للكذب قيمة، كما أنه معرفة. هذا ما يستشف على الأقل، و إجمالا، من قول
فولتير: حتى الكذب له قيمته. ومن قول سقراط: الجاهل غير قادر على الكذب.
الكذب قديم قدم الإنسان، فهو ابن السلطة في تدبير شؤون المدينة، تنفتح
عليه بشغف كبير لتضمن لحضورها أمنا واستقرارا. كما أن الجماهير لها قابلية
استيعاب الكذب و النفور من الحقيقة في تواطؤ مبهم و غامض أرق الباحثين في
رسم منطلقاته و تحديد آليات اشتغاله، وكأن ماهية السياسة لا تكتمل إلا
بثابت بنيوي هو الكذب. إذ نجد صدى لهذا المنحى عند حنا أرندت التي تقول بأن
الحقيقة بطبيعتها لا سياسية، بل لعلها مضادة للسياسة. فالسياسي الحذق
يونس لطهي
يعرف
بأن الحقيقة عقيمة، معطلة للمبادرة، وغير محفزة على التعبئة و الاستنهاض،
مثبطة للعزائم والهمم، تأسر الإنسان في قسوتها الخانقة. لذا فهو يلجأ إلى
الكذب و مرادفاته من وهم وتضليل ومغازلة انتظارات مادته وقاعدته الانتخابية
والتماهي الكلي مع ميولاتها الوهمية و الحالمة. فالسياسي هنا لا يسجن نفسه
في الحقائق، بل يتجاوزها بركوب الكذب ومداورة مفاهيمه وتصعيدها إلى درجة
علمية آسرة تفتن الجمهور و تسحره لتضمن ولاءه. هذه الحصيلة المحزنة للسياسة
تدعمها الوقائع والأحداث.
هل قدر السياسة أن ترتبط عضويا بالكذب؟
إذا كان أوسكار وايلد زرع بصيص من الأمل بعنونة أحد كتبه بأفول الكذب،
فإن ألكسندر كويري يؤكد أننا لم نكذب قط بالقدر الذي نكذب به اليوم. كما
أننا لم نكذب بهذا النحو السفيه والنسقي والراسخ كما نكذب اليوم. وأكثر من
أن تحصى هي الحالات التي تؤكد ذلك. فقد تم تدمير العراق تحت ذريعة وجود
أسلحة دمار شامل. فالكذب هنا تحول بدوره إلى دمار شامل بالنظر إلى حجم
الخراب الذي أحدثه.
برغم الاهتمام المتزايد بتحديد مفهوم الكذب، و بالخصوص السياسي منه، ظل
مفهوما إشكاليا، لم تتم الإحاطة الشاملة بمدلولاته وسياقاته، وبالتالي
استحالة إصدار حكم قطعي حوله، فمن وراء كل حقيقة أو قول صادق، توجد دائما
شذرات من الشك. كما أن الكذب السياسي بات له تاريخ. فقد ميزت حنا أرندت بين
الكذب التقليدي الذي أقصى ما يطمح إليه هو حجب الحقيقة والالتفاف عليها.
أما الكذب المعاصر فهو كذب وقح وكارثي، فهو يعرف أنك على إلمام وعلى إطلاع
على الحقيقة، لكنه لا يكل في سعيه المهووس إلى تسفيهها والنيل من موضوعيتها
أمام ناظريك.
كما أن هناك من يدعو إلى نشر الكذب بدون مواربة او تخفي كالمحافظين
الجدد وملهمهم ليو شتراوس الذي جعل من الكذب فضيلة حميدة وحرض أتباعه على
منحه المكانة اللائقة به في السياسة الدولية لحماية الحضارة الغربية لكي لا
يتم فضح و تعرية وحشيتها و بربريتها وإقناع باقي العالم بتمثل قيمها
الحضارية.
يمكن للمرء أن يتفهم تسلل وتسرب الكذب إلى السياسة لأسباب عدة، وعلى
رأسها، كما قال منظرو الكذب السياسي، كون السياسة اليوم لم تعد مرتبطة
بالعقل، وبالتالي بالحقيقة، بل بالرأي، أي الخيال، من هنا لصوق الكذب بها.
لكن هذه الدعوة إلى ترسيخ الكذب السياسي و ممارسته بضمير مرتاح، و بهذا
الشكل الفج و البذيء، هو محط إدانة واستهجان كل من اهتم بدراسة الكذب
السياسي لأنه يبخس الفعل السياسي ويهينه في عيون الجمهور ويجعله رديفا
للعدمية.