[url=http://www.anfasse.org/images/stories/images a utiliser 120/pays_0042.jpg]
[/url]
0inShare
Share on Tumblrتمهيد:
قد يبدو الأمر مثيرا للحيرة، حين نحاول البحث عن فكرة "حقوق الإنسان" انطلاقا من التاريخ الفلسفي، خاصة و نحن نعيش في عصر يشهد توظيفا متناميا لحقوق الإنسان، بعد أن تبلورت في المواثيق و معاهدات مؤسسة ترعاها المنضمات الدولية.
فإذا كانت "حقوق الإنسان" تشهد كل هذا الرواج، فما الذي سيضيفه العودة إلى جذور هذه الفكرة؟ أم أن في الواقع ما يدعو إلى الاهتمام بها أكثر، خاصة و أن حقوق الإنسان على الصعيد الواقعي تشهد تشويها و توظيفا إيديولوجيا، مما يجعل من هذه المنظومة مجرد شعار أو ظلت في مستوى "النوايا الحسنة" على حد عبارة كانط.
فهل يمكن القول أن الانتهاك الكبير الذي تتعرض له حقوق الإنسان يعود إلى كونها فكرة لم تتأصل بالشكل الكافي و هو ما يعرضها للتجاوز و التحريف؟ و أنها لازالت تحتاج إلى تجذير أو "تأسيس" خاصة و أن التأسيس يعني " الأساس و العماد الذي يقوم عليه البناء بمعنى الركائز و الدعائم"، و التأسيس هو التشييد و البناء ذاته.
بمعنى آخر التأسيس هو البناء النظري و يقابله على الصعيد التجريبي الالتزام؟
و لكن على ماذا تتأسس حقوق الإنسان؟ هل على الحق الطبيعي أم على القانون الأخلاقي؟
سواء كانت حقوق الإنسان تتأسس على الحقوق الطبيعية للإنسان أو القانون الأخلاقي، فإن ما يمكن التأكيد عليه أن "حقوق الإنسان" حق من حقوقه ، فهي جوهرية جوهرية الذات لأن الإنسان ليس سوى حقوقه. فإذا لم تكن حقوق الإنسان مجرد ملحق أو فكرة تضاف للإنسان، فإنها ليست ابداع للعصر الراهن، و إنها فكرة الإنسان ذاتها تستبطن فكرة الحقوق. إن هذا يعطي لنا مشروعية البحث في أصل و أساس حقوق الإنسان، حتى نتمكن من الدفاع عنها كجوهر أصلي. و هو ما يبرر العودة إلى فكر الأنوار حيث عرفت هذه الفكرة مخاضا فلسفيا مع فلاسفة العقد الاجتماعي و فيلسوف الأنوار كانط، حيث بدأت تتأسس فكرة حقوق الإنسان انطلاقا من سؤال "ما الإنسان؟" و هو ما يعني أن التفكير في "حقوق الإنسان" كان بالانطلاق من البحث عن تعريف للإنسان. فأي حقوق؟ لأي إنسان؟
إن البحث في حقوق الإنسان لا يكون إلا بتحديد ما هو الإنسان؟ لذلك سنبدأ بالإجابة عن هذا السؤال؟
يعتبر سؤال "ما هو الإنسان" من أصعب الأسئلة الفلسفية لأنه السؤال المركزي بامتياز. و لئن بدا هذا السؤال حديثا كما يقول فوكو: إذ أن اهتمام الفلسفة القديمة بالإنسان كان في سياق دراستها للطبيعة فإن هذا السؤال سيطرحه كانط في كتاب المنطق.
و يتنزل كانط في سياق فلسفة الأنوار التي اتخذت على عاتقها مهمة تقليص حضور الإله في الكون مقابل تثبيت حضور الإنسان، و لم يتم ذلك إلا بممارسة النقد الموجه ضد الديانات المطلقة و الميتافيزيقا. و بالتالي فإن عصر الأنوار يتبع تمشي نظري و نسقي و تصور نقدي يبلغ أوجه مع الفلسفة النقدية الكانطية من خلال "ثلاثية العقل الخالص"، "نقد العقل العملي"، و "نقد ملكة الحكم"؟ و لئن لم يقدم كانط إجابة واضحة لسؤال "ما هو الإنسان؟" فإننا نستطيع من خلال كتبه و من خلال مقالته "ما هي الأنوار؟" أن تنبين خصوصية الإنسان مع كانط فعندما يعرف كانط الأنوار يقول: "هو خروج الإنسان من القصور الذي يرجع إليه هو ذاته و يضيف تجرأ على استخدام فهمك الخاص". هذا هو شعار عصر التنوير الذي يتطلب الحرية"[1]و من خلال هذه المقالة نستطيع أن نقول أن مفهوم الإنسان عند كانط يتركز على خاصيتي "العقل و الحرية" فالإنسان هو كائن عقلاني و لأنه يقدر على العقل فهو مدعو لممارسة حرية التفكير واستخدام فهمه دون قيادة الغير. و بالعودة إلى كتاب "المنطق"، يقول كانط أن سؤال ما الإنسان؟ يجب أن تجيب عنه الأنتولوجيا و يقول في هذا السياق: "يرد مجال
الفلسفة إلى الأسئلة التالية:
ماذا يمكنني أن أعرف؟
ماذا يجب علي أن أفعل؟
ما الذي يجوز لي أن آمل؟
ما الإنسان؟
غير أنه يمكننا أن نرد كل ذلك إلى الأنتروبولوجيا طالما أن الأسئلة الثلاثة الأولى ترجع إلى السؤال الأخير ما الإنسان؟."[2]
فرغم مركزية سؤال "ما الإنسان؟" في الفلسفة الكانطية فإنه يصعب إيجاد مباشرة عن هذا السؤال من خلال أثر واحد و إنما لا بد من تتبع آثار كانط كاملة.
و إذا عدنا إلى كتاب "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" و الذي هو موضوع بحثنا هنا، فإن الكتاب يحاول التساؤل عن الطبيعة الإنسانية من زاوية الخير و الشر. و يجيب كانط أن الإنسان من زاوية عقلانية هو خير و من زاوية تجريبية هو شرير. و هي نفس أطروحة كتابه "الدين في حدود العقل" حينما يؤكد على مشكلة التربية "الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يجب تربيته".
إن الإنسان حسب كانط إضافة إل كونه كائنا عاقلا يتميز بالاستقلالية و قدرته على التشريع لذاته و هو لا يخضع للقانون إلا خضوعا حرا.
و لكن في نفس الوقت: "أن العقل يلتقي بالحساسية لذلك فإنه لا يكفي الإرادة أن تكون إرادة حتى تصير إرادة طيبة."[3]فالشر يصبح ممكنا بواسطة ثنائية العقل و الحساسية. فهذا التحديد الكانطي للإنسان من زاوية العقل تجعله ينتمي إلى مملكة الحرية و المسؤولية، و هو ما يشرع تحول الإنسان من مجرد تابع لنظام الكون إلى كائن مركزي يتمتع بالحقوق، و من جهة ربط هذا الإنسان بانتمائه إلى عالم الطبيعة يجعل الإنسان في نفس الوقت قابلا للانحراف عن طبيعته العقلانية، و هو ما يستدعي ضرورة إيجاد قانون للحد من انحرافات الإنسان. و هو ما يبيح الجمع بين الحق و القانون.
و لكن قد يعترض البعض عن هذا الجمع ذلك أن الحقوق قد ورد استعمالها في المجال السياسي عندما أصبحت مسائل حقوق الإنسان من المسائل السياسية، في حين ارتبطت فكرة القانون بالمجال الخلافي. و عندما نحاول تأسيس مفهوم حقوق الإنسان بما هي مسألة سياسية انطلاقا من كتاب "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" الذي هو مبحث أخلاقي بامتياز، قد يدفع البعض للمعارضة و التساؤل لماذا السياسة انطلاقا من الأخلاق؟
فهل معنى ذلك أن السياسي لا يتأسس إلا على أساس أخلاقي؟ خاصة و نحن نعلم أن الفلسفة السياسية قبل كانط و انطلاقا من ماكيفيلي، سعت لتأسيس تقليد يختلف عن تقليد الفلسفة السياسية القديمة و هي فصل الأخلاقي عن السياسي، في دعوة مباشرة لتحرير السياسة من النظرة الغائية و ربطها بالعلم و انجازاته الحديثة. فعوض أن تبحث في أفضل النظم و ما يجب أن يكون، أصبحت مطالبة في عصر الحداثة إعلان هذه القطيعة، لتصبح السياسة بما هي فن الممكن تهتم بما هو كائن و يغلب عليها الدهاء و الحيلة و صراع المصالح و القوى، في حين أن الواجب الأخلاقي هو مثال تغلب عليه فكرة الغائية.
فإذا كان فلاسفة الحداثة قد خاضوا صراعا مريرا من أجل تحرير السياسي من الأخلاق، فكيف لنا أن نرتد عن مسار الحداثة بما هو مسار في اتجاه القطيعة مع الغائية و القصد، فنعود إلى فكرة الغايات من خلال القول أن "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" قد هيأ الأرضية لانبثاق مقولة حقوق الإنسان.
ألا يمثل هذا الاتجاه انحرافا عن مشروع الكانطية الذي طرح نفسه "كثورة كوبرنيكية" فنجعل منها ثورة مضادة؟ أم أن مثلما أسس كانط الدين على ميتافيزيقا الأخلاق، كذلك، فإنه سيؤسس مقولة حقوق الإنسان على الأخلاق؟
ألا يمثل العصر الراهن بتناقضاته و ما نعيشه فيه من إستفراغ للدلالة و المعنى و القصد و ما أصبح يمثله هذا الوضع من تهديد للوجود الإنساني و انتشار مظاهر العنف و تصدر مشهديه الموت، ضرورة تعديل السياسي بالأخلاقي، خاصة و أن كلا المسألتين تمس المجال العملي للإنسان و أن الرهان على السياسي انطلاقا من الخلاقي هو غايته إنقاذ الإنسان. و من هنا نجد مشروعية في عدم فصل السياسي عن الأخلاقي. بل إن حقوق الإنسان قد تجد صلابتها عندما تتأصل كفكرة أخلاقية و ليس مجرد فكرة سياسية ليصبح الهم الأساسي هو في واجب الدفاع عن حقوق الإنسان.
إن اتخاذ كانط "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" كمنطلق تتأسس عليه فكرة حقوق الإنسان يدفعنا إلى طرح الإشكاليات التالية: إذا كانت الحقوق ترتبط بالجانب الطبيعي للإنسان و ترتكز على الحرية فإن الواجب الأخلاقي يقترن بالجانب العقلاني للإنسان و هو يرتبط بالإلزام و القانون و الواجب، فإن أول المشكلات التي تطرح في هذا السياق هو علاقة الحق بالواجب و القانون بالحرية؟
فما مفهوم الحق و ما علاقتها بالواجب؟ و إذا كانت حقوق الإنسان متعددة فهل معنى ذلك أنه يوجد سلم لترتيبها حسب أهميتها؟ و لكن هل من المعقول أن توجد حقوق ضرورية و أخرى ثانوية أم أن كل الحقوق متساوية؟ ما علاقة الحق بالواجب و القانون بالحرية؟ و كيف نمر من الحقوق الطبيعية إلى الحقوق الوضعية؟ هل تتأسس الحقوق على الواجب بما هو مبدأ إكراه و إلزام بمعنى القوة أم تأسيس على الواجب كحرية ووعي بالقانون و الضرورة؟ ثم ما الذي سيضيفه التأسيس الأخلاقي لحقوق الإنسان؟ هل سيمثل عنصر عرقلة و اعتداء على حقوق الإنسان أم عنصر إثراء و حماية و صون لها؟
و رهاننا في ذلك أن نبين أن حقوق الإنسان هي حقوق جوهرية للإنسان و هي عين ذاته و لا يجوز التفريط فيها لأنها مكسب للإنسانية غير أن حماية هذه الحقوق يمر حتما باحترام الإنسان لالتزاماته وواجباته لأن حقوق الإنسان ليس في حقيقتها سوى واجبات بمعنى آخر: "حقي هو واجب عند غيري كما أن واجبي هو حق عند غيري"[4] و هي في نفس الوقت حقوق.
فهل معنى ذلك أن فكرة الحقوق هي في نهاية التحليل مجرد فكرة أخلاقية توجيهية و هو ما يبرر بقاء حقوق الإنسان في مستوى الشعار و المثال الأخلاقي أم أنها أساس كل تنظيم و كل اجتماع بشري؟
ثم ألا ينسف التأسيس الأخلاقي لحقوق الإنسان مشروع الحداثة بأكمله و يجعل من الحداثة مشروع لم يكتمل لأن الحداثة لم تتحقق بعد على حد عبارة هابرماس "الحداثة مشروع لم ينته بعد لأنه لم يتجسد قط".[5]
هذا ما سنحاول البحث فيه من خلال المسائل التالية: المسألة الأولى تتعلق "بأسس ميتافيزيقا الأخلاق" و "فكرة حقوق الإنسان" و ذلك من خلال علاقة "القانون الطبيعي بالحق الطبيعي" و كيف يتم الانتقال من الحق الطبيعي إلى "الحق الوضعي". أما المسألة الثانية فتطرح إشكالية الأسس الأخلاقية لحقوق الإنسان من خلال البحث في علاقة الحق بالواجب. أما المسألة الأخيرة فتهتم بفلسفة حقوق الإنسان بين الواجب و الممكن. لننتهي إلى خاتمة التساؤل عن حقوق الإنسان إلى أين؟
I - أسس ميتافيزيقا الأخلاق و فكرة حقوق الإنسان:
بما أن البحث يتمحور حول كيف يمكن أن نجد فكرة "حقوق الإنسان" انطلاقا من كتاب ميتافيزيقا الأخلاق. ما هي طبيعية العلاقة بين الحق و القانون من جهة فيجب أن نبدأ بتعريف مفهوم حقوق الإنسان؟ و بحث علاقة مفهوم الحق بالواجب الأخلاقي أو القانون الأخلاقي؟ و هل أن علاقة الحق بالواجب علاقة تصادم أم تطابق؟ هل الحق لا يتأسس إلا على القانون و مفهوم الواجب أولا : أم بمعزل عنه؟
إن بحث جنيالوجيا هو وحده يستطيع الكشف عن مفهوم الحق، بالعودة إلى الذهنية القديمة، ذلك أن هذه الذهنية رغم تجديدها الإنسان من خلال خاصية اللوقوس أي النطق و العقل و القدرة على الاختيار، فإنها لم تنتبه إلى فكرة الحقوق الذاتية و تصور حق مرتبط أساسا بالفرد مستمد من طبيعته. و إنما ستظهر فكرة الحقوق الطبيعية عندما سيقع النظر إلى المجتمع على أنه فتاتا ن الأفراد الأحرار و أن العالم لم يعد كونا منظما و إنما هو تراكما لفرديات معزولة فلا وجود إلا لهذا الإنسان الذي لدينا معرفة مباشرة به أما الكليات "الإنسان" في المطلق لم يعد موجودا: و قد ركز مفهوم الحق لدى فلاسفة العقد الاجتماعي في حالة الطبيعة أي الحالة التي تسبق نشأة الدولة لذلك جاء مفهوم الحق مقترنا بالطبيعة؟
فما معنى الحق الطبيعي؟ و هل يمكن أن نجد في مقابل هذا الحق الطبيعي قانون طبيعي؟ و ما علاقة الواجب بالحق؟
1 - القانون الطبيعي و الحق الطبيعي:
عندما نحاول بحث علاقة الواجب بالحق فإن العديد من الصعوبات قد تطرح ذلك أن مفهوم الواجب يقترن عادة بالإلزام و الإكراه و نفي الحرية في حين أن مفهوم الحق في علاقة بالحرية و قد عرف هوبز الحق كما يلي: "لكل إنسان بطلعه الحق في كل شيء، أي في استطاعته أن يعمل ما يريد، و أن يملك كل ما يشاء أن يملك و ما أمكنه أن يملكه فيستعمله و يستمتع به."[6]و من هنا نفهم ارتباط مفهوم الحق بحرية الفعل. و كأن هذا الفعل لا يحده قيد و لا شرط نفياتان هوبز فالحق الطبيعي كما يعرفه هوبز: "هو الحرية الممنوحة لكل إنسان لا يستخدم قواه الخاصة للمحافظة على طبيعته الخاصة أعني للمحافظة على حياته الخاصة." و يواصل قائلا "إن الأساس الذي يرتكز عليه الحق الطبيعي هو لكل إنسان لديه القدرة و الجهد لحماية حياته و أعضائه..."، "و ما دام لكل إنسان الحق في البقاء، فلا بد أن يمنح أيضا حق استخدام الوسائل..."[7]
و يمكن أن نلخص الحقوق عند هوبز في أربعة حقوق أساسية:
أ- حق البقاء أو المحافظة على الذات.
ب- و إذا كان من حق الذات أن تبقى و أن تحافظ على نفسها فإنه منطقيا يترتب عن ذلك حق هذه الذات في استخدام كافة الوسائل الضرورية التي تكفل تحقيق هذه الغاية. "من له الحق في الغاية، له الحق في الوسيلة أيضا."[8]
ت- يترتب عن حق الغاية و حق الوسيلة حق ثالث أن يكون من حق الإنسان تقرير أنواع الوسائل الضرورية التي تكفل له تحقيق الغاية و هي المحافظة على بقائه. يقول هوبز: "لكل إنسان الحق بالطبيعة في أن يحكم بنفسه أي أنواع الوسائل تكون ضرورية و أن يجيب عن السؤال: ما هي الوسائل اللازمة لتحقيق الغاية؟"[9]
الحق الطبيعي، إذن عند هوبز هو الحرية اللامحدودة لكل فرد في حالته الطبيعة: حماية حياته و الدفاع عن وجوده مستخدما كافة الوسائل في سبيل تحقيق هذه الغاية.
فالحق الطبيعي هو الحرية الطبيعية التي ليس فيها لا قيد و لا شرط و قد حرص هوبز على تمييز الحق الطبيعي عن القانون الطبيعي الذي يعني هو ما يجدد و يربط و يلزم بمعنى آخر الحق الطبيعي هو اللا تحديد أما القانون الطبيعي فهو التحديد و التعيين لنشاط الإنسان و من هنا يقول هوبز: "ينبغي مع ذلك التمييز بين الحق و القانون ذلك لأن الحق يعتمد على الحرية، حرية المرء أن يفعل أو يمتنع عن فعله أما القانون الذي يربط بواحد منهما دون الآخر."[10] أي بالقول أو الامتناع عنه، فهو الذي يحدد و من ثم فالقانون و الحق يختلفان مثلما يختلف الإلزام و الحرية.
ننتهي من خلال مقارنة الحق الطبيعي بالقانون الطبيعي أن ثمة تعارض بين ما يحيل من جهة لمجال الحريات و اللا تحديد و بين مجال القانون الذي يحيل إلى الحد و القيد. فهل التعارض بين القانون الطبيعي و الحق الطبيعي في حالة ما قبل الدولة هو نفس التعارض بين الحقوق و الواجبات؟ في حالة ما بعد تأسيس الدولة، أو هو التعارض نفسه بين مجال الحقوق الإنسانية و القانون و الواجب الأخلاقي؟
2 - من الحق الطبيعي إلى الحق الوضعي:
قبل الإجابة عن سؤال العلاقة بين الحق و الواجب، لا بد أن نبدأ البحث في الكيفية التي يتحول منها الحق الطبيعي إلى حق وضعي و ما الفرق بينهما؟ إن الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة الوضعية مشروط بقيام الدولة = فما الغاية من تأسيس الدولة و ما طبيعة الحقوق التي يسعى إلي تحقيقها؟
لا شك أن حالة الدولة هي مختلفة مع الحالة التي تسبقها، ذلك أن إذا كانت حياة البشر في ظل غياب الدولة تتميز بحالة حرب الكل ضد الكل و بالفوضى و الموت العنيف و ليس من أفق للخروج من هذه الأزمة إلا بما يسمى العقد الاجتماعي: و هو يعني حسب روسو: "الاهتداء إلى شكل شركة تدافع عن الشركاء، و تحمي بجميع مالها من القوة الجماعية، شخص كل مشترك و أمواله، شركة ينضم فيها كل مشترك إلى شركائه و يتحد بهم، و لكنه مع ذلك لا يطيع إلا نفسه و يظل متمتعا بالحرية نفسها التي كانت له."[11]فبإمضاء هذا العقد تتأسس الدولة التي ليس لها من غاية سوى الحرية، إذ يقول سبينوزا: "يتبين من الأسس التي تقوم عليها الدولة و التي بيناها من قبل، أن الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليست السيادة أو إرهاب الناس أو جعلهم بقعود تحت نير الآخرين، بل هي تحرير الفرد من الخوف بحيث يعيش كل فرد في أمان بقدر الإمكان أي أن يحتفظ بالقدر المستطاع بحقه الطبيعي في الحياة و العقل دون إلحاق الضرر بالغير. فالحرية إذن هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة."[12]
نفهم من خلال فلاسفة العقد الاجتماعي أن الغرض من تأسيس الدولة هو المحافظة على الحقوق الطبيعية بتحولها من الشكل الطبيعي التي يغيب فيه كل حد و قيد إلى الوضع المدني فتصبح هذه الحقوق مشروطة بحقوق الآخرين و هو ما عبر عنه لوك قائلا: "و عندما تجتمع كلمة عدد من الناس على تأليف مثل هذه الجماعة أو الحكومة يصبحون من حينهم هيئة سياسية واحدة، تكتسب الأكثرية فيها الحق بالتصرف و بالإلزام الآخرين."[13]
فتأسس الدولة مشروط إذن بالمحافظة على الحقوق المدنية التي هي من أصلها طبيعة و من بين هذه الحقوق نذكر:
حق الحرية مع روسو و سبينوزا، حق الحياة، حق الملكية و هي الحقوق التي سيقع التنصيص عليها في الإعلان العلمي لحقوق الإنسان.
و قد اعتبرت حنا آرنت أن حقوق الإنسان هي : "ثابتة لأنها مستقلة عن كل أشكال الحكم، فالإنسان وحده مصدرها و غايتها القصوى و هي لا تحتاج لأي قانون خاص لضمان هذه الحقوق، إذ يفترض أن كل القوانين نابعة من حقوق الإنسان."[14]
نستطيع إذن أن نعرف حقوق الإنسان كما يلي: "هي جملة الحقوق الشاملة التي ارتبطت بالإنسان كحق الحياة و حق الحرية و حق الملكية و هي حقوق ترمي إلى حمايته من العنف و الاستبداد من أجل ضمان حسن البقاء. و هي لئن ارتبطت بالوجود الطبيعي للإنسان فإن هذه الحقوق تظل متعرضة للانتهاك ما لم يوجد نظام سياسي يحاول ضمان هذه الحقوق و المحافظة عليها، و هو ما جعل نماء هذه الحقوق مرتبطة بفكرة تنظيم سياسي أو بفكرة نشأة الدولة.
فما هي علاقة هذه الحقوق بمفهوم الواجب؟ هل يمكن أن نجد أصلا و تأسيسا لهذه الحقوق انطلاقا من أسس ميتافيزيقا الأخلاق؟ بمعنى هل يسمح التأسيس الأخلاقي لهذه الحقوق حماية و نماء أكثر لمنظومة الحقوق أم إن فكرة الواجب الأخلاقي هي إلغاء لفكرة الحقوق؟
3 - مفهوم الواجب:
إذا كان مفهوم الحق يرتبط بمفهوم "الحق الطبيعي" الذي هو جوهر الإنسان و هو ما يعني جملة الحقوق التي يتمتع بها الإنسان قبل تأسيس الاجتماع السياسي فهي تسبق قيام الدولة، و من خلالها يملك الإنسان مطلق الحرية للحفاظ عليها. فإن مفهوم الواجب في ظاهره يبدو متعارضا مع مفهوم الحق، إذ الواجب معناه: "ما يقرر وفقا لقاعدة، و القاعدة هي المبدأ الذاتي."كل ما في الطبيعة يعمل وفقا لقوانين و الكائن العاقل الإنسان هو وحده الذي لديه القدرة على الفعل وفقا لفكرة عن القوانين، أي وفقا لمبادئ"[15]
و الواجب هو ضرورة انجاز الفعل احتراما للقانون. لكن ما هو هذا القانون الذي يجب علينا احترامه؟
إن الصفة المميزة لأي قانون هي أنه كلي، و القانون الخلاقي هو القانون الذي يقول إن الفاعل الأخلاقي يتصرف أخلاقيا إذا سيطر العقل على كل ميوله.
و بالتالي ما يميز فكرة الواجب هي الإلزام و الكلية. و لذلك يرفض كنط أن تكون مبادئ الأخلاق مستمدة من الواقع التجريبي لأنه يستحيل أن نعثر في الواقع على فعل أخلاقي صادق إذ يقول كانط في هذا السياق: "من المستحيل تماما أن نقرر بالتجربة و بيقين كامل حالة واحدة قام فيها الفعل، المطابق مع ذلك للواجب، على مبادئ أخلاقية فقط و على الامتثال للواجب."[16]
و مقابل رفض كانط لمبادئ الأخلاق المستمدة من التجربة، فإنه يقبل بأن تكون مستمدة من العقل: "إن كل التصورات الأخلاقية، محلها و أصولها قبلية تما في العقل، العقل الإنساني المشترك و في العقل الإنساني النظري إلى أقصى درجة."
فالواجب أمر مطلق بمعنى أنه لا يرتبط بأية وسيلة، و لا غاية و إنما يربط بين الإرادة و بين القانون الكلي مباشرة، لا بأفعال جزئية تؤديها الإرادة و إنما بالقاعدة ‘Maxime’ الصالحة لأن تكون مبدأ للعقل. فإذا ما انطلقنا من أن كتاب "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" الذي يعني المعرفة القبلية عن طريق التصورات المحضة و أنها تتناول قوانين ما يجب أن يكون و هي بهذا المعنى لن تستمد قوانين الأخلاق من الطبيعة الإنسانية و لا من عادات الناس، لأنه لا يمكن استخلاص قواعد كلية مطلقة من معطيات مشتتة و غامضة و فيها خلط بين المبادئ و الأحوال الجزئية بحيث تتوقف النتائج المستخلصة على الأحوال الفردية و الميول و العواطف.
إن هذا التحديد للأخلاق يضعنا منذ البداية في مأزق و إحراج لأن حقوق الإنسان كما رأينا سابقا هي تستند إلى الطبيعة إنسانية و تتعلق بالفردية أما الأخلاق بهذا المعنى الذي يقدمه كانط فهي تضطلع بالطبيعة البشرية و الفردية و تعتبر أن الأخلاق يجب أن تتأسس على العقل كمبدأ كلي. أليس في هذا الأمر ما ينبئ بالتعارض بين القانون الأخلاقي و مبادئ حقوق الإنسان؟
لكن إذا ما نظرنا من زاوية مغايرة فإن "حقوق الإنسان" رغم أنها تأسست انطلاقا من الطبيعة الإنسانية فإنها أصبحت اليوم حقوقا بالمعنى الكلي و ليس بمعنى المفرد، فهي حقوق لكل إنسان في كل زمان و كل مكان و هي أيضا تأسست انطلاقا من تبني مفهوم
كوني للإنسان يربطه بمبدأ: "العقل باعتباره أكثر الأشياء توزيعا بين الناس". فهي إذن حقوق كلية و ضرورية. و من هنا يمكن أن تمثل هذه الخاصية المشتركة في مستوى الكلية و الضرورية بين القانون الخلاقي و حقوق الإنسان ما يجعل حقوق الإنسان يمكن أن تجد مرجعيتها في القانون الأخلاقي ذلك أن فكرة الحقوق هي فكرة معيارية و ما هو معياري قيمي يمكن إدراجه في المجال اللإيتيقي و الأخلاقي. فإذا أمكن لنا أن نجد نقاط التقاء بين القانون و الحقوق. فكيف للقانون الأخلاقي أن يؤسس حقوق الإنسان؟ بمعنى آخر هل يوجد في كتاب "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" من مبادئ ما يبشر بأن تكون نفسها مبادئ لحقوق الإنسان؟ و كيف تبدو علاقة الحق بالواجب من خلال "أسس ميتافيزيقا الأخلاق".
4- الحق و الواجب:
قد يبدو للبعض أن الحق و الواجب فضائين مستقلان لا يتوقف أحدهما على الآخر، فليس من شرط التمتع بالحق أداء الواجب، كما أن أداء الواجب لا يشترط فيه التمتع بالحق، فمن حق الفرد التمتع بالحرية و المساواة و العدل حتى و لو كان مقصرا في واجباته. كما أن الشخص الذي يكون قد أنجز واجبه لا يعني أنه سيأخذ حقوقه.
و إذا أردنا أن نبحث في كيفية ظهور مفهوم الحق و الواجب فإنه يعود إلى نشأة "القانون" الذي ساهم في توزيع الحقوق و الواجبات.
غير أن ما يجب الانتباه إليه أن الحق ذاتي و القانون موضوعي و هو ما يعني أسبقية الحق على القانون. فكيف يتأسس ما هو سابق على ما هو لاحق؟
إذا عدنا إلى ما يسمى بفرضية "حالة الطبيعة" لدى فلاسفة العقد الاجتماعي و هي الحالة السابقة على الدولة و التي تتميز بما يسمى بالحقوق الطبيعية. فإن ما يميز الإنسان في هذه الوضعية :أنه قوة متواصلة في حركتها بضمان الحفاظ على نفسها" أو لنقل بعبارة سبينوزا الـ «Conatus » بما هو رغبة في الحفاظ على البقاء و هذه الماهية لا تتحقق إلا في ظل صراع مع رغبات أخرى و هو صراع متكافئ كما يشير إليه هوبز إذ أن البشر في حالة الطبيعة متساوون في القوى و هو ما يهدد حياتهم بالخطر، يصبح الأفراد إذن في حالة خوف دائم في غياب أي حد أو منع يقف حركة صراعهم. و لن يتوقف هذا الخطر إلا بإيجاد شكل من المنع الذي يحد هذا الصراع و العنف و حق التصرف المطلق بكل الوسائل من أجل الحفاظ على البقاء، و هذا لن يكون إلا بتشكل قانون يمنع اعتداءات الناس على بعضهم البعض.
إن ما يجب أن ننتبه إليه ـن أسبقية الحقوق على القانون و الواجبات لا يلغي تأسيس الحقوق على مفهوم القانون و مفهوم الواجب. فإذا كانت الدولة عند روسو هي نتيجة عقد اجتماعي تلزم الأفراد بالخضوع للقوانين التي شرعوها بأنفسهم و بالتالي هم خاضعون لأنفسهم و هم في نهاية الأمر أحرار و ليس عبيد. "لأنه ولدت الحرية يوم ولد القانون."[17] فإنه نفس الشيء فيما يتعلق بمستوى تأسيس حقوق الإنسان بوصفها في أصلها حقوقا طبيعية تتأسس على مبدأ القانون الأخلاقي بوصفه مبدأ منظم لهذه الحقوق. فأين تظهر فكرة حقوق الإنسان في أسس ميتافيزيقا الأخلاق؟
II - الأساس الأخلاقي لحقوق الإنسان:
1 - من أسس ميتافيزيقا الأخلاق إلى فكرة الحقوق:
بالعودة إلى أسس ميتافيزيقا الأخلاق، يبين كانط أنه انطلاقا من مشاهدته للواقع التجريبي، انتهى إلى أنه من المستحيل تأسيس الأخلاق على الواقع لأن الواقع مشتت و الخلاق تطمح للكونية و الإطلاقية و الثبات و يبدأ كانط القسم الأول من كتابه "من كل ما يمكن تصوره في العالم، بل و خارج العلم بعامة، ليس ثم ما يمكن أن يعد خيرا بدون حدود أو قيد، اللهم إلا الإرادة الخيرة"[18] و يقصد من عبارة "الإرادة الخيرة" هي وحدها التي يمكن أن تعد خيرا في طبعتها و لتوضيح طبيعة هذه الإرادة الخيرة يستعين كانط بفكرة "الواجب". لكنه لا يقصد أن الإرادة الخيرة هي تلك التي تعمل وفقا للواجب، بل بالعكس، لأن فكرة الواجب هي فكرة ما ينبغي التغلب عليه من الميول و الرغبات، لأن الإرادة الخيرة الكاملة هي التي تعمل من تلقاء نفسها. أما الواجب فهو ما يقرر وفقا لقاعدة و القاعدة هي المبدأ الذاتي: "فكل ما في الطبيعة يعمل وفقا للقوانين و الكائن العاقل هو الوحيد القادر على الفعل وفقا لفكرة القانون أي وفقا لمبادئ. و الواجب معناه ضرورة انجاز الفعل احتراما للقانون. لكن ما هو هذا القانون الذي يجب احترامه؟ لا بد أن يكون كليا. و الواجب بم
ا هو أمر مطلق بمعنى لا يرتبط بأي وسيلة و لا غاية، و إنما يربط بين الإرادة و بين القانون لأن يكون مبدأ العقل، و يحدد كانط ثلاث قواعد أخلاقية في صورة أوامر مطلقة:
القاعدة الأولى= "افعل كما لو كان على مسلمة فعليك أن ترتفع عن طريق إرادتك إلى قانون طبيعي عام"[19]
القاعدة الثانية= "افعل الفعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك و في شخص كل إنسان سواك بوصفها دائما و في الوقت نفسه غاية في ذاتها و لا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة."[20]
أما القاعدة الثالثة يمكن استنتاجه من القوانين الخلاقية و هل فيها تأسيس لفكرة حقوق الإنسان؟
إذا عرفنا أن أهم المبادئ التي تأسس عليها فكرة حقوق الإنسان هي الحرية و الكرامة الإنسانية بمعنى احترام إنسانية الإنسان لذاته. فإن القوانين الأخلاقية التي صاغها كانط تنادي باحترام الشخص الإنساني من خلال الدعوة إلى التعامل مع الإنسان كغاية و ليس كوسيلة، و هذا دلالة على أن الأخلاق الكانطية رغم صرامتها و إلزاميتها فإنها لا تمثل قهرا للإنسان لأن غايتها احترام الإنسان لذاته و في شخصه. و كذلك الأمر فيما يتعلق بمسألة الحرية التي هي مسألة جوهرية في حقوق الإنسان، ذلك أن من يعتبر أن فلسفة كانط الأخلاقية تعني الإلزام و الإجبار و سلب الحرية هو مخطئ لأن الإلزام عند كانط ليس بمعنى القهر و الإرغام، لأن القاعد الأخلاقية الثالثة و التي يسميها كانط بمبدأ التشريع الذاتي المستقل للإرادة فإنها تقوم على مبدأ الحرية، و أن هذه الإرادة الحرة هي التي تشرع قوانينها بنفسها، فالقانون الأخلاقي ليس شيئا مفروضا على الإرادة من الخارج بل هو نابع منها. لأن الإرادة العاقلة و الحرة التي تشرع قوانينها بنفسها و لنفسها و لهذا فهي تخضع لهذه القوانين التي شرعتها بذاتها و خضوعها هو خضوع حر و اختياري.
و عندما نقف عند البند الأول لميثاق حقوق الإنسان: فإن هذا البند يقول: "يولد الناس أحرارا و متساوين في الكرامة و الحقوق و هم قد وهبوا العقل و الوجدان و عليهم أن يعاملوا بعضهم بعض بروح الإيخاء."[21]فعندما نقارن هذا البند بمحتوى القوانين الأخلاقية الكانطية فإننا نجد ما أكد عليه هذا البند من حرية و كرامة و مساواة بين الناس قد جاء في مستوى القواعد الأخلاقية سواء من حيث اعتبار أن العقل هو عنصر التساوي و الاشتراك بين الناس أو في التأكيد على أن الإلزام الأخلاقي هو في جوهره حرية لأن الذات هي التي تشرعه أو في دعوة كانط إلى ضرورة المحافظة على الكرامة الإنسانية من خلال التعامل مع الأشخاص كغايات و ليس كوسائل. و إضافة لمحتوى القانون الذي يتطابق مع محتوى البند المتعلق بالحقوق و الحريات و المساواة فإن الصياغة الكلية و العامة للقانون الأخلاقي يتطابق في صياغته مع مبادئ حقوق الإنسان التي تتصف بدورها بالعمومية و الكونية و الشمولية في المطلق:
و حتى الأمثلة التي يقدمها كانط للبرهنة على صحة القاعدة الأخلاقية كواجبات تتجه نحو الذات و نحو الغير، يمكن أن نستخرج منها بعض الحقوق التي دافع عنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
و سنبدأ المثال الأول الذي يمكن أن نستخرج منه ما يطابق في حقوق الإنسان: حق الحياة:
فالمثال يقول: إن إنسان تحالفت عليه المحن و الآلام في الحياة فهل يحق له أن ينتحر؟ إن القاعدة التي سيثبتها ستكون هذه: "حبا لذاتي، فإنني انتحر، لأني لو استمررت في الحياة للقيت من المصائب أكثر من النعم. فهل يمكن حب الذات، مفهومها على هذا النحو، أن يصير قانونا كليا للطبيعة؟ كلا لأن الطبيعة التي سيكون قانونها هو تدمير الحياة نفسها بواسطة نفس الشعور الذي وظيفته الخاصة هي الحث على تنمية الحياة، مثل هذه الطبيعة ستكون متناقضة مع نفسها، و لن تبقى بوصفها طبيعة. و إذن فهذه القاعدة لا يمكن أن تشكل مكانة قانون كلي للطبيعة، و هي بالتالي مضادة للمبدأ الأعلى للواجب."[22]
و بالتالي نفهم أن اختيار الانتحار لا يمكن أن يعتبره كانط مبدأ للواجب لأن مبدأ الانتحار يتنافى مع قانون الطبيعة الذي يهدف للمحافظة على الحياة. و هو ما يعني تبني كانط إحدى المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان و هو "حق الحياة" برفضه الانتحار تحت أي ظرف.
أما المثال الثاني الذي يمكن أخذه هو المثال المتعلق بالواجبات نحو الغير و المتمثل في مساعدة الغير و يمثل هذا المثال ما يسمى في حقوق الإنسان الواجبات نحو الغير. إذا أن منظومة حقوق الإنسان لا تتأسس على الحقوق بل على الواجبات لأن حقوق البعض هي واجبات عند الآخرين مثلما أن حقوق الآخرين هي واجبات عند البعض.
أما حق الحرية فإنه يجد في القانون الخلاقي الذي هو ليس شيئا مفروضا على الإرادة من خارجها، بل القانون الأخلاقي منبثق عن الإرادة نفسها و هذا ما يبرر طاعته و هذه الطاعة إذن هي حرية، و ليست قسرا. و هذا المبدأ يسميه كانط بالتشريع الذاتي للإرادة. فإذا كانت الضرورة الطبيعية ترغم الكائن غير العاقل على الخضوع لفعل باستقلال عن الأسباب الخارجية و هو ما يعني أن الحرية تعرف كما يلي: "هي تشريع الإرادة لنفسها بنفسها."
و في حديث كانط عن حرية التشريع ليس فيه فقط إثبات لحق الحرية و إنما أيضا حق المشاركة في تشريع القوانين و التي قد ترتبط أساسا بالحقوق السياسية و التي تجعل من الإنسان مواطنا قادرا على المساهمة في إدارة شؤون بلاده من خلال المساهمة بالتشريعات.
ننتهي إذن من خلال البحث في علاقة الأخلاقي بالسياسي إلى أن "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" كتاب ركز على مفهوم الواجب و الأخلاق أن مبادئ الأخلاق لم تكن بعيدة عن مبادئ حقوق الإنسان بل إن تشريعات حقوق الإنسان تستمد جذورها و أصالتها من مفهوم القانون الأخلاقي الذي يعمل على توحيد الناس تحت خاصية العقل و التفكير و الحرية و يساوي بينهم ضمن هذه الشروط و هي نفس المبادئ التي نادت بها حقوق الإنسان.
إذا كان الإنسان لا يملك إزاء الأشياء سوى الحقوق و ليس له أمام نفسه سوى الواجبات، فإن الإنسان إزاء الإنسان له حقوق و عليه واجبات. "فواجبي مثلا أن أحترمك هو حقي في احترامك، و واجبات الآخر نحوي هي شيء واحد، لأن من ينجز واجباته فقد ضمن حقوقه"[23].
و إذا كانت لوائح الحقوق متعددة في فلسفة حقوق الإنسان فهي يمكن تصنيفها بين حقوق سياسية و مدنية تخص كل إنسان مفرد فإن هناك أيضا حقوق جماعية تقوم على أساس حق الشعوب في تقرير مصيرها و حق تحديد النظام السياسي الأمثل و الحقوق الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية. و هو ما يعني أن لائحة حقوق الإنسان هي لائحة مفتوحة و ليست مقفلة و هي قابلة لاستيعاب الكثير من الحقوق بحيث أصبحت حقوق الإنسان متكثرة و متعددة الأبعاد و لم تعد محصورة في مجرد تحقيق الأمن و الحرية و المساواة و إن كانت هذه الحقوق ستظل الأهم ما لم ينجح الإنسان إلى تحويلها من مجرد لوائح نظرية إلى مجال التطبيق و الممارسة.
و إذا قلنا بالتلازم بين منظومة الحقوق و الواجبات، فإن بقدر تعدد الحقوق و تكثرها فإن في المقابل ستجلب الحقوق الجديدة التزامات جديدة للإنسان أو واجبات جديدة إذ بقدر ما يطالب الإنسان بالحقوق لنفسه يطالبه الآخرون أيضا بحقوقهم و كما قلنا فإن حقوق الآخرين ما هي إلا واجبات عندنا. و إذا ما أراد الإنسان أن يحترم حقوقه فعليه أن يوفي واجباته. هل يمكن أن نقول إذن أن " أسس ميتافيزيقا الأخلاق ليست إلا تأسيس ميتافيزيقي للحقوق"[24]
إن فكرة حقوق الإنسان بمعناها القانوني و الإيتيقي و الأخلاقي يبدو أنها فكرة وريثة عصر الأنوار و لكنها في نفس الوقت أصبحت فكرة كلية لأن إذا كانت الحقوق الطبيعية هي أساس حقوق الإنسان تنتهي إلى الكل و هي من حق الكل فإن هذه الحقوق هي أيضا تنتهي إلى الكل و هي بهذا المعنى كلية. و قد أكد كانط على دور الكلية التي تلعب دورا أساسيا في المجال العملي، فما هو ممكن بواسطة الإرادة و الحرية هو القدرة على تحويل المبدأ الذاتي للفعل إلى قانون كلي.
إن حقوق الإنسان بهذا المعنى لم تعد تتأسس على الحق الإلهي و إنما على الضرورة الأخلاقية. عير أن الضرورة الأخلاقية ليست عند كانط سوى الحرية. إن هذا الجمع بين ما ينتمي لمجال الأخلاق و ما ينتمي إلى مجال السياسة هي ما يميز فكر كانط و هو ما يعبر عنه إيريك فايل قائلا: "لم يسبق أن فيلسوفا استطاع أن يجمع بين آراء السياسية و كتاباته حول الدولة و النظام و بين نظريته العامة حول العالم و المجتمع، أي بين نسقه الفكري و النظري العام مثلما فعل كانط."[25]
إن ما يجب الانتهاء إليه في علاقة الحق بالواجب أو حقوق الإنسان بميتافيزيقا الأخلاق أو في جمع السياسي بالأخلاقي أنه ليس هناك تعارض بين حقوق الإنسان و مفهوم الواجب الأخلاقي بل يمكن أن يتحول الواجب الأخلاقي إلى مؤسس حقيقي لحقوق الإنسان إذ ما فهمنا أن حقوق كل إنسان هي واجبات على كل إنسان و يظهر ذلك في حديث كانط عن السلام الدائم يقول: "إنها مشكلة أخلاقية" و باختلاف السبل بين المبدأين كبير لأن بتحقيق السلام الدائم لم يعد يجروا حينئذ باعتباره خيرا ماديا فحسب، بل و أيضا باعتباره شرطا صادرا عن تقديس الواجب."[26]
فالممارسات السياسية التي تندرج ضمنها مقولات احترام حقوق الإنسان يجب ألا تقوم على أساس الأغراض أو الأهداف التي يبغيها رجل الدولة و السياسي كمثل و مبدأ أعلى يجب أن يقام على فكرة الواجب و هو ما يعني أن لا خلاف بين الأخلاق و السياسة.
هل يمكن أن نسلم أن حقوق الإنسان بهذا المعنى هي حقوق أخلاقية بمعنى أساسها و مقوماتها أخلاقية؟
III - فلسفة حقوق الإنسان بين الأخلاق و السياسة:
1 ما معنى حقوق الإنسان؟
إذا كان الأصل في "حقوق الإنسان" أنها تعود إلى الحقوق الطبيعية فإن ملامح المرجعية لحقوق الإنسان كحق طبيعي لم تغب عن الأمم المتحدة التي عرفت في كتاب التربية الصادر عنها سنة 1989 حقوق الإنسان كما يلي: "يمكن تعريف حقوق الإنسان تعريفا عاما بأنها تلك الحقوق المتأصلة في طبيعتنا، و التي لا يمكن بدونها أن نعيش كبشر."
فتحديد الأمم المتحد هذا يأخذ في اعتباره أن حقوق الإنسان هي حقوق طبيعية لا يمكن التخلي عنها و هو ما يعني ضرورة الدفاع عن هذه الحقوق و حمايتها من الانتهاكات.
و لئن تأسست حقوق الإنسان على جملة من الحقوق الأساسية أهمها حق الحرية و المساواة و الملكية، فإن لائحة حقوق الإنسان اليوم تتسع بقدر اتساع انتهاكات حقوق الإنسان ليشملها حقوق فردية و جماعية و غيرها من الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية. و الحق في الإيديولوجية و الحق النقابي و الحق في النضال و القائمة تطول هنا. لكن هل هذا يؤدي إلى التساؤل عن ماهية الطبيعة الملحة لهذه الحقوق المختلفة و هرميتها و إذا ما كنا نقوض الحقوق الأساسية عندما نطلب كل شيء دون تروي
2 حقوق الإنسان و الأخلاق:
إذا ما اقتنعنا بأن الأسس التي بني عليها صرح حقوق الإنسان هي أسس فلسفية أخلاقية، و أن تطور الحقوق يتم دائما تحت تأثير دوافع أخلاقية تعطى لها في أبعاد كونية، و أن حقوق الإنسان هي مبادئ في شكل صيغ تعبر عن حاجات بشرية تلتف كلها حول موضوع الكرامة، و أنها صوت الضمير الأخلاقي الإنساني يمكن أن يحصن هذه الحقوق من التلاشي و الضياع.
و القول بأن الكائن البشري غاية في حد ذاته، يتمتع بالعقل و الإرادة و الحرية و يملك قابلية للتحسن و له ضمير أخلاقي و قادر على القيام بالواجب، يقول كانط: "يجب عليك لأنك تستطيع"[27]
و تحمل المسؤولية هي أطروحات توجد في صلب الفلسفة الأخلاقية. فإلى أي حد نستطيع القول أن عندما تكون أسس حقوق الإنسان أسس أخلاقية، فإن هذا يمنعها عن الانحراف و الانزياح؟ ثم من يكون إنسان حقوق الإنسان؟
يبدو الإجابة عن هذا السؤال أمر محرج، إذ رغم أن حقوق الإنسان أصبحت تمثل من مسلمات الفكر الأخلاقي المعاصر، و رغم الطبيعة الكونية لهذه الحقوق فإنها تبدو و كأنها حقوق الإنسان الغربي لأنها نشأت في الغرب من جهة و لأن عمليا لا نجد حماية حقيقية من الاستبداد و الظلم و القهر و الاحتقار إلا في الغرب المتقدم.
لكن هناك من يشكك في تطبيق حقوق الإنسان حتى في مستوى الغرب الذي رعى هذه الحقوق و ساهم في نشأتها.
و هو ما يتجلى في حديث ريكور عن ما يسمى بالاغتراب السياسي و يرى ريكور : "أن الاغتراب السياسي هو مكون للوجود الإنساني."[28]
و إذا كانت حقوق الإنسان هي شكل من أشكال الوجود السياسي فإنها تشهد هذا الوضع المغترب.
فإلى أين تتجه حقوق الإنسان؟
الخاتمة: حقوق الإنسان إلى أين؟
و أخيرا و بعد الحرب العالمية و الحروب المتلاحقة بعدها، برهنت مشكلة الأقليات المضطهدة و اللاجئين المشردين على إفلاس المثال الأعلى الذي تجسده حقوق الإنسان، المندمجة في الواقع بحقوق المواطنين، لقد كان كل من جرد من مواطنته، و من انتمائه لمدى سياسي ما، يرى نفسه محروما من "حق امتلاك الحقوق" و "مستبعدا من بقية البشرية" و هو ما عبرت عنه حنا آرنت: "لقد انهار مفهوم حقوق الإنسان، القائم على الوجود المعترف به لكائن بشري بصفته تلك، منذ اللحظة التي جابه فيها أولئك الذين كانوا ينادون به للمرة الأولى أناسا كانوا قد فقدوا تماما كل ما تبقى من صفاتهم أو روابطهم الخصوصية. إن لم يكن أنهم بقو بشرا. إن العالم لم ير شيئا مقدسا في العري المجرد للكائن البشري."[29]
لا شك أن واقع حقوق الإنسان على ضوء اختبارها على الصعيد العملي لم ترتقي إلى مستوى طموح الإنسان في الحفاظ على كرامته و حقوقه السياسية و المدنية ذلك أن الواقع السياسي للإنسان يكشف عن انتهاكات غريبة و متكررة لهذه الحقوق، و كأن حقوق الإنسان هي مجرد مثال أخلاقي لا غير بقى في مستوى النوايا الحسنة، فهل وقعنا إذن في المحظور؟ بمعنى هل أن البحث عن أسس أخلاقية لحقوق الإنسان من أجل ضمان عدم انحرافها و تحريفها أوقعنا في سياق مناقض و هو أن التأسيس الأخلاقي يجعلها تبقى في مستوى ما يجب أن يكون و هي لم تكن بعد؟
هل معنى هذا يجب التخلي عن مثال حقوق الإنسان؟
لا بد إذن أن نعترف أن حقوق الإنسان هي مكسب آنساني مهم لا يجوز التخلي عنه بدعوى أنه لم يحقق و لن يتحقق و إنما يجب العمل من خلال الإنسانية على الاستماتة في الدفاع عن هذا الحق، مهما كلفنا الأمر من جهد.
فهل يمكن للإنسانية أن تراهن على انتصار ثقافة حقوق الإنسان؟