل ولم يكن من الممكن تخيل خسارة عائلة الأسد للبلد الذي حوّلته إلى مزرعة، لولا أن الأمل بالإنجاز والنجاح كان قوياً بما يكفي لدخول المغامرة. أمل صنعه سياق الثورات العربية بعد عقود من القمع والإذلال، قبل أن يصبح جزءاً من انعطاف تاريخي ليس لأحد ولا لجهة أن توقفه.
٭ كاتب سوري
صادق أبو حامد