كان لنا جلسة مع مجموعة من الشباب والفتيات
الجامعيين منذ أسبوعين في مدينة حمص، ومعهم عدد من
الباحثين والمثقفين وقد كُرّست الجلسة لمناقشة
قضية مركزية اختارها أولئك أو بعضهم وهي: الثقافة
العربية وموقع قضية التراث العربي فيها راهناً.
والحق إنني اكتشفت دليلاً جديداً عميقاً على أن
الثقافة العربية المتداولة، وإنْ وجدت في العقود
الأربعة المنصرمة ضربة عميقة على أيدي رهط من
الكتّاب الاستغرابيين والأصوليين الإسلاميين
وغيرهم. إلا أنها ظلت في حالة نسبية من الديمومة
والتوهج في نطاق الوعي الثقافي العمومي. وهذا بحد
ذاته، أمر يمثل مفارقة منطقية ونظرية تاريخية،
تمتلك من الواقعية ما يجعلها مسألة تقتضي إخضاعها
لفحص علمي نقدي، ومن مواقع نظرية الثقافة وتاريخ
الثقافة ونظرية الثقافة المقارنة في علاقاتها مع
الدراسات الإناسية (الانتروبولوجية).
كان الحوار يميل لأن يأخذ أبعاداً متعددة بين
الحضور وبيني، ولكنني عملتُ على ضبطه في مسألتين
اثنتين كبريين، هما أولاً تحديد الثقافة العربية
في ضوء التساؤل فيما إذا كانت هذه الثقافة تمثل
بنية "مفتوحة" أم هي تنتمي إلى ما يدعوه البعض
"الزمن الثقافي الراكد". أما المسألة الثانية وهذه
تأتي تكملة للتساؤل السابق، فتتصل بضبط "التراث
العربي" من موقع تلك الثقافة العربية في بنيتها
"المفتوحة" أو "المغلقة- الراكدة".
وقد قدم شابان وفتاتان نتائج دراسات استطلاعية
قاموا بها في بعض أحياء مدينة حمص الشعبية كحلقات
بحوث مطلوبة منهم جامعياً، وكذلك بهدف طرحها في
هذا اللقاء، وكانت الفكرة المركزية في تلك النتائج
بمثابة إشارة إلى أن ثلاثة وعشرين رجلاً وامرأة من
أصل ثلاثين أجابوا بأن الثقافة العربية كما
يفهمونها، أي بوصفها مجموعة من القواعد والضوابط
للحياة الاجتماعية والعقلية، ليست راكدة وليست
مغلقة، ولا يمكن أن تكون كذلك إلا نسبياً. وقد
شددت فتاة باحثة على أن تلك القواعد والضوابط تبحث
لنفسها عن مواقع حتى في النسيج الفكري الديني أو
الأسطوري، وإلا تتوقف عمليات التجادل بين الواقع
والفكر، مما يُفضي إلى إنتاج بشر من قبيل
العجماوات.
كان ذلك إسهاماً من قِبل الحضور في الإجابة عن
التساؤل حول الثقافة العربية، أهي راكدة مغلقة، أم
هي مفتوحة متحركة، وكل ذلك بالمعنى النسبي
التاريخي بل اتضح من سياق الحوار أن من يقول من
الكتاب والباحثين العرب بأن الثقافة العربية "ذات
زمن واحد منذ أن تشكلت إلى اليوم"، أو بأنها -
خصوصاً حين تكون ناتجة عن "العامة"- لا تحتاج أكثر
من أن نقذف بها إلى النار، إنما هو واحد من ثلاثة:
أن يكون سلك مسلك المستشرقين القدامى والجدد
النافخين في نار العرقية خصوصاً بين الغرب والشرق،
أو أن يكون ذا اختيار منهجي زائف يُقصي مفاهيم
التاريخية والخصوصية والعقلانية النسبية، أو أن
يكون ذا مرجعية إثنية باطنية لا يُفصح عنها، ولكن
تبقى في الخافية، وما أكثر هذه المرجعيات التي
يُحملها أصحابها أكثر مما تحمل، ومنها مثلاً
الفرعونية والبربرية والسورية.
وكان واضحاً لدى المتحاورين أن مَنْ ينظر إلى
الثقافة "العربية" على ذلك النحو، لا يملك المعرفة
بتاريخها، خصوصاً كما فهمها الأوروبيون
أنفسهم.
كان (بتْرارْك)، الأديب التنويري الكبير من
إيطاليا الحديثة (20/7/1304 - 18/7/1374) واحداً
من هؤلاء، وقد أعلن ما يلي متسائلاً بدهشة نقدية
فيما إذا كان الإيطاليون عاجزين عن مضاهاة العرب،
وهم الذين ضاهوا اليونان والرومان: "ماذا تقولون؟
استطاع شيشرون أن يكون خطيباً بعد ديموستين، وصار
فيرجيل شاعراً بعد هوميروس، وأنتم تتوهمون مع ذلك
بأنه لن ينبغ أحد بعد العرب! نحن قد ضاهينا
اليونان، حتى أننا سبقناهم في بعض الأحيان،
وضاهينا وسبقنا بذلك الأمم جميعها، وأنتم تقولون
الآن: إننا لن نضاهي العرب! هل تحدَّرت عبقرية
الطليان وخَبَتْ إلى هذا الحد؟
وثمة - في الشق الثاني من الجلسة مع مَنْ
يُراهَن عليهم في المشروع العربي النهضوي
التنويري، ملاحظة أطلقها بعض هؤلاء: إذن، هنالك
عنصر خطير من الحصار المضروب على الثقافة العربية
متحدر من مثقفين وباحثين "عرب" يشككون بجدوى
"عروبة" الفكر العربي، وبهذا النحو تمت معالجة
المسألة الثانية في الجلسة المذكورة. وقد كثفنا
القول الأوّلي في ذلك بأن ضبط قضية التراث العربي
يبدأ بضبط مقولة الثقافة العربية، على نحو ما
ذكرنا: ذلك أن تلك القضية هي- في هذا السياق -
ليست قضية التراث المذكور، وإنما هي قضية من
يقرأها، أي المثقف بالثقافة العربية.