15
أغسطس
الإنسان الرقمي مقاربة أنثروبولوجية م. بوطقوقة علي هاشمفيما يلي محاولة لتقديم تصور أولي عن طبيعة الإنسان
الرقمي/السيبراني (السايبورج) ، من منظور الأنثروبولوجيا ، مبتدئاً بتحديد
مقارباتها المنهجية ، مسقطاً هذه المقاربات على الواقع الخائلي ، وأخيراً ،
مقدّماً مطالعة لإشكالية من سؤالين ، دون أن أعلن جواباً خاتماً ، بل هي
مجرد مطالعة على مسار البحث الطويل .
يمكن تعريف الأنثروبولوجيا بأنها دراسة الإنسانية ، فهي تهتم
بالإنسان في الماضي والحاضر ، بمعزل عن مستوى تطوره التكنولوجي ، وتهتم
أيضاً بالنواحي : البيولوجية ، اللغوية ، التكنولوجية ، الفنية ، السياسية ،
الدينية ، وكل الأبعاد الأخرى للحياة الإنسانية .[1]
مرّ هذا العلم الذي نشأ حديثاً في القرن التاسع عشر[2] ، بكثير من المحطات والتنوعات[3] ، ويعتمد منظوره على ثلاث دعامات أساسية[4] :
المنظور الشمولي : هو النظر في جميع الترابطات والتشابكات بين الأجزاء ، ومحاولة فهمها في سياق الكل .
المنظور المقارن : إن السبب الرئيسي الذي يدفع الأنثروبولوجيين للإصرار على
هذا المنظور بسيط ، إذ بدون مقارنة الثقافات ببعضها ، لا يمكننا أن نكتشف
إن كانت بعض السلوكيات (أو العادات) هي خاصية لهذه الثقافة فقط ، أم لبعض
الثقافات ، أم هي صفة عالمية ! وبدون هذه المعرفة ، لا يمكننا أن نعرف
سببية وجود هذا السلوك (أو العادة) . بإختصار ، إن التعميمات عن الإنسانية
هي خاطئة إلا إذا أخذت بالحسبان المدى العريض للتنوع الثقافي .
المنظور النسبي : النسبية الثقافية تعني أنه لا وجود لثقافة أدنى أو أرقى
من ثقافة أخرى ، وعند دراسة الثقافة لا يقوم الأنثروبولوجيون بتقييم
سلوكيات أفراد الثقافة المدروسة تبعاً لمعايير وقيم ثقافة الدارسين .
السؤال الآن ، كيف يمكن أن تساعد هذه المناظير في العصر
الرقمي ؟ وهل هناك حاجة لمناظير مستحدثة توافق البيئة الرقمية الجديدة ؟
وكيف نفهم من خلالها الإنسان الرقمي ؟ ومجال الدراسة الأنثروبولوجية ؟!
إذا تأملنا المنظور الأول ، نجده يتحدث عن رؤية الأشجار وبذات
الوقت تأمل هذه المجموعة من الأشجار كغابة . وضمن المجتمعات السيبرانية
بتشابكاتها المركبة والمعقدة ، هذا المنظور ضروري ولازب . إذ لا يمكن فهم
الفرادة والخصوصية ، دون فهم الصورة الأشمل ، ودون نمذجة مجموع التعقيد
(والفوضى الظاهرة) في صورة نظام يظهر جلياً في قدرته على تبسيط المعقد في
سلسلة منظمة من الترابطات والبنى ، تسمح للباحث بقراءتها ، فهمها ،
وتحليلها .
المنظور الثاني يقيم مقارنة دائمة بين الواقعي والخائلي ،
وأيضاً بين المجتمعات السيبرانية المختلفة ، في ما تقدمه وما تطرحه ،
وكيفية تشكيلها للهويات السيبرانية ، وكيف يقوم المشتركون السيبرانيون
بتشكيلها الدائم عبر طرق إستخدامهم المختلفة .
إن التنوع الثقافي ضمن المجتمع الواقعي ينعكس بكامل تجلياته
في المجتمع الخائلي ، فيعتمد المشتركون السيبرانيون (عبر إستخدام ذات
التقنية) تشكيلات ومقاربات مختلفة تبعاً لواقعهم وبيئتهم ، تبعاً لثقافتهم .
من الأمثلة إستخدام الجوال ، أو إستخدام “تويتر” و”فيسبوك” . إن مؤسسي
موقع “فيسبوك”[5] لم يكن من بين أهدافهم إستخدامه كمحركٍ سياسيٍ ، أو في
إعتباره مؤسس (أو ساعد على تأسيس) ثورة ! لم ينظروا إلى صفحاته (أو
مجموعاته) بإعتبارها أحزاباً سياسية “سيبرانية” تستدعي تواصلاً وتنظيماً
وإرتقاءً في الفعل السياسي عبر الحوار والحشد والتأسيس لأفكار الحرية
والمشاركة والعدالة ، لم ينظروا إليه كأداة تسمح للشعب بأن ينظر إلى نفسه
كقوة ، تسمح للشعب بإستعادة هويته فكرامته فيصرخ مطالباً بإسقاط من سلبه
الهوية ! كل هذه التشكيلات المتنوعة ، تختلف من مكان إلى آخر ، تبعاً
للحاجات والإتجاهات ، تبعاً للثقافات .
المنظور الثالث النسبي ، يقترب من الثاني عبر إضفاء فكرة
التنوع ، من خلال قراءة الوقائع من وجهة نظر حامليها ومحركيها ، هذا في
البدء ، ليتسنى لاحقاً للباحث أن يحلل البنى ، ويفهم المجريات ، دون أن
يضفي عليها خياراته وقيمه ، ودون أن يفاضل بينها وبين ثقافته .
يعايش الباحث الوقائع مع من يدرسهم ، فيفهم إنفعالاتهم
وسلوكياتهم ، وبالتالي يكوّن تصوراته عما يظنه معتقداتهم وقيمهم التي
تحركهم . بعدها ، يحلّلها ، ويقارن بينها وبين تجارب ضمن ثقافات أخرى ،
ليقدم صورة أشمل لغابة العلاقات والتشابكات .
وعلى الشبكة العنكبوتية ، نفهم أكثر ضرورة مثل هذا المنظار ،
الذي أبدل القيم الخاصة الواقعية ، بقيم خائلية خاصة بالمجتمع السيبراني ،
هي أشمل وأبسط ، وتتوافق مع طيف واسع من الثقافات الواقعية التي أوجدت لها
هوامش تَلاقُح ، يتكثّف كل لحظة ، مع إزدياد المشتركين السيبرانيين ، إذ
تخطى عدد “الفيسبوكيين” عتبة 830 مليوناً [6] ، ووصل عددهم في لبنان إلى
1444200 [7] .
أضحت القيم تتشكل كل لحظة أثناء التواصل السيبراني ، ولم يعد
من الممكن إيقاف طبيعة هكذا تلاقح ، إلا عبر منع التواصل من الأساس ! ما
سبق وأخذ عقوداً لينتشر (دخول أول تلفاز في الستينيات على سبيل المثال)
ينتشر اليوم بأيام وأحياناً ساعات (عبر يوتيوب مثلاً) .
بعد هذا العرض ، لا بد أن أسأل :
ما الذي أدخلته التقانة الحديثة على تعريف الطبيعة البشرية ؟ وما الذي غيرته فيها ؟
الإنسان العاقل (homo sapiens) هو ما يدرسه
الأنثروبولوجيون[8] ، ومحاولة تفكيك طبيعة الإنسان ، محاولة فك ألغازها
وشيفرتها ، هو مسعى العلم والفلسفة ، وكل ضمن حقل إختصاصه (الجينوم البشري
مثال من ضمن البيولوجيا) . ومع دخول التكنولوجيا وإستخدامها بهذا الشكل
المتسارع والشامل ، بدأنا نخطو حثيثاً نحو إنسان (وطبيعة) مختلفة ، هو
تزاوج بين الإنسان والآلة ، الإنسالة ! الإنسان-الروبوت ، الذكاء الإصطناعي
العضوي ، الآلة التي تفكر وتشعر .
إن هذا التزاوج يؤسس للإنسان السيبراني/الرقمي ، الذي أُطلق
عليه مصطلح “السايبورج” (cyborg)[9] ، هذا الإنسان المابعد إنسان
(posthuman) ، أو السوبرمان (superman) بتعبير نيتشه[10] هو ذو طبيعة
إنسالية مختلفة .
إذا أمكن توسيع مقدرات العقل البشري عبر زرع شرائح إلكترونية
فيه ، إذا أمكن إسترجاع المعلومات وتخزينها أسرع من قبل[11] ألا يؤسس هذا
لوقائع وطبائع جديدة ؟!
إنّ تواصلنا مع الآلة (جوال ، حاسوب ، إنترنت) ألا يدفعها لأن
تكون جزءاً ممتداً لنا ، ولأفكارنا ، ومشاعرنا ، فنكرهها ، ونحبها ! ألا
تؤثر في طبائعنا ، ألا تكوّن جزءاً من ذاكرتنا ؟ وألا يمكننا القول أن جميع
من في لائحة أصدقائنا هم معنا دوماً وعلى بُعد نقرة ![12]
ما الذي تغير في الإنسان بعد أن أصبح سيبرانياً ؟! وهل ما زال إنساناً ؟
الكائن السيبراني ، أو بتعبير آخر السايبورج ، هو تطور آخر
(بالمعنى الدارويني) للإنسان . لم يعد الإنسان إنساناً ، إستخدامه للتقنية
غيّره ، فَنَحَتَه إنسالة ! أو هذا ما سيحدث …!
ما الذي سيتغيّر بالإنسان ؟ في عالم المابعديات[13] لم يتبق
شيء من القديم …! أو هي مصالحة وربما محاولة مواءمة القديم مع الجديد ، فما
كان تضاداً (أو تناقضاً) أضحى في عالم اليوم ثنائية متكاملة ، في عالم
المابعد ، عودة للطاو برمزه الأشهر الين واليانغ ! وهذا ما تشهده المجتمعات
الخائلية .
ثقافات قديمة ، أخذ بالثأر ، الشرف ، العرض ، الأرض ، الثورة ،
الحرية ، الشعب ، العدالة ، الصداقة ، الحب ، الزواج ، العلاقات ، الموت ،
الروح ، الحياة ، الخير ، الشر ، الدين ، هذا مجرد تداعي لبعض الأفكار
التي تتبدل معانيها ، وبحاجة لتحديدات معرفية وإصطلاحية جديدة .
وإذا نزعنا عن الثقافة ما يشكّلها ، ما يميّزها .. هل تبقى هي
؟ وأساساً هل تبقى ثقافة ؟! أو ربما مابعد ثقافة ! وإذا دمجناها مع مختلف
الثقافات في مجتمع سيبراني مشكّلين ثقافة خائلية جديدة ، ألا نؤسّس بذلك
لأول بذور القرية الكونية ؟ وبالتالي لإنتفاء التنوع ! فإنتفاء الهوية !
ما الذي يبقى من الإنسان في عصر المابعد إنسان ؟ وهل يمكن أن نطلق على السايبورج مصطلح إنسان ؟!
قبل ذلك ، أو بعده ، هل تشكّلنا التقانة بهذه السرعة ؟! وهل نتغيّر بذات السرعة ؟!
هل نستخدمها ككل واحد ، أم أننا نمارس عليها ومن خلالها خصوصيتنا ، ثقافتنا ، هويتنا ؟!
الإنسان في عصر المابعد ، يسأل سؤال الهوية الأبدي : من أنا ؟!!