شكّلت حادثة إقدام شاب على تفجير نفسه أمام فندق نقطة تحوّل فى مسار تطور العنف فى تونس، وفى أساليب التصدّى الأمنى للفئات الجهادية. فبعد استهداف قوات الأمن وعناصر من الجيش بدأت المجموعات الانتحارية تزحف باتجاه التجمعات السكانية كالفنادق وغيرها، وهو قرار يبيّن أنّ هذه الجماعات الجهادية قد دخلت مرحلة إعلان الحرب على الدولة وارتأت المفاصلة عن المجتمع.
وبالرجوع إلى مختلف القراءات والتحليلات التى ما انفك عدد من الدارسين والمختصّين فى مقاومة الإرهاب يقدّمونها خلال هذا الأسبوع ننتبه إلى:
ـــ الصلة التى عقدها عدد من الدارسين والأمنيين والإعلاميين التونسيين والأجانب بين الجماعات الجهاديّة وعدد من قيادى حزب النهضة لاسيما بعد أن وُثّقت صور اللقاءات الحميمة، وسُجّلت الفيديوهات ممّا ثبّت توّرط «أكبر حزب» ومن ورائه الحكومة فى توفير كلّ ما من شأنه أن يساعد هذه الجماعات على بلوغ مرحلة «التمكين».
ـــ إصرار الجماعات الجهاديّة المؤمنة بتغيير النظام بالقوّة وعبر الانقلاب على الطابع السرّى، ولذلك فإنّها ارتأت عدم إصدار بيانات تعلن فيها تبنّيها للعمليات الإرهابيّة. ولعلّ نقطة الاختلاف بين تحرّك هذه الجماعات وغيرها من الجماعات فى ليبيا أو العراق أو سوريا.. هو أنّها لم تظهر فى لبوس تنظيم عتيد يعمل تحت إمرة موحّدة، وله تصوّر واضح سينعكس فى إنتاج أدبيات تسرد «فكر الجماعة»، وهو أمر سيخوّل فيما بعد للمهتمّين بدراسات الإرهاب رصد إمكانات المراجعة والتطوير من استعصائها.
ـــ سيطرة تجارب الأمم الأخرى (عقود العنف السياسى الاجتماعى فى الجزائر ومصر والعراق) على عمليّات التحليل والمقارنة، والحال أنّ التجربة التونسيّة مختلفة وإن وجدت قواسم مشتركة بين الجماعات الجهاديّة.
ـــ غياب «الاجتهاد والمجتهدين» وعجز أو خوف عدد من «الشيوخ» و«رجال الدين الرسميين»، والمنتمين إلى التيارات الإسلاموية من إنتاج رؤى مبتكرة، وخطابات جديدة لمواجهة الإرهاب غاية ما نجده مبادرات فرديّة، وأخرى تتخذها وزارة الشئون الدينيّة ما عادت تؤتى أكلها نظرا إلى عاملين، أوّلهما: الاتهامات الموجّهة إلى الوزير، والمتمثّلة فى خطبه التعبويّة، وموقفه من الجهاد فى سوريا، وتعامله مع «حرب التكفير فى المساجد» وتجييش الناس، وتغاضيه عن الجمعيّات الخيريّة التى تدعم الإرهاب، وتنهض بمهمّة تأطير الصبيان استعدادا للجهاد، وثانيهما هيمنة الاجترار، وسيطرة النقول على الخطاب الدينى الرسمى، والحال أنه ينتج فى سياق ثوريّ، يستدعى إعادة نظر، وتجديد لآليات التفاعل مع «المستجدات».
ـــ انعكاسات الأزمات الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة على المناخ العامّ فى البلاد. فكلّما استمرّ تهميش الشباب، وضاقت الأفق، وتصاعد نسق غلاء المعيشة، وعزف الخصوم السياسيون عن إخضاع خطاباتهم واستراتيجيات عملهم السياسى للمراجعة العميقة واتسعت الفجوة بين السياسة والأخلاق، وعبث حزب بمرجعيّة إسلاميّة بالمنظومة القيمية وجدت شرائح من الشباب المحبط الملاذ فى حضن جماعات تُفرد لها مكانا وتمكّنها من الفعل الفورى بحثا عن «الخلاص».
ـــ ارتباط الإرهاب ببنى ذهنية تسلطيّة مازالت تفعل فعلها فى الجماعة تتجلّى فى نمط التنشئة الاجتماعية، وأساليب التربية، ومناهج التعليم، وأشكال بناء العلاقات الاجتماعية، وآليات إدارة الفعل السياسى والتحكّم فى المؤسسة القضائية والمؤسسات الإعلاميّة وغيرها ممّا يحول دون تكريس ثقافة الاختلاف والتربية على ثقافة العيش معا.
لا شكّ أنّ أشكال «التشويش» على مسار التحوّل نحو الديمقراطية متعدّدة ولكن أما آن الأوان لمواجهة الموقف بكلّ جرأة؟ إنّ استشراء الإرهاب ليس مؤامرة خارجيّة على تونس بقدر ما هو محصّلة اللعب على الحبلين، أو ثنائية الظاهر والباطن: دولة مدنيّة وآليات تمهّد لتركيز دولة دينيّة، حزب «معتدل صالح الإسلام مع الديمقراطية والحداثة»، ولكن نواته المركزية ميّالة إلى الفكر السلفى وأسلمة البلاد عنوة، قبول الحوار والتوافق وفى الآن نفسه فرض منطق الحزب الأول، والأغلبيّة، والشرعيّة والنطق نيابة عن الشعب، إنّ انتشار الإرهاب بنسق سريع نتيجة التردّد وعدم الحسم والتأرجح والرياء السياسى وتضارب المصالح بين الإخوة الأعداء وهذا ما جنته براقش على نفسها.