تكسير المعنى وتكسير اللغة
مليكة مبارك
(ناقدة جزائرية)
«الشاعر الشاب المتفتّح، كجيل شعري بأكمله، على انكسار العالم»، هذا ما
قاله الشاعر والمسرحي الراحل عصام محفوظ في وصف الشاعر الشاب أنذاك بول
شاوول، أثناء تقديمه ديوانه الأول (1) وهذا ما يصلح مفتتحاً للحديث عن
الانكسار - المبتدأ والتكسير - الخبر في شعر شاوول.
في الحقيقة لقد ولّد انكسار الواقع مرادفه الشعري في تكسير المعنى، وحتى
تكسير اللغة من خلال إقفالها. إنها «المعادلة الصعبة بين حساسية الشاعر
وعصره» (2)، والمعادلة المبدعة بين انكسار الشاعر وانكسار العالم. وفي وسع
القارىء أن يعتمد اللغة الشعرية مؤشراً أو خطاً بيانياً لمعرفة التواتر أو
التصاعد في هذين الانكسارين. ففي كل ديوان من دواوين الشاعر، وهنا في وسعنا
أن نخصّ بالذكر ديوانَيْ «الهواء الشاغر» و«وجه يسقط ولا يصل»، نقع على
لغة ذات ولادات دائمة ومتجددة تفتح على أشكال و«منزلقات» تساهم في صوغ هوية
شعرية خاصة بكل عمل إلى درجة أنه في وسعنا القول إن كل كتاب لشاوول هو
تجربة قائمة بحدّ ذاتها.
تكسير المعنى وإقفال اللغة، بل تكسير المعنى من خلال إقفال اللغة. هذا
الإقفال الذي يتم في حركة لولبية ارتجاعية يفور منها زبدٌ مفاجىء. قد يكون
بول شاوول من أكثر الشعراء تجريباً في اللغة وعبرها، وصولاً إلى المعنى أو
اللامعنى. فقد مدّ شاوول لغته إلى ما قبل الإفلات بقليل كما في «كشهر طويل
من العشق»، ودوّرها كراتٍ منفصلة يجمع بينها خيطها كما في «وجه يسقط ولا
يصل»، وأقفلها لولبياً بعد تحطيم الكامن فيها كما في «الهواء الشاغر». ربما
يكون من الجيد إذاً الانطلاق من مقولة للكاتب الأرجنتيني بورخيس حول كون
المعنى «شيء يضاف إلى القصيدة» كي أشير إلى أن المعنى في الشعر ليس الشعر.
هي مقولة تنطبق على قصيدة «السقوط والمكان»، على سبيل المثال لا الحصر،
التي «نشك» في وجود المعنى وراءها، أو نعتبره على الأقل، وإلى حد بعيد،
مضمراً بسبب غلافها اللغوي المتدحرج ككرة ثلج لعوب.
فلندقق في المقطعين الآتيين:
«أحياناً تسقط/ لأنك/ تختار مكاناً/
تسقط/ فيه/ أحياناً لا تسقط/ لأنك/ لا/ تجد/ مكاناً/ تسقط/ فيه». إذا ما
قارنّا بين هذين المقطعين يتبيّن لنا الآتي: ترد الكلمات في المقطعين
بالترتيب نفسه مع بعض التغيير، ويتمثل التكرار في الكلمات الآتية:
«أحياناً» «تسقط»، «لأنك»، «مكاناً»، «فيه». أما التغيير فيتمثّل في صيغة
النفي «لا»، وفي استبدال فعل «تختار» بفعلٍ آخر هو «تجد».
في المقطعين يشدد الشاعر على فعلٍ واحد هو السقوط، مثبّتاً «الفاعل»
(أنت)، وظرف الزمان (أحياناً). لكنه يحرّك ظرف المكان من خلال استبدال
المكان المختار بآخر مطلوب، لكنه غير موجود.
عدد العبارات في المقطعين
هو نفسه، مع زيادة «لا» في المقطع الثاني. في نظرة أولى، يتبادر إلى الذهن
أن المقطع الثاني ليس سوى نفي للأول. لكن، سرعان ما نتبين وجود نفيين في
المقطع الثاني: نفي السقوط، ونفي اختيار المكان. هذان النفيان سينفي
واحدهما الآخر ليصبحا في نهاية المطاف توكيداً.
عملياً، نجد أنفسنا أمام المعنى نفسه في المقطعين: تسقط لأنك تختار، ولا تسقط لأنك لا تجد. ثمة معنى إذاً، وإن موّهه التكرار.
لننتقل
الآن إلى المقطع الثالث: «أحياناً تسقط/ ولا تسقط/ لأنك/ وجدت/ مكاناً/
لن/ تسقط/ فيه». ماذا فعل الشاعر في هذا المقطع؟ لقد ثبّت المكان «وجدت/
مكاناً»، وجمع الفعلين السابقين أي البحث والاختيار، ما ولّد ارتجاجاً في
المعنى المكرر سابقاً: «تسقط/ ولا تسقط».
بالطبع يمكننا المتابعة على
هذا النمط من التحليل بالنسبة إلى أجزاء القصيدة الثلاثة الباقية، فهي
إجمالاً تشبه هذين المقطعين من حيث التركيب الذي يهدف إلى إرباك المعنى، مع
تغيير الأفعال والظروف في كل مرة، حتى نصل إلى التركيبة - الذروة في
الإقلاق، والتي تقوم على تكرار العبارة الشعرية نفسها مع تغيير كلمة واحدة
في كل مرة. هذه الكلمة تكون كافية لتغيير مسار الفهم وتشويشه، كما في:
«تتوقف فجأة/ عندما ترى/ خطاك/ توقفت/ قبلك» التي تتكرر على النحو الآتي:
«تتوقف فجأة/ عندما ترى/ خطاك/ توقفت/ بعدك». ما تغيّر هنا هو ظرف المكان.
بما يوحي وكأن المكان الواحد قد تشظّى في اتجاهين متعارضين، بعدما جعل
التكرارُ الكلمات الأخرى لامرئية تقريباً، مسلّطاً الضوء على المكان فقط.
قصيدة «السقوط والمكان» تنتهي بسقوط يوائم ما بين الشكل والمضمون. فكلمة
«الهواء» وهي آخر كلمة في القصيدة تظلّ هكذا وحيدة، متأرجحة في العدم لا
نقطة بعدها ولا فاصلة تفصلها عن الكلام الذي لم يُقَل. هذا «القطع» السريع
الذي يمكن وصفه بالسينمائي يباغت القارئ الذي كان ينتظر أن تأتيه تتمة
القول، ليدرك أنه وقع في شرك لعبة الشعر الصرف. الشعر في المعنى الذي تحدّث
عنه أوكتافيو باث، أي استنباط معادلات كيميائية جديدة بين الكلمات العادية
التي يستعملها بائع الخضار وربّة المنزل وماسح الأحذية والمدير (3)، هذه
العلاقات التي تمنح الكلمات - الرموز المشتركة بين بني البشر سحراً جديداً
وغير مألوف، ويمكن وصفه بالخاص جداً والحصريّ.
قصائد «الهواء الشاغر»
و«وجه يسقط ولا يصل» هي من نوع «قصيدة البياض» أو «القصيدة المفتوحة». هذه
القصيدة المختزلة، المكثّفة، المكتنزة، التي تتخذّ من البياض حيّزها
السينوغرافي، تماماً كما في المسرح، حيث يلعب الفضاء السينوغرافي دوراً
مكمّلاً للكلمة. ولهذا ربما، وصف شاوول هذا النمط من الكتابة بالأصعب. لأن
البياض لا يجدي نفعاً ما لم تكن اللعبة اللغوية متقنة، وهي لعبة دقيقة
جداً، لأنها قابلة للانهيار في أي لحظة نظراً لكونها موجزة ومرهفة، في حين
قد تحتمل القصيدة الطويلة بعض الوهن.
تدمير البنية الذهنية واللغوية
والمنطقية للشعر. هذا ما اعترف به شاوول ذات مرة أثناء حديثه عن «قصيدة
البياض»، وهذا ما نستنتجه من خلال قراءة قصائد مجموعتيه المذكورتين آنفاً.
على أنه يمكننا ملاحظة اللعبة السينوغرافية بوضوح أكثر في «وجه يسقط ولا
يصل»، لا سيما في قصيدة «أسرار الحديقة» التي يعمد فيها شاوول إلى الرسم
بالكلمات، فلنقرأ:
«يفتح العصفور الحديقة
ويغلق
جناحيه».
في هذا المقطع تحديداً يمكننا ملاحظة التكامل ما بين الكلمة وبياضها،
وما بين القصيدة ومسرحها. إننا إزاء لوحة متكاملة، فالكلمات تستخدم الفراغ
بقدر ما يستخدم الفراغ الكلمات. كلاهما ممثّلان على مسرح واحد. كلاهما
رئيسيان بقدر كونهما ثانويين. وفي هذا الإطار أيضاً، لا بدّ من الحديث عن
نمط جديد استخدمه شاوول في قصائده هو نمط القصيدة - الصفعة، القائمة على
لفظتين: «يصل/ وينسى./ يسأل/ وينتهي». بين هذين الجملتين الموجزتين، نشعر
وكأن باباً يُصفق، لكننا نبقى في حالة انتظار. مع أننا «نُزجّي» انتظارنا
هذا بجمل أخرى مشابهة: «تحميه ظلاله/ ويختبئ»... حتى نصل في النهاية إلى
البياض - المسرح العاري: «زبدٌ/ في بياضه الأول/ زبدٌ/ في بياضه الأخير».
وبما
أن الحديث يدور حول الشكل السينوغرافي، لا بدّ أن نلاحظ في الكتاب نفسه
الجزء الطويل الذي يحمل اسم «ميناسّا». هذا الجزء هو عبارة عن قصيدة داخل
قصيدة داخل قصيدة، على طريقة الدمى الروسية. فلو جمعنا عناوين القصائد التي
تشكّل هذا المقطع ستتكوّن لدينا القصيدة الآتية شبه المكتملة: «تسلّمك إلى
أقرب صباح/ ضمّتك ميناسا الليل/ الصوت والأوراق وميناسّا». هذا الشكل
المعقّد للقصيدة لا يوارب في إشهار شعريتها، فالشعر يتلظّى داخل ذلك كله،
ويتجلّى في لقطات بارعة جداً بقدر ما هي حارّة، كما في: «ميناسا/ تنام/
وتحرس موتها»، أو «تجرح/ صباحها/ وتغتسل به»، أو «تنزف/ إليك/ ميناسا/ من
بياضها/ الأخير/ (تنزف/ إليك/ ميناسا/ من عينيك)»...
وبالعودة إلى
التكسير الذي افتتحنا به بداية الكلام، يمكن القول إن «قصيدة البياض»
الشاووليّة في السبعينيات، كسّرت البنية الذهنية واللغوية والمنطقية للشعر
السائد حينها. لكن بعيداً عن الأسلوب، ما يهمّ في النهاية هو الشعر نفسه
الذي إما أن يولد حيّاً وإما أن يولد ميتاً بحسب تعبير بورخيس (4)