ميّز النّاقد العربي القديم بين النّظم والشّعر أو الحرفة والإبداع. وفي زمن القصيدة الحديثة كمصطلح جامع، سقط القالب وأصبحتْ كلّ قصيدة لها قالبها الخاص الذي ينبع من مضمونها ويتدفق من شكلها إلى قلْبها وهذا حال الرّواية، فمع زولا الذي جعل من كثرة التفاصيل دلالة على واقعية حقيقية إلى مركيز الذي خلخل إقليدية الواقع عبر واقعيته السحرية وكأنّه يكتب وفق هندسة ريمان وصولاً إلى أسلوب ما بعد القص حيث يتعمد الكاتب إظهار كيفية تشكّل التخييل في سرده وكأنّه يقارب مسرح بريخت المعاكس لمسرح ستانسلافسكي بحيث يظهر الممثل أنّه يمثل أي بتهكم من موضوعة التطهير الأرسطية.
قد يبدو التابو الديني مازال محافظاً على خطوطه الحمراء لكن النقد الديني المقارن والبحث الأناسي والأركيولوجي، خفّف من حدّته، فلم تعد المقاربة تثير العواصف كما كانت تثيرها أيام "آيات شيطانية" لصاحبها سلمان رشدي وكايين" لسراماغو، رغم أنّ الأولى لا تستأهل هذه الضجة وليس فيها إلا آراء عاطفية لا تغني ولا تسمن من جوع في حين الثانية وأقصد " كايين" سفر نقدي حقيقي بحق المدونة التوراتية/ الإنجيلية.
ذكرت الروايتين السابقتين كمدخل لاستطلاع رواية "مولانا" للكاتب إبراهيم عيسى الإعلامي والصحفي وهو إذ يتناول سيرة أحد شيوخ الفضائيات ويدعى حاتم الشناوي من يوم كان مقرئاً صغيراَ إلى أن تأطر بشاشة الميديا عبر عدّة خطوط متداخلة سواء عبر ابنه عمر المريض وزوجته وأبيه والشيخ الصوفي مختار الهاشمي وأشباهه للشيخ الشّناوي من مشايخ الفضائيات للوصول إلى محاولة ردع قريب الرئيس المصري من أن يصبح مسيحياً لتنتهي الرواية بأن يتم تفجير إحدى كنائس الأقباط في مصر على يد قريب الرئيس المنظّم في إحدى خلايا القاعدة!
الخطوط الحمراء:
يبدو أنّ الشيخ حاتم الشناوي مقتنع أنّه تاجر علم وذلك في إجابته لأبيه، فعلم الشّيخ، الدين وحيث أنّ الشيخ أراد أنْ يكون الشاهد على عالم مشايخ الميديا وذلك تبدى من فضحه لذلك العالم سواء بالتداعي الحرّ أو من خلال تدخل الراوي العليم مسانداً وداعماً لتيار الوعي الذي اعتمدته الرواية من خلال صوت الشيخ حاتم الشناوي.
وعليه الخطوط الحمراء بدأت بموضوعة زواج الرسول(ص) من زينب بنت جحش إلى واقعة الإفك مروراً برضاع الكبير والجدل البيزنطي الذي أداره مع قريب الرئيس وأحد الكهنة حول الانتقال من دين إلى دين.
لا ريب أنّ المواضيع السابقة تشعل النار بمجرد ذكرها وهذا ما يتوقعه القارئ لكن أنْ تكون المقاربة بتعدد القراءات من كتب التراث وأسئلة في الهواء دون محاولة إجابة إلا وفق الفقه التوفيقي هذا ما خيّب التوقع وأعادنا لمقولة سياسية براغماتية: لا يفنى الغنم ولا يموت الذئب وبالتالي لا تقترب مقاربة الخطوط الحمراء، هنا في هذه الرواية، من الرواية التجارية " شيفرة دافنشي" لدان بروان الذي استفاد من الكشوفات والقراءات الحديثة في تدعيم فكرة روايته وهذا ما لم يفعله حاتم الشناوي وفي زمنه جمال البنا وأطروحة أنّ اللغة العربية ليست لغة مرادفات التي فتحتْ أفاقاً واسعة في جدار استعصاء النص الديني وما لحقه من مدونات.
وهنا يحقّ للقارئ أنْ يسأل عن جدوى الخطوط الحمراء المذكورة في الرواية التي لم تكن إلا أسلوباً في الترويج تستهدف القارئ البسيط رغم أنّ تلك المواضيع أشبعت بالبحث على منابر عامة بالإضافة للقراءة الخاصة العلمية البحثية التي يتم تداولها سرّاً كي لا تشوش السواد قد ظهرتْ وبانتْ وخاصة، نحن في زمن النت حيث الخطوط الحمراء هي للأطفال.
ما سبق يأتي من حديث بما معناه: إنّ من يتجر في الدين سيصلى ناراً وبما أنّ الشيخ حاتم الشناوي الكاشف والفاضح للنظام السياسي "المتعالق" مع الديني فاته أن ينقد ذاته بذلك رغم تلك الشطرات السردية التي وصف بها تغير حياته وحياة زوجته وتعالقهما المريع مع رأس المال وذلك يحدث لأيّ شخص في أية مهنة أخرى في حين كان يقتضي أن نسمع من حاتم الشناوي خطاباً جديداً ربما أن يستلهم جمال البنا دون الدخول في لعبة رجال دين الفضائيات التي ممكن تغطيتها بجدارة في أي صحيفة صفراء أو برنامج لرشق الكلام على الفضائيات والسؤال هل يحق أنْ نقول لسرد روائي: كان يجب أنْ....؟
المقاولات الرّوائيّة:
درج ناقدو السينما المصرية على نعتها بأنّها، سينما مقاولات والآن ألسنا أمام نسق من الرّوايات العربية التي تلعب بذات الطريقة عناوين براقة ذات دلالات متفجرة، لكن المضمون هزيل!
سيكون الجواب، وما الضير بالرّوايات الآنية التي تحايث بشكل مباشر الحدث الواقعي من حيث أنّ الرواية مهما سمتْ في التخييل جذورها ضاربة في الواقع، بالطبع لا ضير، لكن، كما يقول "كلايف بل" عن الانفعال الاستطيقي: إنّ إدخال العنصر التمثيلي للشّكل الدّال المعبر عن الواقع المحض المنزه عن الوسائل يجب أن يكون تمثيله لا يعيبه شيء أي خلوّه من الوسيلة رغم أنّه وسيلة لفهم اللوحة وهنا عندما نقارب الرواية وعناصرها التمثيلية من حيث أنّ الرواية متعة إلى جانب المعرفة، فلا بد بعناصرها التمثيلية وأكثرها شهرة التابوهات الثلاثة ألا تتحول لمجرد عرض وطول دون عمق، فنقع بالتابو السياسي ليصبح البيان رقم واحد والتابو الديني يغدو الدين الجديد والتابو الجنسي يتجلى بفضائحية لا طائل منها وإذ كانت الرواية موضوع المقال قد اختارت التّابو الدّيني مجالها الذي تخوض فيه أليس من المفروض أن تمشي على خطوات " كايين " وليس " شيفرة دافنشي"!
في الختام:
ما سبق لا يمكن وضعه في متن النقد بل هو من الهامش وكثيراً ما يكون الهامش هو الرئة التي يتنفس بها المتن.
مولانا رواية لإبراهيم عيسى صادرة عن دار بلومزبري لعام 2012 وهي في القائمة القصيرة للبوكر.