** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الكونيات والفلسفة I_icon_mini_portalالرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 الكونيات والفلسفة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الكرخ
فريق العمـــــل *****
الكرخ


عدد الرسائل : 964

الموقع : الكرخ
تاريخ التسجيل : 16/06/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 4

الكونيات والفلسفة Empty
01102012
مُساهمةالكونيات والفلسفة




الكونيات والفلسفة










إن



دراسة الكون لا تنفصل وجوديًا عن دراسة الذات التي تشكل أحد نتاجات الكون الأصيلة،
ولعل دراسة الكون وغوامضه هي المفتاح لفهم الذات وهذا ما أراه يعبر عن المضمون
العميق لجملة سقراط بأن يعرف الإنسان نفسه، وهذا ما أراه يعبر عن المضمون الغني
لدراسات فلاسفة اليونان ومن قبلهم الميثولوجيات الدينية لحل لغز الوجود الكوني
وبنفس الوقت من خلاله دخول عالم الذات العميق، ومن هذا المنطلق بالذات أجد التقاطع
التاريخي بين الكونيات والفلسفة، فكليهما يعبران عن طرح شمولي للفهم، وكليهما
قائمان على تساؤلات وفرضيات ونظريات وتخيلات لعوالم ممكنة، ويكفي أن نفهم التقاطع
العميق بين مونادات لايبنتز الفلسفية وعوالم أفريت الكونية، ومفهوم الزمن الفلسفي
مع زمان النسبية العامة، وشمولية جبرية اسبينوزا مع مفاهيم الكون الثابت، ونظرية
الخير عند أفلاطون أو الفراغ عند ديمقريطس أو الله عند لايبنتز التي تؤدي كلها
الدور نفسه في النظرية الكونية، وتصورات موسيقى الكرات القديمة للكون عند
الفيثاغورثية مع نظرية الأوتار الفائقة الكونية التي تقترح أن المشهد المجهري
للمادة تغمره أوتار دقيقة تتحكم أنساق اهتزازاتها في تطور الكون، لنرى مدى التقاطع
التاريخي بين نمطي المعرفة.



فالكون لم يكن بالمحصلة عند هؤلاء الفلاسفة إلا نموذج متكامل لتصورات الخلود
واللاتناهي، إنه المطلق الوحيد الذي نراقبه حسيًا ونتصوره حدسيًا لكي يطاوع خيالنا
البشري، لذلك مثَّل عند الفلاسفة الوجود بكل معانيه سواء عقلي كان أو مادي، لذلك
نرى الميثولوجيات القديمة بأفكارها الفلسفية لم تخرج عن هذا الإطار التلاحمي بين
الفكر الفلسفي والوجود الكوني، وهو الأمر الذي تابعته الفلسفات اليونانية بمعناها
المنهجي الشمولي عندما أرجعت العالم إلى عناصر أربعة ترتبط بشكل عضوي بانعكاس
المادة الكونية على الفكر التأملي، فهذه العناصر هي النار والتراب والهواء والماء،
فالنار هي مادة النجوم الملتهبة، والتراب مادة الأرض المركزية، والهواء هو الصلة أو
الفراغ الذي يربط السماء بالأرض، والماء هو المحيط الكوني السماوي الذي يبزغ منه
الوجود، لذلك نرى أن الإنسان عندما تساءل فلسفيًا لم يجد إلا الكون يستقي منه
الإجابات، فالوعي الكوني لا ينفصل ضمن هذا المنطلق عن الوعي الفلسفي، بل أرى بأن
الوعي الفلسفي هو المقابل الذاتي للوعي الكوني، وإذا كان وجودنا كوني أو نتاج كوني
بطبيعته، فالأحرى أن يكون وعينا هو انعكاس مباشر لهذا النتاج، فتصورنا للكون لا
ينفصل عن وعينا به، وهذا ما جعلنا ننسب لدماغنا الواعي صفة الكون الأصغر كمقابل
للكون المادي الكبير.



ومن هنا نجد أن لقاء نتاجنا كوعي مع نتاج حضارة كونية أخرى لا يوجد له من حيث
المبدأ إلا إمكانية واحدة للفهم والتفاهم، هي إمكانية التساؤل الناتج عن وعي فلسفي
للعالم، لأن التساؤل كان وما يزال هو أساس النتاج الفكري للوجود الواعي لكل كائن
عاقل ليس فقط في عالمنا الأرضي المحدود، بل في كل حضارة ووجود واعي في الكون أيًا
كان شكل هذا الوعي، ومن هنا لا يمكننا أن نستغرب عندما نستنتج بأن نموذجا المعرفة
الكوني والفلسفي هي من أقدم نماذج الوعي المعرفي للبشر، وذلك لأن الكون في جوهره
تساؤل، إنه وعي فلسفي للوجود كما أن فكرنا الفلسفي بالمقابل ذو طبيعة كونية، إنه
شمولي الطرح بعيد عن إشكاليات التخصص الآلي لذلك نجد أن الوعي بالكون نشأ كما الوعي
الفلسفي مع نشأة الإنسان ككائن مفكر، فنحن لا نعرف على وجه التحديد في أي عصر من
عصور التاريخ كانت بداية الاهتمام بعلم الكون كما لا نعرف على وجه الدقة متى كانت
بدايات التساؤل الفلسفي عن الوجود، لأن بدايتهما كانت ببساطة مع بداية وجود الإنسان
المتسائل المتأمل. والتساؤل الكوني كما الفلسفي يستدعي النظر إلى السماء كما التأمل
يستدعي النظر للأعلى، والمجهول هو الذي يخلق الدهشة والتساؤل، وهل هناك مجهول أعمق
وأكثر لغزًا من الكون ذاته، ولعل هذا النموذج المعرفي هو ما نراه يشكل الأساس
المنطقي للتفاهم مع حضارات كونية أخرى، حيث لا أعتقد وجود حضارة واعية في الكون لا
تنظر إلى السماء التي منها جاءت.



فالنجوم هي جذورنا والمادة التي غذت السديم الغازي الذي نشأت منه الشمس والكواكب
والحياة على الأرض اُبتدعت في مصانع كونية فسيحة وربما تكون ما زالت تنتج تلك
الكائنات الخلاقة، ففي الظلام الدامس بين النجوم نعرف أنه ثمة غيوم من الغبار
والمواد العضوية والغاز التي أمكن الكشف عن العشرات من الأنواع المختلفة منها،
وغزارة تلك المواد العضوية تشير إلى وجود مادة للحياة في كل مكان في الكون
[1]،
لذلك يبدو أن منشأ الحياة وتطورها مرتبطان بشكل جوهري بمنشأ النجوم وتطورها، فمن
ناحية أولى نجد أن المادة نفسها التي نتألف نحن منها، والذرات التي تجعل الحياة
ممكنة كانت قد ولدت منذ زمن بعيد وفي أماكن بعيدة في النجوم الحمراء العملاقة، حيث
أن الوفرة النسبية للعناصر الكيميائية التي وجدت في الكون تتوافق مع الوفرة النسبية
للذرات المتولدة في النجوم بشكل لا يترك سوى القليل من الشك في أن النجوم الحمراء
العملاقة والمستعرات العظمى هي الأفران التي صنعت منها مادة الحياة
[2]،
لذلك يبدو أن أصلنا النجمي يبحث عن التفسير الفلسفي لمعنى الحياة والموت طالما أن
تطور الحياة على الأرض يحثه جزئيًا الموت المأساوي للنجوم الكبيرة البعيدة. فعلم
الفلك لم يكن إلا لهؤلاء الذين يرغبون بأن يكونوا واسعي الخيال
[3]
وعلم الكون بالأساس ذو طبيعة تساؤلية، وتلك الطبيعة التساؤلية جعلته بالتوازي مع
الفلسفة يتناول تصورات شمولية غالبًا تبدأ بطبيعة حدسية للعالم، ومن هنا نجد أن
مفاهيم هذا العلم المتداولة تدخل في أشد حالات التفكير الفلسفي عمقًا وتناولاً
وإشكالية كمفهوم الزمان والمكان واللامتناهي والحتمية والفوضى والمطلق والبداية
والمحدود واللامحدود، لهذا لا نستغرب أن يكون أساس التفكير الفلسفي بصورته المنهجية
ذا طبيعة كونية الأمر الذي نراه بوضوح عند الفلاسفة اليونان الأوائل قبل سقراط
عندما بدؤوا فلسفاتهم بتناولهم لأصل العالم والوجود الكوني ومصيره.



ومن هذا التقاطع الواضح لا يمكننا أن نتجاهل الدور الخطير الذي لعبته الثورات
العلمية في علم الكون في النظرة الفلسفية للوجود، ونذكر على سبيل المثال أن
كوبرنيكوس قد فتح المجال واسعًا أمام نظريات مفتوحة بدأت من إثارة قلق الإنسان
الوجودي بمفاجئة عدم مركزية كوكبه وبالتالي عالمه لم يعد هذا العالم الفريد
والمميز، بل عبارة عن جزء من عوالم قد تكون لامتناهية، وهنا شعر الإنسان بضرورة
إعادة قراءة نفسه وموقعه في الكون ليرجع إليه صدى نداء سقراط العميق مرة أخرى
بضرورة معرفتنا لنفسنا من جديد، حيث لم يكن الفلك إلا امتدادًا للفكر المقدس
السرمدي الأبدي، لذلك لا نستغرب اضطهاد الكنيسة لغاليليو حينما سجل لأول مرة رؤية
بقع على سطح الشمس التي كانت ترمز إلى الكمال. كذلك أثرت تصورات نيوتن الكونية
الشمولية الحتمية بعمق في التفكير الفلسفي للعالم، وتلك التصورات ساهمت بشكل فعال
بتقديم الفيلسوف الكبير كانط نظرية تقدم تصورًا مقبولاً قائمًا على قوانين محددة
لنشأة النظام الشمسي من سديم أولي من خلال كتابه نظرية السماء، حيث انطلق من
فرضية مفادها أن بعض السدم هي مجرات مشابهة لمجرتنا، مؤكدًا بأن السدم هي عبارة عن
أقراص دائرية ذات قدر وشكل مشابهين لمجرتنا وأنها تبدو اهليجية لأن معظمها يُرى
بالنسبة لنا في وضع مائل، وإن كان تألقها ضعيفًا فذلك طبعًا لأنها بعيدة جدًا
[4].
لذلك لا يمكننا من هذا المنطلق أن نستبعد الجدل الفلسفي من علم الكونيات، وعلى سبيل
المثال افترض العلماء إلى عهد ليس بالبعيد ما يسمى بالمبدأ الكوني التام الذي يقول
بأن كل مكان في الكون يماثل إلى حد كبير أي مكان آخر فيه، وهذا بدوره يفترض بأن
العلوم الفيزيائية تؤكد على الدوام أن التجارب يمكن إعادتها بحيث تعطي نفس النتائج
وبصورة خاصة إذا أعيدت تجربة ما بعد فترة قدرها ستة أشهر عندما تكون الأرض في جزء
آخر من الكون بسبب حركتها حول الشمس حيث لن يتوقع أي اختلاف في النتيجة. هذه
المسلمة تتطلب تحديدًا لبنية الكون حيث تصبح هذه المناقشة أقوى بكثير إذا تبين أنه
يوجد ضمن التجارب الفيزيائية وما يرافقها من المناقشات النظرية نوع من الملاحظات
والمناقشات التي تحدث في علم الكون. كما أنه في أية نظرية في المقابل لكون متغير لا
بد أن توجد افتراضات عن كيفية تغيير قوانين الفيزياء عندما يتغير المحيط بصورة
تامة، وهذه الافتراضات ستكون إختبارية تمامًا كما الاستمرار بهذا الاتجاه احتمالي
القيمة للحقيقة. ويكفي أن نعرف مدى أهمية الجدل الفلسفي في الكونيات عندما نعرف أن
الوضع حتى بداية الستينات من القرن الماضي كان في صراع فكري عنيف بين نموذجين
للكون: فهناك متزعمو نموذج الانفجار الكوني وهم الميالين إلى المنطق والصرامة في
تفكيرهم الواقعي الاتجاه؛ في المقابل كان هناك أصحاب نظرية الحالة الثابتة الذين
يعتبرونهم ساذجين في دعواهم لأنهم لا يصنعون افتراضات غيبية، وبذلك انصب نقدهم على
أن أصحاب التصور الأول لا يملكون إلا مجموعة من النماذج المحتملة بدلاً من نموذج
واحد كنموذج كون الحالة الثابتة
[5].
وما يحدث في الوقت الراهن هو تغير ينطوي على مفارقة، فنحن من ناحية نفهم الكون
بأعمق مما فهمناه قط في التاريخ ولدينا نظريات يمكن اختبارها تبين لنا كيف انبثق
الكون وكيف سيكون ؟ إلا أننا في المقابل أصبحنا نعي أننا كلما زاد فهمنا زادت
الاحتمالات الغريبة لجهلنا، فالكون قد يكون في الحقيقة أغرب بكثير مما يمكننا أن
ندركه
[6].
فحجم الكون وعمره خارج إدراك الإنسان العادي، وفي مكان ما بين اتساع الفضاء وخلود
الزمن يضيع كوكبنا المعروف بالأرض. وفي المنظور الكوني فإن كل الاهتمامات الإنسانية
تبدو غير مهمة بل وبائسة، ومع ذلك فإن جنسنا البشري فضولي يمتلك وعيًا وخيالاً. وفي
السنوات الأخيرة استطاع أن يصل إلى اكتشافات مذهلة عن الكون الكبير الذي يشكل ميدان
خيالنا ويمدنا بالتصورات المتضمنة الغموض والأمل والحقائق الغريبة بل والمقلقة
أحيانًا؛ فهو كما كان مصدر ليقيننا الحتمي يعتبر وبمفارقة واضحة مصدر لشكنا وقلقنا
المتواصل، لذلك نجده دائمًا يتحدى حدود تصوراتنا مع كل تطور أو اكتشاف جديد مذهل
لغوامضه، ومن خلاله نعرف أن تصوراتنا عن الوجود والمادة والفكر قد تغيرت بما يكفي
لأن تدهش أكبر فلاسفة العصر اليوناني والعصور الوسطى، كما سنندهش، في الوقت نفسه،
إذا قدر لنا أن نعيش لأجيال لاحقة التي سترى منظورًا جديدًا للكون مع تصورات جديدة
للعالم لم نستطع حتى الآن أن نعيها بخيالنا وحدسنا الفلسفي، حيث يقول وينبرغ كمثال
عن ملكة الخيال في التصورات الكونية:



في البدء حدث انفجار، ولكن ليس كالانفجار الذي يمكن أن نشاهده على الأرض، وإنما حدث
في كل مكان وفي آن واحد فملأ الفضاء كله منذ البدء وهرب كل جسيم عن كل ما عداه،
وقولنا هنا (الفضاء كله) يمكن أن يعني كل فضاء كون لامنته، مثلما يعني كل فضاء كون
منته أي منحني مغلق على نفسه كسطح كرة. حتمًا لن يسهل علينا تصور الإمكانية الأولى
أو الثانية، غير أن هذه الصعوبة لن تمنعنا من المتابعة، وكون الفضاء منتهيًا أو غير
منته أمر لا أهمية له من الناحية العملية عند بدء الكون
[7].



وكمثال آخر يوضح تلك العلاقة الجدلية بين الكون كوجود وتصوره كفكر قد نقول إنه من
قبيل اللغو الحديث عن أكثر من أربعة أبعاد، وأيًا كان أمر هذه الأبعاد فأين يمكن أن
نضعها ( فوق – تحت – أمام – خلف)، فما قد يصدمنا هو أن نعرف أننا في الكون نفتقر
إلى تعريف واضح للآن من الوجهة الفيزيائية، ليس فقط على الصعيد المحلي، بل على
الصعيد الكوني أيضًا. إننا نتطلع إلى الكون على أنه المستقبل فنفاجأ بكونه ماضيًا،
وكلما سبرنا الكون إلى مسافات أبعد كلما عدنا إلى الوراء آلاف وملايين وآلاف ملايين
السنين
[8].
لذلك فإن مفاهيم الآن والمكان والماضي والمستقبل تتداخل في الكون إلى درجة تجعلنا
نشك في أهمية هذه المفاهيم خارج حدود عالمنا الأرضي. فالاتجاهات الممكنة قد استنفذت
بالفعل. ولا شك أن كل الأبعاد التي يمكن تخيلها بسهولة قد استنفذت. على أن هذا
بدوره قد يكون حكمًا على قصور قدرتنا على التخيل بدلاً من أن يكون حكمًا على طبيعة
الكون، فقبل النسبية لم يكن لخيالنا إلا أن يتصور ثلاثة أبعاد، وبعد نظرية الأوتار
الفائقة يمكن التكلم نظريًا عن أكثر من عشرة أبعاد للكون
[9]؛
فالزمان والمكان بالمعنى المألوف التقليدي لا ينطبق تمامًا على وجودهما في المفهوم
الكوني، حيث علمتنا النسبية أن الميقاتية التي اعتدنا عليها تقوم عمليًا بقياس مدد
الزمن لا سرعة مروره، والفرق بين الأمرين كالفرق بين المسطرة وعداد السرعة؛ فدور
الميقاتية بالنسبة للزمن كدور المسطرة بالنسبة للمكان، وعليه فإن العالم الموضوعي
الذي نعيشه ليس إلا الزمكان بكلية إحداثياته في جميع الأمكنة والأزمنة بدون حاضر أو
ماض أو مستقبل. لا مفر لنا من الاعتراف بأن خصائص الزمن الذي نستشعره في حياتنا
العادية ليس بالمفهوم الموضوعي على الإطلاق، وما كان له أن يوجد لولا وجودنا
كمراقبين متأملين نحاول تطويع العالم لمفاهيمنا المتخيلة والمرغوبة والمريحة
[10].
وفي المنظور الفلسفي نجد أن وجودنا كأحياء مفكرين هو الذي يهب للزمن الحياة والمعنى
ويضفي عليه الحركة، وفي عالم خالٍ من الحياة كوعي تيار الزمن سيتوقف عن كونه ذا
معنى على الإطلاق. لذلك يبدو أن قدرة الكون على توسيع خيالنا وحدسنا الفلسفي مرتبط
بقدرة فكرنا على احتواء هذه الإمكانات المذهلة التي يطلعنا عليها مع كل اكتشاف
جديد. فالكون يعلمنا بالإضافة لمحدوديتنا ولكن سعة أفقنا بأنه لا يوجد شيء اسمه
قانون مطلق في العالم على الصعيد الفيزيائي؛ فنحن، على الأقل الآن، لا يمكننا
التحدث عن قوانين كونية إلا إذا استطعنا أن نتصل بعوالم أخرى نختبر فيها إمكانية
وقابلية انطباق هذه القوانين عليها، هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن أبعاد الفضاء
المكانية تتحدى قدراتنا على القياس، ومداه الزماني يتحدى يقيننا بثبات قوانيننا
واستمراريتها مع تتالي الأجيال والاكتشافات الحديثة، حيث يقول العالم الكبير كارل
ساجان:



إن دراسة المجرات تكشف نظامًا وجمالاً كونيين، كما تُظهر لنا أيضًا عنفًا فوضويًا
على نطاق لا يخطر في البال، وواقع أننا نعيش في كون يسمح بوجود الحياة هو أمر ذو
أهمية بالغة، وأن نعيش في كون تدمر فيه المجرات والنجوم والعوالم هو أيضًا أمر بالغ
الأهمية، فالكون لا يبدو رؤوفًا ولا عدوانيًا، بل مجرد غير مبال بهموم مخلوقات
مثلنا
[11].



وهو أمر يذكرنا تمامًا بقول الفيلسوف الكبير اسبينوزا أنه ليس في الكون ما هو صالح
أو سيء بالمعنى الدقيق للكلمة، فالعالم بأدق تفاصيله هو هو ولا يكون إلا ما يحتويه،
والحكمة القصوى تكمن بالاندماج عن طريق الفكر مع النظام الخالد والخضوع له. هذه
التصورات الفكرية الآتية من ميدان العلم أو الفلسفة تعبير واضح عن القلق التساؤلي
الذي ينطوي عليه مجرد النظر إلى الكون الواسع من حولنا الذي تعززه الاكتشافات
المتسارعة التي تزيد من حدة شعورنا بالعزلة والفراغ بعد أن انزاح موقعنا المركزي في
الكون. فالكون الذي اعتقدنا لفترة طويلة أنه يخضع لفكرنا الحر ما يزال يشكل إشكالنا
الغامض والمقلق، وهذا ما أراه بالضبط يعبر عن الرغبة المحمومة لدى العلماء لاكتشاف
عالم مشابه لعالمنا في الكون توجد فيه أي علامة من علائم الحياة تخفف من حدة شعورنا
بالعزلة والقلق. ورغبتنا في التواصل مع وعي هي نفسها الرغبة البشرية الأزلية بإثبات
الذات أمام المجهول حيث يقول المؤلف في حقل العلم برادبوري بخصوص رغبتنا في اكتشاف
الحياة على المريخ بأن هذا الاكتشاف لا يستحق أن نلهث وراءه إلا إذا سمحنا له بأن
يقودنا إلى المجاز الأكبر وهو زحف الجنس البشري عبر الشبكية العمياء للكون على أمل
أن يراه أحد وأن يُؤخذ بعين الاعتبار وأن يكون جديرًا بالاعتبار. وهذا التصور ذاته
لا ينفي إمكانية تطويع الكون والنظر إليه ككل يميل إلى البساطة، وهو ما يرغبه الفكر
دائمًا من خلال رغبته في تصور عالم أكثر بساطة وجمالاً. وعندما نقول ما هو الكون
فإننا لا نحتاج إلا للقليل من العناصر والقوى لتوصيفه فكريًا، فهو يتكون من أربعة
قوى هي: الشديدة والضعيفة والكهرطيسية والجذب الثقالي، وأربعة أنواع من الجسيمات
الأولية هي: الهادرونات التي تؤلف البروتون والنيوترون وستة أصناف من الليبيتونات
بالإضافة إلى الفوتون والغرافتون الافتراضي. لذلك كثرت الاتجاهات التي تقول إن
الكون بمجمله يميل إلى البساطة؛ فهو كله وفي كل مكان تقريبًا مؤلف من هيدروجين
وهليوم، وهي أبسط العناصر الكيميائية التي تكوِّن مادة الكون من حولنا. ومن هذا
التصور للكون جاءت نظريات أثرت بدورها في الفكر الفلسفي بقوة نذكر منها قانون
الترموديناميك الثاني الذي جاء به هلمهولتز حيث أكد على ما أسماه بالتوازن الحراري
أو الموت الحراري للكون، حيث كان يدرك المبدأ العام القائل بأن النشاط الفيزيائي في
الكون يميل في النهاية نحو توازن ديناميكي حراري ولا يحتمل أن تحدث بعده أية قيمة
أبدًا، وكان يطلق اسم الموت الحراري للكون الذي سيحدث بعد الانهيار للتفاعل النووي
في قلب النجوم وتحولها إلى كتل جامدة باردة ومظلمة من المادة، وقد كان من المسلم به
أنه يمكن إعادة النشاط إلى المنظومات المستقلة عن طريق تشويشات خارجية، ولكن ليس
هناك خارج بالتعريف بالنسبة للكون نفسه. وقد كان لاكتشاف احتضار العالم كنتيجة
قاسية لقوانين الديناميكة الحرارية الوقع العميق في الفكر الفلسفي حتى وإن كانت هذه
الحوادث ستحدث بعد أعوام لا يمكن تخيل عددها بالسنين حيث قال الفيلسوف والمنطقي
رسل:



أعمال العصور كلها والتقوى كلها والإلهام كله محكوم عليها بالانطفاء في موت شامل
للنظام، ومن داخل هذه الحقائق فقط، وعلى أساس راسخ لعدم الاستسلام لليأس فقط يمكن
من الآن فصاعدًا بناء مسكن الروح بأمل
[12].



ونحن لا يمكننا أن ننكر الدور الخطير للتصورات الكونية في تغيير رؤيتنا الفلسفية
للكون ولطريقة طرح التساؤلات عن وجودنا في الكون، وهذا ما عرفناه في دراسة الثورات
العلمية الكبرى في الكونيات التي لا يمكن أن ننكر فيها دور الحدس والخيال، فقد كان
يُعتقد في الماضي أن الأرض مسطحة والشمس تدور حولها، ومع ذلك وجب علينا منذ أيام
كوبرنيكوس وغاليليو التكيف مع فكرة أن الأرض كروية وتدور حول الشمس، وهذا اقتضى
بدوره تغيير في بنية الفكر الذي يجب أن يتعايش مع حقيقة تخالف ما يراه ويعايشه من
شروق أو غروب للشمس. كذلك كان أمرًا جليًا أن يتدفق الزمن بالمعدل نفسه بالنسبة
للجميع، لكن بعد نظريات أينشتاين في النسبية تبين لنا وعلى نحو يخالف معايشتنا أن
الزمن يسير بمعدلات مختلفة بالنسبة لراصد وآخر
[13].
إنه امتياز حقيقي لعلم الكون الذي يعلمنا أن مركزيتنا المتخيلة لا تعني شيء إلا
بالنسبة لنا نحن المستفيدين على هذا الكوكب فقط. ومن خلال تأملنا للكون فلسفيًا نجد
أن هناك نموذجين قد لا يوافقان أذواقنا، في إحداها نجد أن الكون خلق قبل عشرة أو
عشرين مليار عام وهو يمتد إلى الأبد، والمجرات تتباعد في ما بينها إلى أن تختفي آخر
مجرة منها وراء أفقنا الكوني وعندها يصبح فلكيو المجرات دون عمل، وبعدها ستبرد
النجوم وتموت والمادة نفسها ستتبدد حيث يصبح الكون ضبابيًا وباردًا رقيقًا تسبح به
بعض الجسيمات الأولية التائهة في فضاء هائل الاتساع؛ وفي عالم ثان نجد في المقابل
الكون المتذبذب الذي لا بداية له ولا نهاية بينما نحن موجودون في منتصف دورة
لانهائية بين انفجار عظيم ومن بعده اندماج عظيم دون أن تتسرب أي معلومة عبر طرفي
الذبذبة. أليس الكون وفق التصورين لغز كبير يجد متعة غريبة في تناقض أفكارنا وعدم
ثباتها، خاصة إذا ما عرفنا أنه قبل القرن العشرين الذي جاء بهذين التصورين كان
المناخ الفكري لا يمكن أن يتيح لتصوراتنا المجال بأن نفكر بأن العالم يمكن أن يتوسع
أو أن يتقلص، فقد كان من المقبول عمومًا بأن العالم كان موجودًا منذ الأزل في حالة
سرمدية أو أنه كان قد خُلق في لحظة ما معينة في الماضي على شكل يشبه كثيرًا الشكل
الذي هو عليه اليوم. ويمكن أن نعزو هذا التصور إلى أن الكونيين في تلك الفترة
طاوعوا فكرنا البشري في لحظة من الاطمئنان بعد هزات عدم مركزية الأرض ثم عدم تميز
الإنسان بعد نظرية التطور، للركون إلى الاعتقاد بوجود الحقائق المطلقة، كما يمكن أن
نعزوه إلى الارتياح الذي يشعر به الإنسان عندما يعتقد وهو المخلوق الفاني ورغم كل
العصور بأن العالم الذي صُنع من أجله هو عالم خالد أو مماثل لنفسه على الدوام
[14].
وأوضح دليل على رغبتنا ككائنات عاقلة في البحث عن وضع مميز للبشر في الكون هو ما
نتحدث عنه بالمبدأ البشري، الذي هو تعبير واضح عن الرغبة العميقة ذات الأساس
الفلسفي العميق والتي تؤكد مركزية الإنسان في الكون، ويتجلى هذا المبدأ في أشكال
متعددة، فالمبدأ البشري الذي يسمى بالضعيف يلحظ وحسب أنه إذا كانت قوانين الطبيعة
والثوابت الفيزيائية كسرعة الضوء وشحنة الإلكترون وثابت الجاذبية والكم الميكانيكي
لبلانك قد أصبحت مختلفة فلن نتمكن أبدًا من معرفة الأحداث المُفضية إلى أصل البشر.
وفي ظل ثوابت وقوانين أخرى، لم تكن الذرات لتتماسك مجتمعة وكانت النجوم ستتطور
بسرعة كبيرة لا تتيح للحياة الوقت الكافي للنشوء على الكواكب القريبة، ولم تكن
العناصر الكيميائية التي تتشكل الحياة لتتولد على الإطلاق، وبالتالي فإنه مع قوانين
مختلفة لن يوجد الإنسان الذي هو نحن بالتحديد، وبتعبير آخر فإن ما يرميه هذا المبدأ
بهذه الصورة هو القول بأنه قم بتغيير قوانين الطبيعة وثوابتها، وعندها سوف يظهر لك
كون مختلف تمامًا قد لا يتلاءم في حالات عديدة مع الحياة، وبالتالي فإن مجرد وجودنا
كوعي وحياة يقتضي ضمنًا قيودًا على قوانين الطبيعة، في حين إذا ما نظرنا إلى المبدأ
البشري بمعناه القوي نجده يذهب أبعد من ذلك كثيرًا، فيقول بأن قوانين الطبيعة
وثوابتها تأسست بحيث يأتي البشر إلى الوجود في نهاية المطاف حيث تنتعش عند هذه
الفكرة من جديد الفكرة الفلسفية الغائية القديمة التي تقول بأن الكون وجد من أجلنا
فقط
[15].
وبالمحصلة نرى أن منظومات العالم المختلفة التي أنشئها الفكر المبدع علميًا أو
فلسفيًا طمحت إلى وصف العالم كله، لكنها لم تكن في واقع الأمر سوى محاولة لتفسير
نظم فلكية محدودة. فنظام العالم الذي وصفه أرسطو ثم بطليموس عكس سمات الأرض بصفتها
جرمًا فلكيًا كروي الشكل تدور الأفلاك حوله، ثم جاء نظام كوبرنيكوس ليمثل نمطًا
لنظم فلكية محدودة هي النظام الشمسي، وبعده جاء هرشل الذي كون نمطًا لمجرتنا، ونحن
الآن ندرس ما في الكون ومجراته، وقد يكون وصفنا لحشود المجرات
[16]
هو تصور لجزء بسيط من عالم متعدد ومتداخل لدرجة لا يمكن تصورها على الأقل حتى الآن،
ولكننا مع ذلك نستطيع أن نتلمس الفرق الكبير بين تصورات الكون فلسفيًا بين الفكر
قديمًا وحديثًا، فالفرق الكبير بين أفكار أرسطو وأفكار علماء فلاسفة كغاليليو،
فأرسطو كان يعتقد بحالة فضلى هي السكون يلتزم بها كل جسم حر من تأثير أي قوى دافعة،
وبصور خاصة كان يعتقد بأن الأرض ساكنة، لأن الحالة المثلى هي حالة السكون، بالمقابل
نجد قوانين نيوتن تفيد بعدم وجود معيار أوحد للسكون، فنحن نستطيع أن نقول سواء
بسواء بأن الجسم (أ) متحرك بالنسبة للجسم (ب) بسرعة ثابتة أو العكس، وبالتالي فإننا
نستطيع مثلاً لو ضربنا صفحًا عن دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس أن نقول بأن
الأرض ساكنة والقطار يسير على سطحها نحو الشمال بسرعة 150 كلم في الساعة أو نقول
بأن القطار ساكن والأرض تتحرك نحو الجنوب بسرعة 150 كلم في الساعة
[17]،
أما الأمر في النسبية بالنسبة للحركة يبدو كالتالي: إن مفهوم الحركة نسبي ولا يمكن
أن نتكلم عن حركة جسم إلا بالنسبة لحركة جسم آخر، ومن هذا الاعتبار لا معنى لعبارة
أن كائن ما ينتقل بسرعة 10 أميال في الساعة حيث أننا لم نحدد أي جسم آخر للمقارنة،
ولكن هناك معنى للعبارة "ينتقل الكائن بسرعة عشرة أميال بالساعة بالنسبة لكائن آخر"
كما أن هذا الكائن ينتقل بسرعة عشر أميال بالنسبة للكائن الأول، وعليه لا يوجد
مفهوم مطلق للحركة فالحركة كلها نسبية
[18]،
وبالتالي يبدو أن تطور الفكر العلمي ينتقل من المركزية التي انطلق منها أرسطو إلى
تعدد المراجع التي تحدث عنها نيوتن ثم إلى نسبية القيم المعرفية وهو ما تحدثت عنه
النسبية عند أينشتاين، مع العلم بأن التصورات الثلاثة لم تلغي بتاتًا مفهوم الحتمية
في الكون، فعند أرسطو قيم المعرفة واحدة دون النظر إلى اختلاف المراجع وعند نيوتن
قيم المعرفة واحدة لكنها ترتبط بالمراجع التي تراقبها أما عند أينشتاين فإن قيم
المعرفة تتغير بتغير المراجع.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

الكونيات والفلسفة :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

الكونيات والفلسفة

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» الكونيات والفلسفة
» العلم والتقنية والفلسفة
» بين الظلامية والفلسفة
» بين الظلامية والفلسفة
» الموت بين الأسطورة والفلسفة

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: