العقل التاريخيّ وإشكاليّات التّحديث:
قسطنطين زريق وعبد الله العروي أنموذجين
باسم المكي
لقد تعدّدت الدراسات المهتمّة
بالظاهرة التاريخيّة وتنوّعت، غير أنّ ما يلفت الانتباه تركيز معظمها على
مواضيع مخصوصة من قبيل قضيّة نشأة علم التاريخ عند العرب أو دراسة أعمال
المؤرّخين وممارساتهم التاريخيّة. وظلّت البحوث المخصّصة لاستجلاء الرؤى
التاريخيّة السائدة في الثقافة العربيّة الإسلاميّة وتبيّن أسسها المعرفيّة
تشكو نقصاً واضحاً. لذلك نروم في هذا البحث النّظر في سيرورة تشكّل الوعي
بالظاهرة التاريخيّة عند العرب واستخلاص أهمّ الرؤى السائدة قديماً من جهة
ونطمح إلى دراسة أهمّ الإسهامات السّاعية إلى تحديث نظرة العرب إلى التاريخ
من جهة أخرى. فقُسِّم العمل إلى محورين رئيسين. اهتممنا في المحور الأوّل
بتطوّر العقل التاريخيّ عند العرب، وبحثنا في مؤثّرات النشأة وسعينا إلى
استجلاء مختلف الرؤى التاريخيّة السائدة عندهم. أمّا المحور الثّاني
فخصصناه للنّظر في جملة من المحاولات النّاقدة لهذه الرؤى القديمة والهادفة
إلى تحديثها. وقد اهتممنا في هذا المحور بفكر كلّ من قسطنطين زريق من خلال
كتابه «نحن والتاريخ» وعبد الله العروي من خلال كتابه «العرب والفكر
التاريخيّ».
I. مراحل تشكّل العقل التاريخيّ عند العرب
إنّ البحث في تصوّر العرب
للتاريخ هو بحث يتناول تصوّر جماعة مّا للتاريخ البشريّ عامّة ولتاريخها
خاصّة. و هذا التصوّر مرتبط بالتّساؤل عن حقيقة الوجود الإنسانيّ. وهو
تساؤل يُصاغُ في من أين؟ ولماذا؟ وإلى أين؟ ولا ريب في أنّ هذه الفكرة
تُعتبر ملازمة لكلّ جماعة بشريّة لكنّها تتكيّف وَفق إدراك الجماعة
لهويّتها الذّاتيّة لأنّ التاريخ جزء من الهويّة. فكلّ شعب يؤرّخ ذاته. ولا
جدال في أنّ هذه الفكرة تنمو وتتطوّر بتطوّر الحاجات الاجتماعيّة
والثقافيّة لمجموعة بشريّة مّا. ولعلّ من المتّفق عليه بين الباحثين أنّ
الأسطورة تمثّل المنطلق الوصفيّ الذي يُعدّ أوّل محاولة لتفسير لغز الوجود
فهي نظام فكريّ منسجم ومتكامل وله معقوليّته الخاصّة. ولعلّ أهمّ سمة من
سمات هذا التفكير الأسطوريّ تتمثّل في الخلط بين الفعل الإنسانيّ وتأثير
القوى الغيبيّة فيه. وقد كان عرب الجزيرة في ما قبل الإسلام ينخرطون في هذا
التّصوّر الأسطوريّ فكان التاريخ عندهم فعلاً بشريًّا يُمزج بالخيال
الأسطوريّ ويوظّف لغايات اجتماعيّة وثقافيّة.
ويمكن القول إنّ فكرة العرب عن
التاريخ قد تطوّرت تطوّراً ملحوظاً مع الحدث الإسلاميّ. فقد حصلت نقلة
نوعيّة في تصوّرهم إذ نلحظ بروز المقوّمات الأساسيّة لنشأة علم التاريخ.
فقد توفّرت الأبعاد الثّلاثيّة للفعل التاريخيّ والمتمثّلة في البعد
المكانيّ والبعد الزمانيّ والحدث. فالتاريخ مكان وزمان وحدث. ولقد كان
لفكرة التاريخ في القرآن دورٌ مهمّ في تطوّر هذا الوعي التاريخيّ. فقد
اهتمّ النّصّ القرآنيّ بقصص الأمم السائدة من عاد وثمود وقوم صالح… وقد رسم
خطًّا تطوّريًّا للزمن بدأ بخلق الكون وظهور آدم وينتهي بحياة أخرويّة بعد
الممات، ونجد فيه إقراراً بمسؤوليّة الإنسان في الأرض. ولعلّ هذا الإقرار
يُعَدُّ مدخلاً أساسيًّا لاعتبار التاريخ فعلاً إنسانيًّا يقع في إطار
زمانيّ ومكانيّ. وفضلاً عن ذلك فقد حرص القرآن على التّمييز بين «أساطير
الأوّلين» والحقيقة التاريخيّة. لذلك شَعُرَ المسلمون بأنّهم يمتلكون وحدهم
الحقيقة التاريخيّة، وهو أمر تفطّن إليه العروي في قوله: ”ولذلك سيعتقد
العرب مدّة طويلة ويفخروا أنّهم وحدهم شعب تاريخ والشّعوب الأخرى تملك فقط
حكايات لا يجد اليقين إليها سبيلاً“.
وإجمالاً، فإنّ الوعي التاريخيّ عند العرب قد تأثّر بعاملين أساسيّين هما:
-
العامل الدينيّ:
فقد ارتبط التاريخ عندهم بالمحافظة على التراث الدينيّ ونقله إلى الأجيال
اللاّحقة. لذلك التصق التاريخ في نشأته بالخبر والحديث. فكان جمع السّيرة
ومغازي الرسول أهمّ ما سعى إليه الإخباريّون في المرحلة الأولى.
-
والعامل السياسيّ:
لقد ارتبط التاريخ أساساً ببداية تكوين الأمّة الإسلاميّة. وقد أثّر
العامل السياسيّ في رؤية المؤرّخ. فظهرت من ثمّة رؤية ساعية إلى توحيد
الرواية لتأسيس رواية رسميّة لتاريخ الأمّة. وبرزت في المقابل رؤى مذهبيّة
حاولت فيها كلّ طائفة أن تؤرّخ لذاتها. ولعلّ أكبر دليل على ذلك تواصل
الكتابة في الأنساب وأيّام العرب.
ولعلّ ما يمكن استنتاجه من هذه
الفترة الجنينيّة لعلم التاريخ هو أنّ منابع المعرفة التاريخيّة عند
المسلمين كانت متأصّلة في الثقافة العربيّة الإسلاميّة، إذ أحوجت إليها
حاجات دينيّة وسياسيّة وثقافيّة دعّمها إيجاد تقويم هجريّ في عهد الخليفة
الثّاني عمر بن الخطّاب. وهو ما يؤكّده العروي بقوله: ”إنّ تأليف التاريخ
الإسلاميّ من إبداع العرب. لقد فشلت المحاولات للعثور على مؤثّرات خارجيّة
يونانيّة أو فارسيّة [...] ليس التاريخ الإسلاميّ نقلاً أو اقتباساً أو
استعارة من الغير“.
ولقد زادت مرحلة التّدوين
تثبيتاً لهذا العلم. فخارج التّدوين لا يمكن الحديث عن علم من العلوم.
فالتّدوين تثبيت للذّاكرة وانتقاء صيغة من جملة صيغ محتملة. غير أنّ الوعي
بالظاهرة التاريخيّة في الفترة الأولى بدا جنينيًّا إذ كان التاريخ في
نشأته مرتبطاً بجمع الأخبار ونقل الرّوايات المختلفة. والتاريخ ليس جمعاً
ولا تكديساً للمرويّات وإنّما هو سعي لبناء الماضي بناءً متماسكاً توظّف
فيه الأخبار رغم اختلافها وتناقضها أحياناً. وقد سعى مؤرّخو القرن الثالث
إلى تطوير الكتابة التاريخيّة. ويمكن إجمال أهمّ سمات هذا التطوّر في جملة
من الآليّات:
-
ظهور النزعة التأليفيّة: فقد حاولوا التّأليف بين مختلف الأخبار المتفرّقة التي وفّرها الجيل الأوّل.
-
إدخال السيرورة الزمنيّة:
فالتاريخ تعاقب وتسلسل في الأحداث. وهذه الظاهرة كانت غائبة في أعمال
الجيل الأوّل من الإخباريّين. ولعلّ المتفحّص لتاريخ الطبري يلحظ الجهد
الواضح في التبويب والتحقيب. فقد أخضع المؤرّخ تصوّره للتاريخ لرؤية زمنيّة
مخصوصة سمحت له بإبراز التسلسل الزمنيّ للأحداث التاريخيّة.
-
نقد الروايات:
لئن اقتصر الجيل الأوّل على جمع المادّة الخام فإنّ مؤرّخي القرن الثالث
قد أعملوا الفكر في هذه المادّة وأخضعوها لمقاييس نقديّة اختلفت من مؤرّخ
إلى آخر.
وقد أفرزت هذه الكتابات وعياً
جليًّا بالظاهرة التاريخيّة، إذ أفضت جهود الطبري (تـ 310 ﻫ) والمسعودي (تـ
345 ﻫ) واليعقوبي (تـ 292 ﻫ) إلى تحقيق ما يسمّى بـ«تاريخ الأمّة
الإسلاميّة». فالطبري مثلاً يحقّق في كتابه نوعاً من الإجماع إذ يبتعد عن
المواقف المغالية وينحو نحو الاعتدال. وهو بذلك يسعى إلى تقريب الشقّة بين
أفراد الأمّة، غير أنّ الوعي بتاريخ الأمّة الإسلاميّة لم يمنع الطبري
والمسعودي مثلاً من العناية بتاريخ الأمم الأخرى المنضوية تحت راية الإسلام
من قبيل الهنود والفرس. لذلك فقد نحا التاريخ عندهم نحو الكونيّة. وقد
ساهمت هذه الرؤية الانفتاحيّة في ازدهار علم التاريخ فانفتح على تجارب
الأمم الأخرى واستثمر جملة من العلوم المختلفة. فقد استفاد مسكويه (تـ 421
ﻫ) من الفلسفة في «تجارب الأمم» ووظّف المسعودي علم الجغرافيا في «مروج
الذهب»، وظهرت النظرة الإثنيّة الفلسفيّة عند أبي الريحان البيروني (تـ 440
ﻫ) في كتابه «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة».
فتجذّر، من ثمّة، الوعي التاريخيّ عند العرب. فلم يعد التاريخ خبراً ينقل
وإنّما أصبح خبراً يُنقد، ولم يعد المؤرّخ يسعى إلى تأسيس تاريخ للأمّة
فحسب، بل أصبح منفتحاً على التاريخ الكونيّ. وتحوّل التاريخ إلى مجال للبحث
والمعرفة والإضافة.
إنّ هذه النزعة الإنسيّة
(Humaniste) هي التي أنتجت الفكر الخلدونيّ. فقد حاول ابن خلدون (1332 م –
1406 م) في «المقدّمة» أن يستخلص من الأحداث المحلّيّة قانوناً كلّيًّا
صالحاً لكلّ الحضارات. فحرص على القيام بدراسة عقليّة للتاريخ يحصر فيها ما
هو ثابت ويستجلي ما هو متحوّل في الحضارات. وقد سعى منذ الفصل الأوّل من
«المقدّمة» «في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرّخين
من المغالط وذكر شيء من أسبابها» إلى مراجعة عمل من سبقه من المؤرّخين.
فقسّم المؤرّخين إلى أربعة أصناف:
- الصنف الأوّل وهم الفحول.
- الصنف الثّاني وهم المتطفّلون على التاريخ.
- الصنف الثالث وهم المقلّدون.
- الصنف الرابع وهم المختصرون.
وقد سعى ابن خلدون في المقدّمة
إلى نقد كلّ صنف من هذه الأصناف. فعند تطرّقه إلى الفحول بَيَّنَ قلّة
عددهم: ”هم قليلون لا يكادون يجاوزن عدد الأنامل ولا حركات العوامل“. ويحصر
ابن خلدون فضلَ الفحول في تأسيس العلم وتدوينه ”وإنّ فحولَ المؤرّخين في
الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيّام وجمعوها وسطّروها في صفحات الدفاتر
وأودعوها“. أمّا الفضيلة الثانية فتتمثّل في أمانة النقل حتّى ”ذهبوا بفضل
الشُّهرة والإمامة المعتبرة“. وفضلاً عن ذلك فإنّه يعترف لهم بفضل إدراك
معنى التاريخ الكونيّ ”ثمّ إنّ أكثر التواريخ لهؤلاء عامّةُ المناهج
والمسالك لعموم الدولتين صدر الإسلام في الآفاق والممالك وتناولها البعيد
من الغايات في المآخذ والمتارك ومن هؤلاء من استوعب ما قبل الملّة من الدول
والأمم والأمر العَمَم كالمسعودي ومن نحا منحاه“. غير أنّ ذكر هذه الفضائل
لم يمنع ابن خلدون من توجيه النقد لما أنجزوه، ويمكن إجمال نقده في ثلاثة
مستويات:
1. المستوى المعرفيّ: فقد
اتّهمهم بأنّهم يقتصرون على سرد الأحداث أي اعتبارهم التاريخ مجموعة أخبار.
والتاريخ عند ابن خلدون ليس مجرّد ذكر للأخبار وإنّما هو ”نظر وتحقيق“.
وفضلاً عن ذلك فقد انتقدهم في اعتمادهم النقل ومنهجيّة الإسناد ممّا أوقعهم
في أخطاء منهجيّة، إذ لكلّ علم منهجه المخصوص. إنّ اعتماد المؤرّخ لمنهج
علماء الحديث قد تسبّب في قبول مرويّات غير معقولة. لذلك فإنّ غياب إعمال
العقل عندهم قد دفعهم إلى الخلط بين ما هو ممكن الوقوع وما هو مستحيل
الوقوع فكان الخلل في المنهج مؤدّياً إلى الخلل في التّصوّر. ولهذا السّبب
اشترط ابن خلدون اعتماد قانون المطابقة بين ما وقع وما نُقل عن السلف. وقد
كانت نتيجة تحكيم هذا القانون مراجعة الكثير من المرويّات من قبيل أسباب
نكبة البرامكة والشكّ في عدد جنود موسى…
2. المستوى الثّاني: خطأ
الذاتيّة والانحياز والتعصّب المذهبيّ. فقد لاحظ ابن خلدون أنّ المؤرّخين
ينقلون من الأخبار ما يتلاءم ومذهبهم وهم بذلك يخلّون بشرط أساسيّ من شروط
الكتابة الموضوعيّة.
3. المستوى الثالث: الولع بذكر
الغريب والعجيب والتأثّر بالشائعات. ولقد زادت حدّة هذا الأمر خاصّة مع
المتطفّلين على التاريخ ”والتطفّل على الفنون عريضٌ طويل“. ويضاف إلى
المتطفّلين طائفة أخرى من المقلّدين الذين يتّسمون بضعف الملكة النقديّة
وقد وصفهم ابن خلدون ببلادة الطبع والعقل.
لقد حرص ابن خلدون على تأسيس
منهج عقليّ للكتابة التاريخيّة تَقوم أسسه على المطابقة بين الخبر والواقع
والموضوعيّة في نقل الأحداث والانفتاح على تجارب بقيّة الأمم.
ولكن إذا كان ابن خلدون وريثَ
هذا الانفتاح في الرؤية التاريخيّة وكان امتداداً لهذا الخطّ المنفتح على
العالم وعلى بقيّة العلوم فلِمَ نجده ينقد المؤرّخين نقداً لاذعاً؟ ولِمَ
يقلّل من عدد الفحول؟ ولِمَ يذكر التقليد والاختصار في كتب التاريخ حتّى
أنّ قارئ «المقدّمة» يتّضح له دون أدنى شكّ أنّ ابن خلدون قد ساءه تدنّي
الأوضاع المعرفيّة في عصره حتّى بدا عمله محاولة لإنقاذ علم التاريخ؟ فهل
يعني هذا أنّ خطأ مّا في تاريخ الأفكار قد حصل وتراجعاً في الوعي التاريخيّ
قد وقع؟