احتجاجات موظفي “بي بي سي” والصحافي الكبسولة!
أزمة في الـ”بي بي سي”
احتج مجموعة من صحافيي “بي بي سي” مؤخراً، اعتراضاً على عمليات التسريح
المستمرة التي تقوم بها الشبكة العريقة. التسريحات طالت الآلاف ومن المتوقع
استمرارها حتى عام 2017 (منذ عام 2004 سرحت بي بي سي ما يقرب من 4 آلاف
موظف).
من السهولة التوقع أن هذه الاحتجاجات لن تمنع إدارة الشبكة التي تعاني
من انخفاض في ميزانيتها بنسبة 20 في المائة عن المضي في قراراتها التقشفية،
وهذا بالفعل ما قالته إدارة المحطة في بيان لها حيث أكدت “أحرزنا تقدما
كبيراً عبر تقليص عدد عمليات التسريح، بفضل الاستقالات الطوعية، وإلغاء
مناصب شاغرة، وسنواصل هذه الجهود”.
نقول من السهولة ذلك لثلاثة أسباب أساسية، وهي التقنية والناس والإعلام.
التقنية لم تؤثر على الصحافة، ولكن على كل مجالات العمل تقريباً. صحيح
أن التقنيين يبدعون في مجالاتهم ويشكلون عالم اليوم، ولكنهم يعملون بطريقة
غير مقصودة بقتل آلاف فرص العمل، وهذا ما سيؤدي، بحسب الخبراء الاقتصاديين،
إلى إضعاف الطبقة الوسطى، مما سيفضي إلى زعزعة استقرار المجتمعات. نرى ذلك
أيضاً في الصحافة. مثلاً، من يعملون في مطابع الصحف الورقية، التي يفوق
حجمها أحيانا حجم المباني المخصصة للتحرير، مهددون، بسبب تطور التقنية،
بخسارة وظائفهم. بل كما نعرف الكثير منهم خسروا وظائفهم نهائياً. الأسوأ أن
مهاراتهم لم تعد مطلوبة في السوق الصحافي، الذي بدأت تتقلص فيه بسرعة فرص
العمل. طبعا التقنية تمنح المسؤولين الماليين عن المؤسسات الصحافية بعض
الأفكار الخلاقة، ولكن المضرة بحق الصحافيين. سيفكرون: إذا تعلم الصحافيون
مهارة الطباعة، لن نكون بحاجة إلى من يطبعون لهم وسنوفر المال. إذا تعلم
الصحافيون إخراج الصفحات، لن نكون بحاجة للمخرجين، وسنوفر المال.
إذا تعلم الصحافيون التصوير، فلن نكون بحاجة للمصورين المكلفين وسنوفر
المال. إذا كان لنا حسابات ناشطة في توتير للترويج، فسنكون قادرين على
تقليص عدد الموظفين الذين مازالوا يستخدمون الوسائل القديمة لإقناع الزبائن
بالاشتراك، وسنوفر حينها المال أيضا. هذا المنطق المالي لا يمكن الوقوف في
وجهه، وهو يحول الصحافيين، وكل من يعمل في محطيهم، إلى أشخاص يمكن
الاستغناء عنهم بسهولة. الصحافيون يصبحون مثل الرجل الذي كان يقود زبائن
الفندق في المصعد، لم يعد له وجود الآن، ولا أحد يتذكره.
التقنيون لا يصحون من النوم وهم يفكرون بتدمير الصحافة أو الأعمال
الأخرى، ولكن جوهر عملهم هو تحقيق أعلى النتائج بأسرع وأقصر الخطوات. لهذا
ولد الآن الصحافي الكبسولة، أو المضغوطة فيه عشرات الوظائف. هو الكاتب
والمصور والطابع ورجل الإعلان من خلال “توتير” و”فيسبوك”. مع كل هذا، لم
يرض عنه الناس وهذا السبب الثاني. لا يجب فقط أن تكون الجريدة أو المجلة
جيدة، بل أيضا يجب أن تكون شعبية، وهناك فرق. نرى ذلك بوضوح بنهاية مجلة
عريقة مثل “نيوزويك” التي شنقت نفسها بنفسها، لأنها كانت مهنية ومحترفة
أكثر مما ينبغي، في الوقت الذي تحظى فيها برامج خفيفة مثل “تي أم زد” الذي
يعتمد على فضائح المشاهير ومطارتهم بالمطارات، بإعجاب ملايين المتابعين.
أتابع على توتير عددا من صحافيي “نيوزويك” المسرحين، ومن المثير للشفقة
محاولاتهم لجعل المتابعين يقرأون ما يكتبون في وظائفهم الجديدة لأنهم – كما
هو واضح- تعلموا من التجربة السابقة.
ليس سراً أيضا، أن العديد من الصحافيين تحولوا إلى التلفزيون، الذي وإن
لم يشبع شغفهم، إلا أنه يعبئ جيوبهم، وهذا هو الأهم هنا. لا يخص هذا تحول
“نيوزويك” وحدها، بل أشهر الصحف تعيش تراجعاً في الأرباح، لذا قام بعضها
بتقليص بعض المهام الصحافية الأساسية مثل المراسلين في الخارج. تقول
الصحافية المعروفة باميلا كونستابل في جريدة “واشنطن بوست” إن الصحف
الكبيرة – بما فيها “بوست” – كانت تدفع المال للمراسلين في أماكن بعيدة، من
أجل الأقامة الطويلة، حتى يتسنى لهم معرفة المكان بتاريخه وثقافته
وصراعاته، حتى يكتبوا بدراية ومعرفة، ولكن هذا لم يعد متاحاً مع التراجع
الحاد في الأرباح. حتى أثرى الصحف لن تتحمل دفع مصاريف صحافي لمدة طويلة،
بل ستدفعه لقلب الأحداث قبل أو بعد وقوعها، وستطلب منه تغطية احترافية !
تغير ذوق الناس سيجبر العديد من وسائل الإعلام لتغيير نهجها، حتى
تتوافق مع هذا التغير، لأنها لا تريد أن تخرج من السوق. هذا السبب الثالث
وهو تغير الإعلام نفسه، بسبب تغير ميول الناس. في الولايات المتحدة هناك
انتقادات توجه لقناة “فوكس نيوز” التي تعتمد على الرأي وليس الخبر، ومع ذلك
اليوم الكل يحاول أن يكون مثل “فوكس نيوز” بسبب شعبيتها ونجاحها المالي،
و”سي إن إن” أبعدت لاري كنغ بسبب أنه هادئ أكثر من اللازم.
المذيع المصري توفيق عكاشة قالها مرة منتقدا مذيع العربية الورواري بالقول
“أنا لا أتبع المدرسة الكلاسيكية في التقديم!”. طبيعة الإعلام هو المواكبة
والتغير، ولكن السؤال إلى أي درجة بحيث يمكن أن تحظى بالمال والاحترام معاً
.